مقالات وآراء

وحتى الصّغار !!

عمر الحويج

وتسلّحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا
سندق الصخر
حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا
ونرود المجد
حتى يحفظ الدهر لنا إسماً وذكرى .

الراحل المقيم / محمد المكي أبراهيم

***
شارع الأسفلت ، طويل وعريض : على جانبيه ، عمارات ذات أشكال هندسية حديثة ، ترتوار. يتوسط شارع الأسفلت ، مرصوف بعناية ومدهون.. كذلك بمتوالية اللونين ، الأبيض والأسود .. وعلى طوله عمدان عليها لمبات نيون ملونة ، وغير ملونة.
تحت ظل شجرة ، على جانب شارع الأسفلت ، وعلى الأرض التراب.. جلسا : طفلان .. أمامهما ، صندوقا ورنيش ، ملصق على كل منهما ، وباهتمام ملحوظ .. صورة مكبرة للشهيد “أحمد القرشي” أحدهما .. وهو الأكبر من أبناء الشمال ، هزيل الجسد حليق شعر الرأس ، حافي القدمين ، على الجسد النحيل ، عرّاقي بلدي ، استنزف منه الكثير من المال ، حين اشتراه ، أخرجها بسخاء عساه يحمي جسده من ويلات الطبيعة القاسية ، ولكنه .. العرّاقي ، فشل في مقاومة هذه الويلات ، فقد تمزقت أطرافه ، واختفى لونه الأبيض ، داخل بقع الورنيش .. متعددة الألوان .. الآخر رفيقه في المهنة وهو الأصغر ، من أبناء الجنوب : ما يعرفه عنه الآخرون ، حسب ما رواه هو، عن نفسه .. إنه وأمه حين أشتد بهم الفقر والجوع و.. ضرب النار ، هربا معاً ، إلى أقرب مدينة خارج حدود الجنوب. حين اشتد بهم الفقر أكثر، قررت أمه ، أن ترسله إلى الخرطوم ، أودعته يومها القطار ، ووقفت بعيداً عنه، تحتضنه بعينيها ، والدموع تحجب عنها حتى شبحه ، فلا تراه كما ترغب ، وحين بدأ القطار في إعلان تحركه ، مطلقاً صافرته : تذكر لحظتها .. الفتى الصغير .. حضن أمه الدافئ .. والحنون ، وهذا ما دفعه والقطار يتحرك ، أن يحاول الارتماء ، على هذا الحضن ، ولكن الأرض الصلبة هي التي احتضنته وكان دم .. وجرح غائر في جبهته .. لا يزال. ضمَّدته أمه ، بحفنة تراب .. وبعض أعشاب ، وأودعته بعدها ، قطار اليوم الثاني.
الكبير .. ابن الشمال يحفر في صندوقه بعض كلمات. الصغير ابن الجنوب يسأله .. ماذا يكتب؟؟، الكبير ابن الشمال ، يجيبه وهو منهمك في الحفر “دماء الطلبة فداء الشعب “، يبتسم الصغير ، ابن الجنوب ، فقد سمعها كثيراً هذه الأيام ، بل ردَّدها “دماء الطلبة..”، كان ذلك ، حين جاء أولئك الناس ، وتجمعوا فجأة ، من أين أتوا، هو لا يعرف ، ولكنه يذكر ، أنه تأبَّط صندوقه ، ودخل وسطهم ، وأخذ يردد معهم .. دماء الطلبة فداء الشعب  مد صندوقه إلى الكبير ابن الشمال ، قائلاً .. أكتب عليه -عاش كفاح الشعب- فهي أيضاً ، عبارات رددها كثيراً، الأيام الفائتة. الآخر .. يحتضن الصندوق ، يتكيه على الجانب الآخر من المكان الملصقة عليه صورة (القرشي) .. يبدأ في حفر كلمة واحدة ، ولكنه أحس بالتعب ، أصابعه الممسكة بقطعة الحديد المدببة ، تؤلمه .. ينفخ عليها بفمه، يشعر بالألم يخف قليلاً ، بطرف العرَّاقي يجفف العرق ، من على وجهه ، يلقي بنظره على طول الأسفلت أمامه ، في نهايته: بناء شامخ ، حوله عسكر ، مدججون بالسلاح، يعيد النظر مرة أخرى ، بالأمس ، رمونا بالقنابل المسيلة للدموع ، رشقناهم بالحجارة ، حاصرونا بالأسلاك الشائكة ، الناس لم تخف. أنا أيضاَ لم أخف كنا نردد -الإضراب سلاح الشعب- أين يا ترى قرأت هذه العبارة؟.. أيوه.. تذكرت .. أخي ، ورقات كانت له ، كانت المدينة هادئة وصامته ، وشمسها محرقة ، جئت ساعتها من الخارج ، هممت بخلع ملابسي ، وكان أخي ، هو وجماعته -كما تسميهم أمي- يجلسون في الغرفة الأمامية ، حينما سمعت طرقات ، على الباب. رميت ما بيدي .. وعلى عجل ، أسرعت لفتح الباب ، وقبل أن أصله .. الباب ينفتح بعنف .. يندفع إلى الداخل أحدهم ، يتبعه آخرون، ما حدث بعد ذلك ، يصعب تذكره ، قبضوا على أخي وجماعته -كما تسميهم أمي- أخذوا يفتشون المنزل: الأرض وحفروها .. كل شيء وبعثروه .. حتى (التُّكُل). لم يستثنوه .. أدخل أحدهم يده في “خمّارة العجين “.. أذكر يومها أن أمي حملتني إياها ، لأسكبها في الشارع .. كل ذلك ، ولم يجدوا ما جاءوا يبحثون عنه. رغم ذلك .. قذفوا بأخي ، وجماعته -كما تسميهم أمي- داخل كومر الحكومة وذهبوا. بكيت يومها كثيراً، ولكن أمي لم تبكِ ، بل أسكتتني بنهرة قوية ، ومن خلال بقايا دموعي ، رأيتها تحفر في جوف جدار مهجور لم تصله أيديهم ، رأيتها تخرج عدة رزم من الأوراق المهترئة ، صبّت عليها كمية كبيرة من الجاز ، ثم أشعلت فيها النار. تركتها مشتعلة ، وغادرت المكان .. يومها دفعني حب الاستطلاع ، لكشف سر كل هذا الذي يجري أمامي ، وأنا لا أفهمه .. فتسللت خلسة إلى حيث النيران المشتعلة استطعت أن ألتقط إحدى الأوراق، التي أبعدها الهواء عن السنة النيران ، أزلت ما علق عليها من تراب ورماد .. رأيت عليها كتابة باهتة ، التقطت عيناي بصعوبة عبارة لم أفهمها في حينها ، تتحدث عن الإضراب السياسي ، وحتى أمي لم تتركني أفهم أكثر .. كفاية أخوك الكبير .. هكذا تمتمت ، وهي تمزق الورقة التي كانت في يدي .. ولكني الآن بدأت أستوعب معناها. يرفع رأسه ينادي رفيقه الآخر. بعد أن تأكد له أن رفيقه أعطاه انتباهه، يهمس له : الناس كلهم أضربوا عن العمل .. ليه نحن ما نضرب عن العمل مثلهم. رفيقه الآخر لا يجيب. بل تجذب انتباهه ، وقع خطوات ، والتي دائماً ما تعني له الكثير ، الخطوات تتوقف أمامه، صاحبها يسأل .. عندك ورنيش أحمر؟.. كلمات رفيقه ترنّ في أذنه .. لماذا لا نضرب عن العمل مثلهم.. رد سريعاً على صاحب الخطوات .. عندنا ، ولكن نحن أضربنا عن العمل ، يتبادل ورفيقه، ضحكات انتصار مرحة .. حمل الكبير ابن الشمال صندوقه وأراد التحرك. الآخر ، الصغير .. ابن الجنوب يوقفه : أكمل لي كتابة الكلمات ، التي بدأتها. يتوقف الكبير .. ابن الشمال ، يأخذ منه الصندوق ، يمر بنظره سريعاً ، على الكلمات التي أكمل حفرها : “عاش كفاح…” بقيت كلمة واحدة يمسك بقطعة الحديد المدببة ، قبل أن يشرع في حفر الكلمة الأخيرة ، رفيقه يلكزه على كتفه .. سامع ، مظاهرة .. أيوه .. سامع ، أجرى نحصلها. يتأبّطان صندوقيهما ، يجريان بسرعة وجهتهما الأصوات الهادرة ، المتجهة صوب البناء الشامخ .. يجريان أسرع. الكبير ابن الشمال يجري وأفكار سريعة تجري داخله .. جلابية المدرسة ، ما زالت في دولاب أمي ، آخر مرة رآها .. الجلابية .. لم تكن جديدة ولكنها نظيفة .. غير بقع من الحبر .. يا لخبثه!! ، لقد رشها بنفسه ، يوم سمح له معلم اللغة العربية ، باستعمال الحبر لأول مرة .. يا ربى حاجة مدينة تكون هي أيضاً ، أضربت عن العمل. إنه اشتاق لطعميتها .. إلى القصر حتى النصر .. يردد مع الآخرين.صوت فرقعة قوية ، إنها ليست أصوات القنابل المسيلة للدموع ، التي اعتاد على سماعها ، الأيام السابقة ، لا .. إنها أصوات ، رصاص .. والناس تتقدم. الرصاص لن يرهبنا .. ناس تقع على الأرض .. وناس تتقدم …. و… يلتفت بحثاً عن رفيقه .. ويراه : الجرح الغائر في جبهته ، تضيئه أشعة الشمس الحارقة ، وصندوقه ملقىً على الأرض : في جانبه حيث صورة الشهيد القرشي ، يوجد دم .. وفي جانبه الآخر بقيت كلمه .. لم تكتمل بعد ..

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..