المَجَـال طـال بيـنـا وَسِــهِرنـا: خاطرةٌ عَن إبراهيم عَـوَ

أقرَب إلى القلبِ :
(1)
كنتُ أعدّ العدّة للسفر إلى تهران أواخر التسعينات في مهمتي الجديدة هناك. .
حدّثتُ الصديق الجنرال الموسيقار حسن كركب، وهو صديق عزيز ونقتسم السكنى في جيرة جمعتنا بمدينة المهندسين بأم درمان. جاءني الصديق حسن مهنئاً ولم يحدّثني أنّهُ كان يرتب مفاجأة في وداعي، قبيل مغادرتي إلى تهران. حقيقة لم أكن مستبشراً فرحاً بمهمتي الجديدة في تهران، إذ عدتُ من عاصمة الدولة الإسلامية في إيران قبل أربع سنوات، وما عودتي إليها ثانية إلا وصلاً لما انقطع، فلا فرح في الأمر ولا جديد فيه، إن هي إلا رغبة وزارتي في مواصلة متابعة ملفات أحفظ جلّها عن ظهر قلب. .
صديقنا حسن كركب يحبّ المفاجئآت الجميلة. جئتُ إلى بيته ومعي أسرتي وأصدقائي المقرّبون وفيهم عبد الحليم بابو وعبدالمنعم الأمين وزوجتيهما.. ليدخل علينا الفنان الذرّي ابراهيم عوض وبرفقته عازفين. حيّانا الرجل الأنيق من قلبه تحية من يعرفنا فرداً فردا، إذ أن أصدقاء حسن هم في حسابه أصدقاؤه أيضا.
عرّفه حسن بي، وأنا ما عرفت ابراهيم إلا كمعجبٍ عن بعد:
– هذا هو السفير جمال.. عريسُ حفلنا اليوم..!
يا لبسمته الساحرة وروحه المرحة الطروب:
– أنتَ “جمال دنيانا” اليوم إذاً..؟
أطربنا الرجل بأغانيه الحلوة غناءاً بديعاً ، وكنا أسعد الناس تلكم الأمسية..
(2)
لم أهنأ بمهمتي الثانية في تهران، وعدتُ إلى رئاسة وزارة الخارجية. سنوات التسعينات في وزارة الدبلوماسية كانت سنوات عنت ومعاناة. لم يكن ثمة اهتمام جديّ ببرامج رفع القدرات عبر ابتعاث الدبلوماسيين لنيل درجات علمية في علوم السياسية والعلاقات الدولية والدبلوماسية، ممّا يعدّ تأهيلاً أكاديمياً ومهنياً لازماً، وقد كان ذلك دأب الوزارة منذ سنوات انطلاقها الأولى. عِوض ذلك فقد أجبر فوجٌ إثر فوجٍ من الدبلوماسيين، كبارهم وصغارهم، في برامج للتأهيل الموازي للبرامج التي تبنتها الدولة آنذاك. من بين تلك البرامج- وقد بدت لنا “تأديبية” أكثر ممّا هي تدريبية – برامج دورات الدفاع الشعبي. أمضيت بضعة أعوامٍ في الخرطوم، ثم غفرتْ لي وزارتي ما توهّمَتهُ قيادتها ? ظلماً- من تجاوزاتٍ حاسبتني عليها، فطال بقائي في رئاسة الوزارة لأكثر من ستة أعوام، أوفدتني بعدها إلى لندن.
هكذا طال بنا المقام في الخرطوم والذي حدثنا به في أغنيته إبراهيم عوض، وما أدركتُ ابعاده وقت ترنّمه: المجال طال بينا.. يا عمرنا..
(3)
على ولعي الشديد بأغاني المطرب الذرّي، فقد انقطعتُ عن متابعة جديد أعماله الغنائية وإطرابه الباذخ، حتى أدركتُ متأخراً أنني لم أتقاعس عن المتابعة، بل أن الفنان الذرّي في حقيقة الأمر، قد أقعدته العِلّة وأبقته حبيس بيته، يحيط به أبناؤه وبعض معجبيه وأحبابه المقربون في “حي العرب”. كان من رفاق أيامي في لندن، وصديقي الصدوق الفنان الموسيقار عثمان محي الدين. لم نكن نناديه باسمه كاملاً بل أطلقنا عليه لقباً محبّباً: “عثمان كمان”، تمييزاً له عن عمنا عثمان الآخر: “عثمان سفارة”. حين تضمّنا جلسات السّمر في بيتي في منطقة “ويليسدن” غربي لندن، لا يأتنا “عثمان كمان” إلا متأبطاً كمنجته الحبيبة، حتى أن ابنتي هالة أغرمت بجودة عزفه ومناوراته الموسيقية في عزف بعض أغاني محمد أحمد عوض وأيضاً إبراهيم عوض، فاستهواها العزف على الكمان، فاشتريتُ واحداً لها من اختيار صديقي عثمان محي الدين ومن محل مشهور للآلات الموسيقية في حيّ “ويليسدن”. غير أن صرامة عثمان وجديّته في التدريب على العزف إضافة لانشغالاته العديدة، قللت من اهتمام ابنتي ، فهجرت الكمان برغم ما ظهر عليها من ولع بتلك الآلة..
في يومٍ ماطرٍ وعثمان معي- إذ بيته لا يبعد عن بيتي سوى مسافة كيلومترين ? فاجأني قبل أن يطوي مظلة المطر البليلة، بنبأً مُزعجٍ عن الفنان الذرّي. قال لي إن العِلّة ضايقته، وقد بلغه ذلك هاتفياً من أحد أبناء الفنان ابراهيم عوض. كان صديقي عثمان محي الدين يعرف مبلغ ولعي بأغاني إبراهيم، ولطالما حكيتُ له عن تلك الأمسية التي رتبها لنا في حفل وداعي إلى تهران، صديقي حسن كركب قبل نحو عامين أو أكثر. قلت لعثمان لنتصل بابن الفنان الذرّي ونبحث إمكانية حضوره للعلاج في لندن. كنتُ أثق أن وزارتي بل ووزارة المالية معها، لن تتقاعسا عن كفالة علاج فنانٍ أسس حداثة الفن الغنائي في السودان، ببساطة وبعبقرية وبإخلاص. كان أول ما خطر ببالنا هو ان نستقدمه إلى لندن، أما أمر التكاليف المالية فكان في ذيل تفكيرنا. .
جاءني صديقي “عثمان كمان” بعد يوم ليحدثني أن حالة الفنان الذرّي الذي ملأ الدنيا بإطرابه الشجي، وشغل جيلنا بأسلوبه المميّز مظهراً ومخبرا، قد ساءت بما قد لا يتيح له الانتقال بطائرة للعلاج بالخارج. حبس عثمان دمعة وهو يحدثني ..
(4)
بعد أشهرٍ قليلة من هذه المفاكرة، غادرتُ لندن منقولاً إلى رئاسة وزارة الخارجية في الخرطوم، وكان أوّل مَن سعيتُ للسؤال عنه هو الفنان الذّري، غير أنّي سقطتُ مريضاً بانزلاقٍ غضروفي في الظهر، أحالني لرحلة علاج طويل في الأردن اوائل عام 2005.. خلال ذلك الغياب القسري وفترة النقاهة الطويلة، سمعتُ برحيل الفنان الذرّي ابراهيم عوض، وكان ألمي على عجزي عن لقائه قبل رحيله، أكثر من ألم غضروفي المُبرح .
كان نجمِهِ الشديد السطوع قد أضاء بغناءٍ بديع بكلماتٍ من الشاعر الطاهر ابراهيم (“عزيز دنياي” و”يا خاين”) ولمحجوب سراج وألحان السني الضوي (مين قساك” و “قاصدني ما مخليني”) ولسيف الدسوقي (“يا زمن وقف شوية”) ولعوض أحمد خليفة (“يا غاية الآمال”) ولإبراهيم الرشيد وسواهم من شعراء الأغنية الكبار، وذلك في أواخر العقد الأول من سنوات الحرب العالمية الثانية، والتي كتبت للبشرية فصلاً جديداً في تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وفي حقيقة الأمر تضافرت هذه العوامل لتخلق واقعاً عالمياً جديداً متجدّداً وشمل تأثيره أنحاء العالم ولم يكن السودان استثناءاً. أكثر التغيير اللافت كان في ساحة الأدب وفي ساحة الفن وفي ساحة الإبداع عموماً.
(5)
في تلك السنوات، كان للنجوم التي لمعتْ تميّزٌ لافت وبروزٌ استثنائي. تلك سنوات ظهر فيها نجوم موسيقى الجاز في الولايات المتحدة وفي أوروبا، من أمثال “لوي آرمسترونج” و”جيمس براون” و”بيكر” وايقاعات النصف الثاني من القرن العشرين، خفيفة صاخبة وراقصة. وفي أفريقيا “ماريام ماكيبا” و “كيدودة” وفي الشرق الأوسط كوكب الشرق كله: أم كلثوم.
تلك سنوات الروائية الفذّة في فرنسا “فرنسوا ساجان”، وسنوات كتّاب ومفكرين من أمثال “البير كامو” و”جان بول سارتر” و”سيمون دي بوفوار” و”أندريه جيد”. في الولايات المتحدة الأمريكية “تينيسي ويليامز” و”فوكنر” والعظيم “ارنست همنجواي”. في مصر الستينات كان هناك نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس والسباعي وتوفيق الحكيم وأضرابهم من المفكرين والأدباء. تلك سنوات “الفيس بريسلي” وموسيقاه الصاخبة ومظهره الشبابي المحرّض. تلك سنوات الممثل الهوليودي “جيمس دين” وشبابه الصارخ واندفاعه الصبياني الذي أودى به فرحل ليبكي هوليوود بما لم يبكها من قبل أحدٌ مثله. تلك كانت سنوات “الخنافس” أيضاً. .
لكن لنا أن نلاحظ أن تلك الحقبة لم تكن عسلاً صرفا في مجملها، ولا كانت بستان وردٍ جميلٍ في بعض تجلياتها..! في تلك البيئة العالمية والعالم يودّع سنوات معاناته، تجد الفنان الذري يأخذ سبيلاً ميّز به نفسه شكلاً ومضموناً، ولا يشبه سبيل من سبقوه، أو سبيل بعض الذين عاصرهم وعاصروه. ثمّة اختلاف في التوجّه وفي الأسلوب وفي المظهر، بينه وأولئك الفنانين الذين ساهموا بغنائهم في إذكاء الروح المعنوية للجنود المقاتلين في خطوط الحرب في جهات ليبيا وجهات إثيوبيا، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
كان ابراهيم عوض خطاً إبداعياً جديداً في مسيرة الغناء السوداني، لا يشبه خط حسن عطية أو أحمد المصطفى أو عائشة الفلاتية، تفرّداً واستقلالية. كان في انطلاقه متوافقاً مع تلك البيئة العالمية التي اختطت سبلاً جديدة في الإبداع والفن ، بمثل ما وصفت لك في الأسطر السالفة. برغم ضعف التواصل بين الأمم تلكم السنوات، إلا أن التأثر والتأثير وإن كان يقع بوتيرة بطيئة، لكنه يقع على أيّة حال.
مايو من عام 2005 كان شهر حزننا عليه. رحل صوتٌ كصوت سميِّه ابراهيم بن المهدي أو يوسف الموصلي، ونغمٌ من أعذب أنغام فراديس الغناءِ، وانطفأ بدرٌ أضاء سماءَ الطرب في السودان زماناً طويلا. .
(6)
أختم حديثي عن الراحل، نجم السودان في نصف الثاني من القرن العشرين، بمناشدتي لرعاة موقع “مؤسسة ابراهيم عوض” الإلكتروني أن يكثروا من تفعيله وإثرائه بإرث الراحل، مثلما أناشد صديقنا الموسيقار أحمد المك، الذي أنجز أمسيات الوفاء لمطربين تركوا بصمات غير منكورة في ساحة الابداع الغنائي في السودان، أن يتصل إسهامه في إعلاء قيمة الوفاء لرمز باذخ السيرة، مثل الفنان المطرب الكبير إبراهيم عوض.
“المجال طال بينا” .. فما تذكرنا أن نبقيه نجماً لا يخبو بريقه وإنْ رحلَ قبل سنوات. .
======
نقلا عن صحيفة “الرأي العام”
الخرطوم- 25/10/2014
[email][email protected][/email]
تصحيح معلومة للأستاذ جمال محمد إبراهيم أن شاعر “يا زمن” هو إبراهيم الرشيدوليس الدسوقي. شكراً.
مقال رائع من رجل رائع عن رجل رائع
تصحيح معلومة للأستاذ جمال محمد إبراهيم أن شاعر “يا زمن” هو إبراهيم الرشيدوليس الدسوقي. شكراً.
مقال رائع من رجل رائع عن رجل رائع