السودان: استقالة حمدوك رسائل في بريد أطراف الأزمة

الخرطوم ــ ميعاد مبارك
شخّص رئيس الوزراء السوداني المستقيل، عبد الله حمدوك، ما أسماه مشكلة الوطن الكبرى – السودان- باعتبارها في الأساس مشكلة هيكلية بين المكونات السياسية والمدنية والعسكرية؛ مشيرا إلى أن ذلك هو التوصيف الذي ينطبق تماماً على الواقع السوداني الماثل والمتفرد، وأن مشكلته من نوع المشكلات التي تظهر في واقع ما بعد سقوط الأنظمة الشمولية، وما بعد توقف الحروب الأهلية.
وقدم حمدوك استقالته للشعب السوداني عبر خطاب تلفزيوني، في ساعات متأخرة من مساء الأحد الماضي، بعد ستة أسابيع من عودته لمنصبه كرئيس لوزراء السودان في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وقال رئيس الوزراء المستقيل، وقتها أنه وقع اتفاق الإعلان السياسي مع قائد الجيش للحفاظ على الدماء السودانية ومكتسبات الانتقال الديمقراطي، وذلك بعد تنفيذ قائد الجيش لانقلاب عسكري قبلها بأربعة أسابيع، بالتحديد في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وعاد حمدوك إلى منصبه حسب الاتفاق مع البرهان، ولكن من دون أعضاء حكومته من قوى الحرية والتغيير، على أن يكون حكومات كفاءات مستقلة، إلا أنه لم يستطع فعل ذلك حتى تقديمه استقالته الأحد الماضي.
وكان ينتظر من عودة حمدوك التي نالت تأييدا كبيرا من المجتمع الدولي، أن تهدئ غضب الشارع المتصاعد بسبب الانقلاب، إلا أنها لم تفعل واستمرت الاحتجاجات الرافضة للانقلاب ولاتفاق البرهان حمدوك.
واعتبر المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير- الائتلاف الحاكم السابق- اتفاق حمدوك مع قائد الجيش محاولة لشرعنة الانقلاب ومنحه صفة مدنية، ووصفته لجان المقاومة بالخائن.
وبعد تلويح استمر لأكثر من أسبوع، قدم حمدوك استقالته للشعب السوداني، مؤكدا أنه ظل يحاول حل الأزمة الراهنة في البلاد ولكنه لم يستطع.
ورغم موقف الشارع الرافض لاتفاق حمدوك-البرهان إلا أن رئيس الوزراء السابق وجد تعاطفا كبيرا من المواطنين السودانيين، الذين كانوا يسمونه المؤسس، باعتبار أنه القائد الذي ستقوم على اكتافه عملية الانتقال الديمقراطي في السودان.
إلا أن حمدوك ذهب، تاركا خلفه وصايا متعددة للفاعلين في السودان، فصلها في خطاب استقالته، الذي أرسل عبره رسائل للقوى العسكرية والمدنيين من سياسيين ولجان مقاومة وقوى مدنية أخرى.
وقال حمدوك مخاطبا الشعب السوداني: «لقد منحتموني شرف رئاسة مجلس الوزراء في هذا الظرف الدقيق والمفعم بالآمال، ولقد حاولت بقدر استطاعتي أن أجنب بلادنا خطر الانزلاق نحو الكارثة، والآن تمر بلادنا بمنعطف خطير قد يهدد بقاءها كلياً إن لم يتم تداركه عاجلاً».
وأضاف: «في ظل هذا الشتات داخل القوى السياسية والصراعات العدمية بين كل مكونات الانتقال، ورغم ما بذلت كي يحدث التوافق المنشود والضروري للإيفاء بما وعدنا به المواطن من أمن وسلام وعدالة وحقن للدماء، لم يحدث ذلك».
وأشار إلى مواجهة حكومة الفترة الانتقالية تحديات ضخمة تمثلت في تشويه الاقتصاد الوطني، والعزلة الدولية الخانقة، والفساد والديون التي تجاوزت الستين مليار دولار، وتردي الخدمة المدنية والتعليم والصحة، وتهتك النسيج الاجتماعي .
وأكد أن حكومته تعاملت مع كل تلك التحديات واستطاعت تحقيق بعض الإنجازات في مجال السلام وبسط الحريات عبر إلغاء القوانين المقيدة للحريات، فضلاً عن جهودها في إخراج البلاد من العزلة الدولية ورفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإعادة دمجها في المجتمع الدولي.
وقدمت الحكومة الانتقالية أيضاً حسب حمدوك الكثير من حزم المعالجات الهيكلية في الاقتصاد، ودخلت في مبادرة إعفاء ديون الدول الفقيرة المثقلة بالديون؛ وكان من المأمول إعفاء 90 في المئة من ديون السودان التي تجاوزت 60 مليار دولار أمريكي عند الوصول إلى نقطة الإكمال.
وقال حمدوك، إن نهج حكومته كان دائماً هو الحوار والتوافق في حلحلة كل القضايا وأنها نجحت في بعض الملفات وأخفقت في البعض الآخر.
ورغم تبشير حمدوك بما وصفه بالنموذج الفريد للشراكة بين المدنيين والعسكريين في السودان، إلا أن اتفاق الوثيقة الدستورية الذي تشارك بموجبه المدنيون والعسكريون الحكم في الفترة الانتقالية وتم تعيين حمدوك وفق له رئيسا للوزراء لم يصمد.
وذكر حمدوك بذلك خلال خطاب استقالته، قائلا: إن قبولي التكليف بمنصب رئيس الوزراء في اب/أغسطس 2019 كان على أرضية وثيقة دستورية وتوافق سياسي بين المكونين المدني والعسكري، وهو ما قمت بالتبشير به كنموذج سوداني متفرد، إلا أنه لم يصمد بنفس الدرجة من الالتزام والتناغم التي بدأ بها.
وأكد أن الوتيرة المتسارعة للتباعد والانقسام بين الشريكين، انعكست على مجمل مكونات الحكومة والمجتمع، وعلى أداء وفعالية الدولة على مختلف المستويات، مشيرا إلى أن انسداد أفق الحوار بين الجميع؛ جعل مسيرة الانتقال هشة ومليئة بالعقبات والتحديات.
وقال حمدوك إن اتفاقه مع البرهان لم يكن إلا واحدة من محاولاته المتعددة لجمع الأطراف السودانية في مائدة الحوار، والاتفاق على ميثاق لإنجاز ما تبقى من الفترة الانتقالية وفق أهداف محددة ومعلومة للجميع.
وحدد تلك الأهداف بإكمال وتنفيذ اتفاق السلام والاهتمام بالاقتصاد ومعاش الناس بالإضافة إلى بسط الأمن وحسم النزاعات الأهلية والتفلتات الأمنية، وتحقيق السلام المجتمعي في كل أنحاء السودان، والاستعداد لانتخابات وفق رؤيةٍ توافقيةٍ بين كل الأطراف لقانون الانتخابات ونظام الحكم، ومختلف القضايا الدستورية وصولا لوضع أساس متين للتحول المدني الديمقراطي باعتباره الحلم الذي دفع عشرات الآلاف من أبناء وبنات وطننا ثمناً له، وهذا ما لم يتحقق هو الآخر.
ودعا رئيس الوزراء المستقيل، لجان المقاومة السودانية، للتوافق على برامج للبناء والمشاركة في وضع رؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه الأمور فيما تبقى من عمر الانتقال، مؤكدا أن صمودهم كان ملهماً وشكل ملامح سودان جديد.
وقال حمدوك للجان المقاومة التي قتل وأصيب واعتقل العشرات منهم خلال التظاهرات الرافضة للانقلاب العسكري: «أعلموا أن الحياة من أجل تحقيق الغايات الكبرى لا تقل شرفاً عن الاستشهاد في سبيل هذه الغايات والثورة دعوة للحياة ما استطعتم إليها سبيلا».
«إن الشعب هو السلطة السيادية النهائية والقوات المسلحة هي قوات هذا الشعب تأتمر بأمره وتحفظ أمنه وتصون وحدته وسلامة أراضيه وهي منه وإليه ويجب أن تدافع عن أهدافه ومبادئه» أوضح حمدوك في رسالته للقوات العسكرية.
وأكد أن طريق المضي نحو الانتقال الديمقراطي ما زال ممكننا حال توفر الإرادة الوطنية والصبر والتوافق على الحد الأدنى من قضايا الانتقال المدني الديمقراطي بين مختلف مكونات الحكم وقوى الثورة.
وشدد على أن الكلمة المفتاحية نحو حل المعضلة الهيكلية المستمرة في السودان منذ أكثر من ستة عقود من تاريخ الوطن؛ هي الركون إلى الحوار في مائدة مستديرة تمثل فيها كل فعاليات المجتمع السوداني والدولة وصولا للتوافق على ميثاق وطني ورسم خريطة طريق لإكمال التحول المدني الديمقراطي لخلاص الوطن على هدى الوثيقة الدستورية.
أما المجتمع الدولي، فشكر حمدوك دعمه للثورة السودانية والانتقال الديمقراطي، ودعا لأن يتواصل تبادل المصالح بين السودان والمجتمع الدولي، مؤكدا على أن السودان لا تنقصه الموارد في باطن أرضه وظاهرها وأن إنسان السودان لا يريد أن يعيش على الهبات والمعونات.
ودعا المستثمرين في كل مكان وفي مختلف المجالات لبناء شراكات تنموية واستثمارية، تعود بالنفع على الجميع.
ورغم الرسائل العديدة التي وضعها حمدوك في بريد الفاعلين في السودان والمجتمع الدولي، إلا أن خطاب رئيس الوزراء وصف بالتوافقي والخالي من التحديد المباشر للأشياء بمسمياتها.
يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين مصعب محمد علي لـ«القدس العربي» إن حمدوك في خطابه لم يشر بوضوح للتداعيات التي حدثت والذين قاموا بها بسبب شخصيته التوافقية وهذا يقرأ في سياق أن المسؤولية جماعية تتحملها كل الأطراف بدون الإشارة لطرف بعينه، لأن الإشاره لأطراف بعينها يمكن أن تزيد من الصراع والاستقطاب».
ويضيف «هو بذلك حافظ على إمكانية عودته مجدداً للمشهد السياسي مستقبلاً» لافتا إلى أن حمدوك رغم فقدانه جزءا من شعبيته مؤخراً الا أنه بخطاب الاستقالة أعادها، متوقعاً أن يعود حمدوك للمشهد السياسي في السودان قريبا.
واشار إلى أن حمدوك، في خطاب استقالته أرسل رسائل للشعب السوداني موضحاً التحديات التي واجهت حكومة الفترة الانتقالية وتعاملها معها، مشيراً للنجاحات التي تحققت من التوقيع على السلام ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ولفت إلى أن الخطاب تضمن رسائل إلى لجان المقاومة والسياسيين والعسكريين، مشيرا إلى الانقسام بين الشركاء المدنيين والعسكريين وانعكاس ذلك على المجتمع وظهور خطاب التخوين والكراهية وانسداد الأفق في الحوار وهو ما يؤكد ان الأزمة في السودان وصلت لدرجة بالغة الخطورة بحسب الخطاب وإن المبادرة التي طرحها كانت من أجل ذلك لكنها لم تجد اذنا صاغية.
وتابع علي، أن خطاب حمدوك لخص الأزمة السودانية بأنها سياسية شملت بقية جوانب الحياة وأوصى بأن يتم تدارك ذلك حتى لا تصبح شاملة، مشيرا إلى أن أبرز الوصايا التي تضمنها الخطاب، كانت ضرورة تدارك الأزمة السياسية حتى لا تعصف بالبلاد ووجوب الحوار بين الأطراف المختلفة لحل الأزمة والتحلي بالحكمة، وصولا التوافق على ميثاق وطني وخارطة طريق
ويرى علي أن الوصايا التي قدمها حمدوك في خطابه تلخص الأزمة السودانية ويمكن أن تكون المخرج حال تنفيذها، مشيرا إلى أنه بدون الحكمة والتوافق على خريطة طريق فإن البلاد ستكون في طريق الانزلاق والفوضى.
وتخوف من إشارة رئيس الوزراء المستقيل إلى أنه بذل جهودا من أجل تحقيق التوافق لكن لم يحدث ذلك في ظل الصراعات السياسية الراهنة، مشيرا إلى أن حمدوك لم يستطع تطبيق ما قاله وبالتالي سيكون تطبيقه من ناحية عملية أصعب على الآخرين.
القدس العربي