منازل الخفراء.. ليس من رأى كمن سمع.. بيوت أنيقة

الخرطوم – رندا عبد الله
إذا كان الترحال المستمر سبباً في إطلاق مصطلح (العرب الرحل) على فئة من سكان البادية، فإن ترحالاً من نوع آخر يحدث في قلب المدن، ويمارس مهنة من قبل فئة من الناس نطلق عليها اصطلاحاً (الخفراء) أي الحراس. إنهم أناس ينتشرون على مد بصر العاصمة، فأين ما تولي وجهك تجد راكوبة من خيش أو مظلة من زنكي صدئ داخل عمارة قيد التشييد.
هنالك من يعدون بيوت الخفراء تشويهاً لعقد المدينة النضيد الحضاري، كما يسمى رسمياً، وأنها مساكن الخفراء تساهم في تردي البيئة، لكن لا أحد يزورهم ويستمع إليهم، لا أحد يصيخ ويرهف السمع ويجلي الضمير في حضرتهم، ثم يقول ما يقول.
(اليوم التالي) توجهت إلى مساكن الخفراء وجلست إليهم، وتعرفت عن قرب على هموهم ومشاكلهم وعزلتهم التي أضحت جزاً أصيلاً من حياتهم، فكيف يتعايشون معها؟
أخير من عدمو
اختزلت حليمة مكابدتها مع الترحال رفقة زوجها وأسرتها من عمارة شطبت إلى جديدة وافتتحت بقولها: “أهلنا زمااااان قالوا القحة ولا صمة الخشم، وشغلنا ده أخير من عدمو”. وأضافت: “حراسة المنازل تفيدنا في سد حاجتنا إلى السكن الذي لا حول ولا قوة لنا بدفع قيمة إيجاراته العالية، وتجعلنا نتفرغ لأمورنا الأخرى معيشة، مدارس، علاج،..الخ)”. وأبدت حليمة ارتياحها لكونهم يتحصلون على مأوى ولو متنقل، وختمت بأنها ظلت تدعو الله منذ زواجها بأن يمن على زوجها أن يعمل حارس منزل حتى يوظف مرتبه الضعيف لاحتياجات الأسرة.
تحت التشييد
الشيخ الأول على صفه في المدرسة، بل والأول على المدرسة كلها لذلك فهو أمل والدته زوجة أحد الخفراء، التي قالت لـ (اليوم التالي): “الحمد لله الطلعت بي أولادي ديل، فلم أعرف سوى الجهجهة مذ زواجي سنة 88، واستدركت بأن حياة أسر الخفراء لا يخفف من صعوبتها ألا تفاهم الأسرة وتعاونها”. وعد السيد خراشي ظل يعمل في المهنة على مدى 14 عاماً، أن من شأن الظروف أن تجعل المستحيل ممكنا والصعب سهلاً. وأضاف: “تعودت على كثرة التنقل والترحال والقلق والضنك وصعوبة العيش بعد أن تم فصلي من العمل بأحد المصانع. وعن حياة الخفير، أكد أنه يضع أسوأ الاحتمالات دوماً، لذلك تظل عينه مفتوحة على الأماكن الخالية من خلال المعارف أو التوصيات، موضحاً أن الغفير يعامل في أحيان كثيرة كالمستأجر، فيتم منحه مهلة قبل الخروج، وكشف عن تفضيل الخفراء لحراسة البيوت تحت التشييد، لأنها توفر لهم مدى زمنياً كبيراً في السكن، كما أن مرتب خفيرها يرتفع عن مرتبه بالجاهزة بسبب توفر السيولة لدى المالك في مرحلة البناء.
طرائف ومفارقات
وفي السياق، وصفت فاطمة زوجها الخفير بالمرح وخفة الدم، وقالت إنه (بشتغل الناس طوالي)، وحكت عن أنهما كانا يسمعان يومياً بكاء طفل من أولاد (الراحات) الذين بالجوار، على حد تعبيره، فعلق زوجها (ضارب الموية الباردة والسمك، كيف ما ببكى كل يوم). وأكدت فاطمة وهي لا تزال تضحك من تأثير العبارة أن لغة التواصل قوية بين الخفراء ولاسيما المنتمين منهم لقبيلة واحدة خاصة في رمضان، كما أنهم يساعدون بعض في الإرشاد على البيوت الخالية، وعن طريقة تعايشهم مع تغير المناخ. وقالت إن التعامل مع الخريف يتم بنشر المشمعات فوق أسقف الرواكيب، وأثناء الجولة وسط أسر الخفراء في الأحياء الراقية، لاحظنا (ما شاء الله) وجوداً كثيفاً للأطفال، ظل أحدهم يتابع باهتمام دردشتنا مع حليمة، فيما كان أشقاء الشيخ يضحكون ويمرحون وهم يلاحقون الكتاكيت التي ملأت المسكن ضجيجاً.
ترتيبات متقنة
أكثر ما أثار عجبي ودهشتي ورغم وجود الأطفال وعبثهم، أن بيوت الخفراء نظيفة للغاية، وأن ملابس أطفالهم وأجسادهم ربما تفوق في نظافتها جيرانهم من الأثرياء، سألت حليمة عن السبب فقالت: ربما لـ (حساسية) نساء الخفراء من وضعهن، فلا يمكن أن تكون فقيراً وكسولاً ووسخان وأنهن ربما يتذكرن دوماً المثل القائل (قلبا بالمواصي ماناسي)، ويستلهمنه في النظافة وإتقان العمل المنزلي، أنها أنظف البيوت التي رأيت رغم إيغالها في التواضع

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..