المقالات والآراء

ضمير الصحافة اعتذار للفنانة.. ومتى للشعب؟

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

ببسم الله الرحمن الرحيم، وقوله تعالى في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ…) صدق الله العظيم. هذا النداء الإلهي للعدل والإنصاف، الذي افتتح به الأستاذ عطاف محمد مقاله الأخير، يلقي بظلاله لا على حادثة فردية فحسب، بل على مشهد أوسع، يستدعي وقفة ضمير أعمق وأكثر شمولاً.

يجد الأستاذ عطاف نفسه مدينًا باعتذار للفنانة نانسي عجاج، بعد أن انطلى عليه البرومو الخبيث الذي أعدته منصة إعلامية، فأظهر والدها الراحل الموسيقار عجاج، عليه رحمات الله، بصورة مسيئة. صدمة الأستاذ كانت كبيرة، كما يصف، لمعرفته بالراحل وعشرته معه في صالات تحرير الصحافة وجلسات الثقافة. اعترافٌ بالشجاعة ينم عن قدرة على مراجعة الذات، ورفض العزة بالإثم لإرضاء غرور نفس أو كبرياء زائف. هذا الاعتذار، الذي خُتم بكلمات زمزم، ينقل شعورًا حقيقيًا بالندم، وبحجم الظلم الذي وقع على فنانة وشقيقتها وأسرتها.

ولكن، في خضم هذا الاعتذار الصادق والمُقدّر، تتشكل تساؤلات أخرى أكثر إلحاحًا وأشدّ وطأة. إن صحوة ضمير الأستاذ عطاف، ورفضه الوقوع في غياهب التضليل الذي استخدمه البلابسة للنيل من الفنانة نانسي، لا تعني بالضرورة أنه قد بلغ ذروة الاتزان والمهنية في كل ما كتب، أو في الخطاب الذي تبناه هو وغيره من الأقلام على مدى سنوات. فمتى يصحو هذا الضمير لينظر إلى الصورة الأكبر، وإلى السهام التي طالت الشعب السوداني بأكمله؟

إذا كانت صدمة الأستاذ عطاف كبيرة لتعرض فنانة معروفة ووالدها لظلم إعلامي، فكيف هي صدمة الشعب السوداني التي تجاوزت البرومو الخبيث لتصل إلى خطاب حرب شامل، ظل ولا يزال يُنشر ويُروج له على صفحات الإعلام والمنصات، بأسماء أقلام كانت ولا تزال تقتات من هذه الفوضى؟

إن ما حدث مع نانسي عجاج ليس حالة فريدة، بل هو نموذج صارخ لما تتعرض له المهنية الصحفية في زمن الاستقطاب الحاد والصراعات الأهلية. فالمنصات والأقلام، في مثل هذه الظروف، قد تتحول إلى أدوات في حرب المعلومات، حيث تصبح الحقيقة ضحية للإثارة أو لأجندات خفية تسعى لإطالة أمد الحرب لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. هذا البرومو الخبيث الذي خدع الأستاذ عطاف هو جزء لا يتجزأ من مشكلة أكبر وأخطر تضليل ممنهج يمارس لإثارة الفتنة وتشويه الحقائق.

إن الاعتذار عن خطأ فردي، وإن كان مهمًا، لا يُعفي من المسؤولية عن المساهمة في خطاب عام يغذي الصراع. فالفرق شاسع بين زلة قلم يمكن الاعتذار عنها، وتضليل ممنهج يُوظف لخدمة أطراف الصراع، ويُسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي، وزرع بذور الكراهية بين أبناء الوطن الواحد. هذا الخطاب الموجه لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يصنعها، ويحرض عليها، مما يخلق بيئة من عدم الثقة تجعل أي محاولة للمصالحة أو الحوار السياسي في المستقبل أكثر صعوبة، ويُعرقل جهود بناء السلام التي يتطلع إليها السودانيون.

متى يرتفع الصوت بالسلام؟هل يكفي أن يعتصر الضمير عند التعرض لظلم شخصي، بينما يظل غافلاً عن ظلم أمة بأكملها؟أليس من باب الإنصاف والقسط الذي دعا إليه القرآن الكريم أن يعم الاعتذار كل من تضرر من الكلمة الجائرة، ومن الموقف المتحيز الذي زاد الطين بلة؟

إن الأستاذ عطاف، ومن هم على شاكلته من الأقلام التي لم تتورع عن نشر خطاب الحرب بل وحتى تبنيه في أوقات عصيبة، يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة مع ضمائرهم، ليس فقط في حادثة نانسي عجاج المنفصلة، بل في بحر الدم والدمار الذي أغرق البلاد.

إن الفاتورة التي يدفعها الوطن يوميًا لا تُحصى بأعداد الضحايا وحسب، بل بانفجار كارثة إنسانية تتجلى في شبح المجاعة، وتفشي الأمراض، وانهيار البنية التحتية، ووقف عجلات الاقتصاد، وغرق الملايين في براثن الفقر المدقع واليأس. كل يوم يمضي دون سلام هو غوص أعمق في لجج اليأس، وتأخيرٌ لتعافٍ ربما يستغرق عقودًا، وفرص تنموية تتبخر أمام أعيننا.

لعل هذه الحادثة، التي هزت ضمير الأستاذ عطاف، تكون نقطة تحول، تدفعه وغيره من الأقلام إلى التفكير بعمق في الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام، ليس في نشر الدمار وتغذيةالصراع، بل في الدعوة للسلام، وتوحيد الصفوف،والاعتذار عن كل خطايا الماضي.

إن الصحوة الحقيقية للضمير الصحفي تقتضي أكثر من مجرد ندم على خطأ فردي. إنها تتطلب مراجعة شاملة للمواقف، واعتذارًا صريحًا عن كل كلمة أشعلت فتيل الكراهية، أو حرضت على العنف، أو تسببت في تضليل الرأي العام. إنها دعوة صريحة للصحفيين والإعلاميين لمراجعة ضمائرهم وأدوارهم في الأزمة السودانية. يجب أن تُفعل آليات للمحاسبة الأخلاقية والمهنية داخل النقابات والمؤسسات الإعلامية، لضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات المدمرة. إن الصحافة الحقيقية يجب أن تكون منبرًا للحقيقة، صوتًا للمظلوم، وجسرًا للسلام، لا أداة للحرب أو التضليل. فالشعب السوداني يستحق، لا كلمات الاعتذار فحسب، بل أن تُترجم هذه الكلمات إلى فعل، إلى قلم صادق لا يتلوث، إلى صوت ينادي بالسلام والعدل لا بخراب البلاد.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..