
د. عثمان الوجيه
في خضم الحرب التي تلتهم الأخضر واليابس في السودان ، نشأت ظاهرة جديدة تضاف إلى مآسي الصراع ، وهي ظاهرة الأسواق السوداء التي تزدهر على أنقاض البيوت المدمرة ودموع المشردين ، فبينما يتصارع طرفا النزاع على السلطة ، يتصارع المواطنون البسطاء على بقاء لقمة عيشهم ، في مشهد مأساوي يعكس حجم الدمار الذي لحق بالبلاد ، كانت ممتلكات السودانيين ، التي بناها الأجداد وعمل عليها الآباء ، هدفًا سهلًا للنهب والسرقة ، فمع انعدام الأمن وانتشار الفوضى ، تحولت الأحياء السكنية إلى ساحات حرب ، والبيوت إلى مغانم حرب ، لم يسلم شيء من براثن اللصوص والنهّابين ، فالأجهزة الكهربائية والأثاث وحتى محتويات المتاحف لم تسلم من أيديهم ، ولم تقتصر هذه الجرائم على طرف واحد في الصراع ، بل امتدت لتشمل كلا الطرفين ، فبينما اشتهرت قوات الدعم السريع بعمليات النهب المنظمة ، لم يخلُ الجيش من عناصر مارست نفس الأفعال الشنيعة ، وفي ظل غياب سيادة القانون وانتشار الفساد ازدهرت أسواق سوداء في مختلف أنحاء البلاد، تعرض فيها المسروقات بأثمان بخسة ، وسط غياب تام للإجراءات القانونية ، في أم درمان ، تحولت بعض الأحياء إلى بؤر للنشاط الإجرامي ، فقد شهدت أحياء قديمة مثل كرري وشمال أم درمان موجات من السرقة والنهب ، حيث تعرضت المنازل للاقتحام ونهب محتوياتها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى الاعتداء على المواطنين وتهديدهم بالسلاح ، ورغم الشكاوى المتكررة من المواطنين ، إلا أن السلطات الأمنية لم تتحرك بشكل جاد للحد من هذه الظاهرة ، فمع انشغالها بأعمال القتال ، تركت المجال مفتوحًا أمام العصابات الإجرامية للعمل بحرية ، ولم يقتصر الأمر على المواطنين العاديين ، بل امتد إلى المؤسسات العامة ، حيث تعرضت بعض المرافق الحكومية للنهب والسرقة ، وفي ظل هذا الوضع المزرى، يئس المواطنون من اللجوء إلى القضاء وباتوا يعتمدون على أنفسهم لحماية ممتلكاتهم ، تلك هي الحقيقة المرة للحرب السودانية ، حرب لا تدمر البنية التحتية فحسب ، بل تدمر أيضًا القيم والأخلاق ، وتزرع بذور الكراهية والانتقام في نفوس الناس ، فبينما يتصارع القادة على السلطة ، يدفع المواطنون الثمن الأغلى ، ويحصدون ويلات الحرب ، يبقى السؤال : إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ وإلى متى سيظل المواطنون السودانيون يعانون من ويلات الحرب والنهب والسرقة؟ هل ستتمكن القوى السياسية المتصارعة من التوصل إلى حل سلمي ينهي هذا الصراع ، أم ستستمر البلاد في الانزلاق نحو المزيد من الدمار والخراب؟ هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن اوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي : أقف هنا ، وأنا أشاهد دمار بلادي الحبيبة ، السودان ، يتسع يوماً بعد يوم الحرب التي أشعلت فتيلها الطموحات الشخصية والنزاعات على السلطة ، قد حولت وطننا إلى ساحة حرب ، وأهلنا إلى لاجئين في ديارهم ، أذكر جيداً ذلك اليوم الذي التقيت فيه بأحد اللاجئين من إحدى المناطق التي تشهد اشتباكات عنيفة ، كان وجهه شاحباً ، وعيناه تحملان بريق الحزن واليأس ، أخبرني أن قادة المليشيا المتمردة لا يدفعون لجنودهم رواتب ، بل يشجعونهم على نهب ممتلكات المدنيين ، واصفاً إياهم بالمرتزقة الذين لا يقاتلون إلا من أجل الغنائم ، تلك الكلمات أثرت فيّ كثيراً ، فكيف لشعب واحد أن يرتكب مثل هذه الجرائم بحق إخوانه؟ كيف يصبح الإنسان بهذه القسوة والوحشية؟ أدركت حينها أن الحرب لا تولد الأبطال فحسب، بل تولد أيضاً الوحوش ، وأن الغريزة الحيوانية قد تغلب على الإنسانية في أوقات الشدة ، ولم يقتصر الأمر على مرتزقة المليشيا المتمردة ، بل امتد إلى بعض العناصر في القوات المسلحة ، فقد سمعت قصصاً كثيرة عن جنود نهبوا ممتلكات المواطنين في المناطق التي حرروها ، مدعين أنهم يحصلون على غنائم حرب، ولكن أي غنيمة هذه التي تُؤخذ من أهلنا وشعبنا؟ أشعر بالأسى والحزن الشديد لما آلت إليه أوضاع بلادي ، فبعد أن كنا شعباً واحداً متكاتفاً ، أصبحنا أعداءً نتصارع على القتل والنهب ، أخشى أن تكون هذه الحرب قد تركت جروحاً عميقة في نفوسنا ، ستحتاج سنوات طويلة لكي تندمل ، وأتساءل دائماً : متى ستنتهي هذه الحرب؟ ومتى سنعود إلى الحياة الطبيعية؟ ومتى سنعيد بناء وطننا من جديد؟ أسئلة كثيرة لا أجد لها إجابة شافية ، ولكنني على يقين بأننا سنتمكن يوماً ما من تجاوز هذه المحنة وأننا سنبني سوداناً جديداً قوياً ومتحداً..
I am certain that one day we will be able to overcome this ordeal, and that we will build a new, strong and united Sudan
وعلى قول جدتي : “دقي يا مزيكا !!”.
خروج : “صوتي أنا .. صدى ثورة لم يزل يرن” ففي خضمّ أحداثٍ تاريخيةٍ حافلةٍ بالصمود والتحدي ، وفي لحظةٍ فارقةٍ من تاريخ بلادي السودان ، ارتفع صوتٌ نسائيٌّ عذبٌ يرنّ صداه في أرجاء الوطن ، صوتٌ حمل في طياته آمالاً وطموحاتٍ ، وأضاء دروب المستقبل بنور المعرفة والتغيير ، صوتٌ هو صوتي أنا ، صوت المرأة السودانية الحرة ، في هذا الشهر العظيم، شهر أكتوبر ، شهر الثورة والتغيير ، أطلّت على عالمنا مجلةٌ فريدةٌ، مجلةٌ حملت اسمهن ، مجلةٌ جسّدت هويتهن كانت تلك المجلة بمثابة الولادة من جديد ، ولادةً لأملٍ جديدٍ، ولحياةٍ أفضل ، لقد كانت هذه المجلة أكثر من مجرد مجموعة من الأوراق المطبوعة ، بل كانت صرخةً مدويةً تطالب بالعدالة والمساواة والكرامة ، أتذكر جيداً ذلك اليوم الذي أُعلن فيه عن المجلة ، كان يومًا مشهودًا ، يومًا احتفلن فيه بانتصار الإرادة النسائية ، وانتصار الحلم السوداني ، لقد كانت فكرة الكتابة عن إصدار هذه المجلة تراودني منذ زمنٍ بعيد ، ولكنني كنت أنتظر اللحظة المناسبة لكي أترجم هذه الفكرة إلى واقع لتهنئة نخبةٌ من الكاتبات والمثقفات السودانيات ، اللاتي آمنّ بضرورة إطلاق صوت المرأة السودانية وإبراز دورها في بناء المجتمع ، لقد كنّ شريكات في النجاح ، وعلى تحقيق حلمهن ، تضمنت المجلة مجموعةً متنوعةً من المقالات والأشعار التي تناولت قضايا المرأة السودانية المعاصرة ، من قضايا سياسية واقتصادية إلى قضايا اجتماعية وثقافية ، وقد حرصن على أن تكون هذه المقالات مكتوبة بلغةٍ سلسةٍ وواضحة ، بحيث تصل إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء ، لم تقتصر أهمية المجلة على السودان فقط ، بل امتدت لتشمل العالم العربي والعالم أجمع ، فقد لاقت المجلة اهتمامًا واسعًا من قبل النقاد والمثقفين ، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة ، إن إصدار مجلة “صوتي أنا” كان بمثابة إنجازٍ كبير بالنسبة لهن ، ولكني أدرك جيدًا أن هذا الإنجاز ليس سوى بداية الطريق ، فما زال أمامهن الكثير من العمل ، والكثير من التحديات التي يجب أن تواجههن ، إنني أؤمن بأن صوت المرأة السودانية هو صوت قوي وفاعل ، وأنهن قادرون على تحقيق الكثير من الإنجازات ، شريطة أن تتوحد صفوفهن وأن يعملن جميعًا من أجل تحقيق هدف واحد ، وهو بناء سودانٍ جديدٍ ، سودانٍ يسوده العدل والمساواة والكرامة..
#أوقفوا – الحرب
ولن أزيد ،، والسلام ختام.
