ما بين قيدين: رعوي وحضري: انفصام أم تكامل؟ (1-3) ..

اطلعت منذ فترة على مقالات رصينة لصديقي العزيز الدكتور النور حمد والتي اختار لها عنوانا جذابا، كدأبه أبدا، هو “التغيير والقيد الرعوي”. وأحرص على ألا تفوتني مقالة من مقالات الأخ النور أو كتاب من كتبه وذلك لرصانة فكره وأصالة آرائه التي ينثرها بالكثير من الشفافية والجرأة والإقدام، وهذا ما نحتاجه لنخرج به من ورطتنا الراهنة. ولا شك أن كل من اطلع على كتابه الأشهر “مهارب المبدعين” يوافقني على ذلك.
كما اطلعت على المقالات العشر بذات العنوان التي بعث بها الي الأخ الدكتور النور، وعلى تعقيب صديقنا وأخينا الأكبر الأستاذ عبد الله علي إبراهيم على المقال الأول منها.
وها أنا ذا “أدلي بدلوي”(وهذا تعبير بدوي، ولكنا معشر أهل الحضر لا زلنا نستخدمه “للإدلاء” برأينا). فقد كان الرأي بئرا لا ينضب معينها، و”جرابا” تنتضي منه الحكم والمآثر، فصار إسفيرا ينسرب من خلال القنوات الفضائية المتشابكة والمشتبكة. ولكل المجالين (البئر/الجراب، من ناحية، والإسفير، من ناحية أخري) لغته ومفرداته ووسائل وأساليب تعبيره. ولا مناص من بعض التداخل، قل أو كثر، بين القيدين وبين المزاجين، وبين النفسيتين الرعوية والحضرية، لا سيما في المجتمعات، كالمجتمع السوداني، التي تكثر فيها وسائل وآليات استعادة الماضي وتقمصه وإعادة إنتاجه. وذلك على طريقة “تمشي خطوة، اتنين مستحيل”، كما في أغنية المرحوم الفنان خلف الله حمد المعروفة باسم “الليل يا زمان” … وهكذا نبدو وكأننا “نرعي بي قيدنا”. أو كما قال طرفه:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتي لكالطول المرخي وثناياه باليد
ومن عجائب الصدف، وليس في الأمر عجب، أنني اطلعت على المقالة الأولي من مقالات الصديق النور بعد أيام من بدء مشاورات “إسفيرية” بيني وبين الأصدقاء نجيب خليفة محجوب وعوض محمد الحسن ويوسف الياس بشأن تجديد عزمنا على إحياء مشروع كنا قد بدأناه منذ ما يزيد على الأربعين عاما، ألا وهو إصدار كتاب بعنوان: “كيف تكون سودانيا مع سبق الإصرار”. وهذه ترجمة بتصرف للعنوان الأصلي للكتاب الذي اقترحه الصديق عوض محمد الحسن منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ألا وهو:
?How to Be A Sudanese, and Get Away With It?!
ولا بد أن أنوه بأن فكرة ذلك الكتاب عنت لنا، الأصدقاء عوض محمد الحسن ويوسف الياس ومروان حامد الرشيد وأنا، منذ أن كنا بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي وذلك بعد اطلاعنا على كتابين هما:
? How to Be An Alien للكاتب الإنجليزي ذي الأصل المجري جورج ميكاش،
? وHow To Be A Nigerian للكاتب النيجيري بيتر أناهورو. وعند ذهابي الي فرنسا في نهاية ستينيات القرن الماضي اطلعت على كتاب آخر هو
? Les Carnets du Major Thompson “مفكرات الميجور تومسون” لمؤلفه بيير دانينوس.
وكل الكتب الثلاث تتناول السلوك الاجتماعي للشعب البريطاني والنيجيري والفرنسي بصورة ظاهرها هزلي الا أنها أسست لضرب من السخرية الاجتماعية التي تعمل على تشريح المجتمع المعني وإظهار ممارساته وعيوبه الخفية في شكل يؤدي الي المعافاة الاجتماعية وفي نفس الوقت يشكل نوعا من النقد الذاتي في شكل مرآة يري فيها المجتمع نفسه من الداخل ويكشف عوراته بنفسه. وربما يكون من قبيل الصدفة أن كتاب “جورج ميكاش” قد نشر في عام ١٩٤٦ عشية خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية، وأن كتاب “بيير دانينوس” فقد نشر في عام ١٩٥٥وبعد عدة سنوات من انتهاء تلك الحرب، أما “بيتر أناهورو” نشر في عام ١٩٦٦ بعد أعوام قليلة من حصول نيجيريا على استقلالها. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن كلا من الكتب الثلاث قد صدر في مرحلة تحول سياسي واجتماعي في كل من البلدان الثلاث، وهي تلك المرحلة التي يبدأ فيها المجتمع الي الوعي بأن شيئا ما، جديدا أو مختلفا، في طريقه الي الحدوث. وبينما يعمل الباحثون والأكاديميون على البحث في أسباب ذلك التغيير ونتائجه المحتملة، مستعينين في ذلك بشتي السوابق والنظريات، فإن بعض كتاب السخرية الاجتماعية يسلكون طريقا آخر للتعبير عن تلك التحولات سواء في شكل كتب أو مسرحيات و أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية تعمل على تقريب تلك التحولات الي أذهان الجماهير بصورة مبسطة ومضحكة وقابلة للهضم، حتي إذا كان الانسان يضحك على نفسه فإنه يضحك ملء شدقيه ثم يعود الي أهله قرير العين هانيها كما لو أنه أحرز نصرا كبيرا، حتي وإن كان ذلك النصر هدفا في مرماه هو ?own goal?. وهذا يقرب مما أسماه قدما الإغريق، وسار على نهجهم شكسبير (الذي يصر البعض على تسميته “شيخ الزبير” في سعيهم الي الحاق كل إنجاز عالمي كبير بأمة الأمجاد المسلوبة) الذي اسماه قدماء الاغريق، وعلى رأسهم “أرسطو”، Catharsis أو التعافي من المعاناة، وكثيرا ما يجد “بطل” الرواية في المسرح الإغريقي أنه هو المسئول عن معاناته بنفسه، وهذا ما يطلقون على ه مصطلح Anagrosis. ومن هنا تطور مفهوم المسئولية الشخصية بمعني: أبدأ بنفسك قبل أن تلوم الآخرين. وهذا مفهوم أساسي في التربية المدنية وفي السلوك الاجتماعي، إذ أنه يجب عدم الخلط ما بين التضامن أو التكافل الاجتماعي وبين أن يكون كل واحد مسئولا عن سلوكه الشخصي، وأن تكون “كل شاتن معلقه من عصبتا”. “ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره ومن يفعل مثقال ذرة شرا يره”. صدق الله العظيم.
ولكن بعض الناس ينشغلون بالآخرين أكثر مما ينشغلون بتنقية أنفسهم وتزكيتها من شوائب الغل والنرجسية والحسد، وأولي بهؤلاء أن يعيدوا أنفسهم “إلى الورشة عطبرة” لصيانتها وسمكرتها حتى تعود سالكة لا تكدرها الرواسب ولا النفايات الذهنية أو النفسية أو العاطفية. فكما أن الحديد يتأكسد، على متانته، فإن النفوس تتأكسد كذلك ويعلوها الصدأ، فلا تحس الا إحساسا مريضا، كالفم المريض تماما. وأكسدة النفوس أكثر خطرا، إذ أن الإنسان حينها يضيق بنفسه كما يضيق بالآخرين ويسلم نفسه بنفسه إلى الكآبة والسأم والإحباط، ولا يجد ما يسري به عن نفسه أفضل من أن ينفث أفكاره المتأكسدة فيزيد الساحة قتامة على قتامتها، وربما لا ينجو من أكسدته أقرب الناس إليه، بما في ذلك الذين شاطروه التضحيات الجسام وظلوا معه في خندق واحد على مدي سنين طويله.
هذه المقالة:
ولا بد من أن أوضح أن هذه المقالة ليست تعليقا أو تعقيبا على مقالات الدكتور النور السبع، بل إن تلك المقالات قد شحذت ذهني وهمتي لكي أشرع في تفصيل تلك الفكرة التي ظلت تختمر (استغفر الله) في ذهني منذ فترة طويلة، ألا وهي العلاقة بين الفضاءين الرعوي والحضري، من ناحية، وتساكنهما في العقل الواحد والذهن الواحد والمخيلة الواحدة، من ناحية أخرى، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في العديد من البلدان التي تتشابه تركيبتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية مع حالتنا، ومنها الصومال التي أشار إليها الدكتور النور صراحة في بعض مقالاته. وبما أنني صاهرت المجتمع الصومالي منذ أربعين عاما، فإنني يمكنني أن أقول إن الدكتور النور قد أصاب في بعض ما ذهب إليه في تحليله لأثر العقل الرعوي على المجتمع الصومالي، والنتائج التي نراها الآن على تحلل الدولة وتفكك المجتمع في ذلك البلد الشقيق، ولكن هذا جزء من قصة طويلة تتداخل فيها عوامل محلية وإقليمية ودولية ومواريث تاريخية شكلت البيئة الحاضنة للمأساة الصومالية. ولا شك في أن الدكتور النور محق في أن القضية الرئيسية تكمن جزئيا في كون القيد الرعوي يشكل عائقا يحول دون إحداث النقلة المطلوبة لتلك المجتمعات نحو الحداثة. وسوف أتطرق لاحقا إلى تصوري للمبادئ والمرتكزات الأساسية للحداثة وإلى ما يجعل الحداثة بعيدة المنال في المجتمعات التي لا يزال يسيطر عليها العقل الرعوي.
وأود أن أقول إن هذه المقالة ليست أكاديمية، كما أنها ترمي إلى تبسيط اللغة بقدر الإمكان، إذ أننا معشر المثقفين مطالبون في عصر الانترنت وفيسبوك وتويتر وما إلى ذلك بأن نستخدم لغة أكثر بساطة، وأن نسعى إلى التقرب من القارئ بقدر الإمكان حتى يتمكن من فهم ما نرمي إليه، من ناحية، وأن يتفاعل تفاعلا حميما مع القضايا التي نعالجها، من ناحية أخرى.
ولأقرب إلى الأذهان الفكرة التي أسعى لمعالجتها أود أن أحكي قصتين (مرة واحده).
القصة الأولى حدثت لي منذ ثلاثة أو أربعة سنوات حيث دعوت صديقين من قيادات الرحل من جنوب دارفور إلى الغداء في أحد مطاعم العاصمة. وعندما أحضر الطعام ومعه “الشوك والسكاكين” نظر الصديقان إلى نظرة ذات مغزى ففهمت وبدأت آكل بيدي، فتنفسا الصعداء، وحكي أحدهما لي القصة التالية:
“عندما جاء أول مفتش انجليزي إلى منطقتنا دعا جدنا ناظر قبيلتنا لتناول طعام الغداء. وكانت تلك المرة الأولى التي يشاهد فيها جدنا الناظر الشوكة والسكين أو يأكل العصيدة بالملعقة. وعندما ملأ الملعقة بالعصيدة وأدخلها في فمه شعر بحرارة العصيدة مع حرارة الملعقة، فأخرج الملعقة من فمه وقال بانفعال شديد مخاطبا الملعقة: “الله ينعلك، لا تودي خبر لا تجيبي خبر!” وهذا كشهد من مشاهد اللقاء الأول بين العادات البدوية التقليدية وبين أداة من أدوات الحداثة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدي على أن اللقاء الأول بين الجانبين يكون دائما محاطا بالكثير من التعقيدات، بل والمواجهات في بعض الأحيان.
القصة الثانية حكاها لي صديقي نجيب خليفه قائلا إنه منذ سنين طويلة قبل تقنين حزام الأمان في السيارات في السودان كان في طريقه هو وأخوه الأكبر المرحوم الدكتور سامي خليفه في طريقهما إلى مسقط رأسهما في رفاعه لمناسبة اجتماعية. وبما أن كلاهما عاشا في “بلاد بره” فقد ربطا حزام الأمان وانطلقا في طريقهما إلى رفاعة. وفي الطريق توقفا في قرية من القرى لشراء بعض الفاكهة وإذا بأحد الباعة المتجولين يصيح داعيا أصحابه للحضور قائلا: “تعالوا .. تعالوا .. شوفوا الجماعه ديل مربطين كيف زي المجانين!”
فكما أن القيد الرعوي يبدو غريبا في مجال حضري، فإن القيد الحضري في مجال رعوي يكون غريبا كذلك وخارجا عن المألوف. ولكن يتم “التجسير” بينهما عن طريق الحوار والتآلف ونقل المعرفة والخبرات. وسنتطرق إلى كل ذلك لاحقا.
والطريق بينهما ليس ذو اتجاه واحد إذ أن الانتقال من جانب إلى آخر، أو من الضفة الي الأخرى، فكريا أو ذهنيا، أو نفسيا، أو جسديا يتم كل يوم من قبل الأفراد أو الجماعات. كما يتجلى ذلك في حركة العودة إلى الطبيعة، حيث يتباهى بعض سكان المدن والمناطق الحضرية بالعودة إلى الممارسات الريفية أو البدوية لأنهم ضاقوا ذرعا بحياة المدينة.
وقد رأينا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة كيف أن الفكر الانعزالي التقليدي لا يزال سائدا، والدور الذي لعبه سكان الولايات “المهمشة” التي ظلت خارج نظام العولمة أو تضررت منها في فوز دونالد ترامب الذي يجسد، رغم مظهره الحداثي، فكرا ماضويا يرمي إلى العودة إلى قيم وسلوكيات المجتمع القديم التي هي أقرب إلى الفكر الرعوي. في جولة لإحدى قنوات التلفزيون على ولايات “حزام القمح” التي صوتت لدونالد ترامب زارت إحدى القري في منطقة خلوية، وقد عرضت تلك القناة صورا لبعض أهل تلك القرية وهم “يسلخون” خروفا وفقا للطريقة التي تعودنا عليها في السودان منذ قرون طويله. وإذا كان ذلك مشهدا مألوفا في السودان، فإنه غير ذلك في أمريكا التي أصبح فيها كل شيء يدار بالتقنية الحديثة، ويكاد ذبح الخروف وسلخه على الطريقة التقليدية يرقى إلى مرتبة جريمة القتل، خاصة من قبل منظمات الرفق بالحيوان. كما أن من “إنجازات” الحداثة والتطور البشري التي أدت كذلك إلى فوارق كبيرة بين المدن والحضر تباعد المسافة بين الصانع والمصنوع، والآكل والمأكول، بل والقاتل والمقتول. فقد دخلت الآلة كوسيط في عملية التصنيع والأكل وحتى القتل، إذ أن عملية الذبح تعتبر جريمة بشعة ومنفرة، أما استخدام الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل تعتبر أكثر نبلا “وإنسانية” من القتل بالسلاح الأبيض، على سبيل المثال.
ورويدا رويدا تتباعد الشقة بين تلك الرغبة الجارفة، بل قل الغريزة الجامحة، التي تدفع الإنسان نحو المزيد من البحث والكشف والتطور العلمي والتقني، وإلى تبديل خلق الله وإلى المزيد من الاستهلاك واستنزاف موارد الأرض وتدمير بيئتها، وبين فطرته (البدائية) التي تجذبه نحو الحفاظ على الطبيعة، وإلى “الضغط برفق” والحفاظ على استدامة الموارد الأولية. ولكن نعلم ما حدث وما هي النتيجة المحزنة لذلك. وقد كان “رينيه ديومون” محقا عندما كتب منذ ستين عاما في كتابه “افريقيا السوداء على الطريق الخاطئ”: “إن أولئك الذين سيملكون المستقبل هم الذين يكتفون بالقليل”. ولا عجب في أن الديناصور قد انقرض بينما النمل لا يزال يتكاثر، وكلما ازداد الاستهلاك كلما ازدادت احتمالات الهلاك. والفضاء الرعوي أقل استهلاكا من غيره. وتتفاوت معدلات الاستهلاك ما بين الريف والمدينة، وما بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وتزداد مسئولية إفساد البيئة وفقا لمعدلات الاستهلاك. ولكن مع تآكل “شبكات الأمان” بالنسبة للمجتمعات البدوية والريفية تتصاعد احتمالات النزاع حول الموارد التي تزداد شحا يوما بعد يوم. ويحتدم الصراع داخل تلك المجتمعات فيما بينها، من ناحية، وفيما بينها وبين المجتمعات الحضرية.
+++++++
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..