في ذكرى وفاته الأولى ملامح البناء السردي في شعر الفيتوري

جمعة عبد الله
يعد الشاعر الراحل محمد مفتاح الفيتوري أحد أبرز شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، وقدم في حياته العديد من دواوين الشعر التي اختط لنفسه فيها منهجاً مميزًا عن غيره من شعراء القصيدة العربية. وتتضارب الروايات حول مكان ولادته حيث يرى الباحث (حسن دوكة) أن الفيتوري شاعر سوداني من جهة الأم، ليبي الوالد سوداني المولد، فيما يقول الباحث أحمد أبو حاقة إنه ولد في الإسكندرية عام 1930م من والد سوداني وأم مصرية وإن جده من أعالي بحر الغزال وأرجح الروايات تشير إلى أن ميلاد الفيتوري كان في مدينة الجنينة عاصمة ديار مساليت الواقعة على حدود السودان الغربية، ولكن تاريخ ميلاد الشاعر غير معلوم بالقطع وان كان يتراوح بين عامي 1926 ـ 1930م ووالده هو الشيخ مفتاح الشيخ الفيتوري وكان خليفة خلفاء الطريقة العروسية الشاذلية الأسمرية وهو فرع من أولاد الشيخ الفواتير إحدى قبائل البدو الليبية المعروفة بالتقوى والصلاح، والفواتير من الدراويش المعروفين بالكرامات في ليبيا، وقد أثرت هذه المعطيات في نشأة الشاعر في بيئة صوفية مما أدى إلى تأثره بالاتجاهات الصوفية، وقد انعكس هذا الأثر في شعره بصورة جلية لا تخطئها ملاحظات الباحث المطلع على شعره ودواوينه .
تحولات بائنة
لعل من المتفق عليه أن التحولات التي حدثت في مسارات الشعر العربي المعاصر أدت بصورة بائنة إلى إلغاء فكرة الحدود بين الأجناس الأدبية، فالقصيدة المعاصرة لم تعد مطالبة بالتقيد بجغرافية الأجناس الأدبية أو الحدود التي أضحى من الشائع أن يتم تجاوزها فهي تخلط وتمزج وتعبر باستمرار وهي القضية التي شغلت اهتمام الباحثين والمهتمين بالدراسات النقدية الحديثة، فسعوا إلى وضع نظرية نقدية تعمل على الإسهام في معالجة قضايا الشعر المعاصر والحديث وإلغاء الأجناس الأدبية خصوصاً في ظل العولمة التي جلبت معها العديد من التغيرات التي وسمت القصيدة الشعرية مؤخرًا. ففي الوقت الحالي أصبح القول بنقاء النوع الأدبي قولاً غير مقنع فعلى مستوى المنجز الأدبي لم تكن الأشكال الأدبية دوائر مغلقة ولا جزرًا معزولة داخل الخريطة الأدبية كما تسعى نظرية الأنواع الأدبية لتكريسه، فالحدود بينهما تعبر باستمرار والأنواع تخلط وتمزج كما سبق القول، وقد بدأ النقاد القدامى يتلمسون طبيعة العلاقات النصية في سعيهم لمحاولة تنقيتها وتولدت عندهم مفاهيم مثل فكرة الفصل بين الشكل والمعنى من خلال الرؤية المقتضبة التي ينصرف فيها فهم النص الشعري إلى البيت الواحد مما يعني أن البحث عن الأصل لم يكن يتجاوز الوقفة المتعجلة التي ترصد ذلك البيت الواحد مفصولاً عن سياقه أو حتى الكلمة الواحدة مما جعل قراءة القصيدة الشعرية بالفعل عملاً تجزيئياً للنص، ويمكن القول بأن انفتاح الأدب العربي على الحضارة الغربية كان سبباً جوهرياً في حضور جنس السرد في منظومة الشعر العربي المعاصر والحديث على حد سواء خصوصاً في ظل العولمة الداعية بصورة أساسية إلى إلغاء فكرة الحدود وضرورة التداخل بين الأجناس الأدبية المختلفة وصولاً لعالمية الفن.
السرد الشعري
ويشير الأكاديمي وأستاذ الأدب والمختص في اللغة العربية د . عبد الرحمن أحمد إسماعيل في حديثه لـ(الصيحة): إلى أن أعمال الفيتوري الشعرية حفلت بالتناول السردي مشيراً الى أن قصيدة “مقتل السلطان تاج الدين ” تعد نموذجًا في هذا الجانب معتبراً أنها أحد النصوص التي أفلح الفيتوري في توظيف السرد الشعري لتوصيل غايته ونقل واقعة تاريخية معروفة وهي معركة ” دروتي ” التي كانت بين السلطان تاج الدين والقوات الفرنسية الغازية لدار مساليت في دارفور.
وأشار د . عبد الرحمن إلى أن الشاعر وظف مناويل السرد المختلفة من سرد الأحداث عبر وحدات مترابطة ومنسجمة ومتناغمة مؤكداً أنه رسم شخصيات القصة الشعرية وبين مقوماتها الفنية وبناء الخطاب السردي بعناصره الفنية المختلفة من حوار داخلي وخارجي ووصف مفارقات تصويرية مقدماً حكايته في حركة سردية لم تتقيد بالزمن الحقيقي للقصة مستبقاً الأحداث حيناً ومسترجعًا لها حينا آخر في مفارقات زمنية متقنة لافتاً إلى أن كل ذلك التصوير الفني المسرحي قدمة الشاعر كسارد برؤية الراوي المشارك مما يوهم القارئ أن الشاعر كان واحداً من شخصيات هذه الحكايةـ غير أنه أشار إلى أن ثمة نصوص كثيرة في شعر الفيتوري ينطبق عليها وصف الشعر السردي، ولا يقتصر الأمر فقط علي قصيدة “مقتل السلطان تاج الدين ” بيد أنه فسر اختياره لهذه القصيدة لوسم شعر الفيتوري بالسردية في بعض ملامحه لأن القصيدة برأيه تعد هي المدخل الأنسب لدراسة وتفصيل المضامين السردية في شعر الفيتوري، مؤكدًا توافر عناصر السردية فيها بشكل واضح وجلي، إذ أن النص جاء في جملته حكاية مكتملة بأحداثها وشخصياتها وخطابها السردي بعناصره الفنية المتقنة .
تداخل وتنوع
وفي تناولنا لأعمال الراحل محمد مفتاح الفيتوري تستبين لنا صورة واضحة عن مدى التداخل الذي صارت إليه الأجناس الأدبية، فالشعر قد يكتب بلغة سردية أو تدخل فيه بعض المقاطع السردية، وهنا يذهب د . خالد عباس أستاذ الأدب والنقد بجامعة الجزيرة إلى القول ويضيف د . خالد عباس في تناوله لظاهرة كتابة القصيدة الشعرية بأسلوب سردي أن الكثير من الأعمال الشعرية أصبحت تحتشد بظاهرة التكثيف الرمزي من خلال الأخيلة والرؤى المستوحاة من مدلولات الأساطير والأحلام وعالم الطيور والحيوان وصور الطبيعة من الشمس والقمر، ولا يعبر الشاعر عن واقعه تعبيرًا مباشراً بل ينزع نحو صهر تجاربه وأفكاره ورؤاه في بوتقة وجدانية وإنسانية يمتزج فيها إلهام الشعر بالحدس والانفعال والخيال والرؤيا، وقال إن ذلك يبين عن حقيقة موقفه من تناقضات الواقع وعن سبقه لبلورة رؤياه وأخيلته من خلال حركة الأشياء وجدليتها بوسائل تعبيرية مغايرة لنمط الأساليب الشعرية المعهودة في الأدب الشعري السوداني المعاصر.
ويختم د. عبد الرحمن بالقول إن الفيتوري في العديد من قصائده اتخذ من السرد قالباً أسلوبياً وإطاراً فنياً استطاع من خلاله التعبير عن موهبته الشعرية أولاً ثم الإبانة عن قدرته وتمكنه من الكتابة بأسلوب سردي وفق رؤاه وأفكاره بشكل يشد القارئ ويأخذ بتلابيبه ويجعله مأخوذاً وأسيراً لحكاية بدأت بحياة بطل وانتهت بموته. مشيراً إلى أن بين الموت والحياة سلسلة من الأحداث، لذا يعتبر أن قصيدة ” مقتل السلطان تاج الدين ” جاءت مشتملة على تقنيات سردية عديدة وظفها الشاعر توظيفاً إبداعياً مميزاً ومن خلالها استطاع أن يحقق بعضًا من أهدافه المألوفة في شعره بصورة عامة وهي الثورة على الإنسان الأبيض الظالم المستبد واستشراف المستقبل الواعد بالحرية والأمن والسلام والعدالة. لافتاً إلى أن الرؤية السردية في القصيدة بائنة بشكل لا تخطئه العين، وقد تقمص الشاعر في سرد الأحداث شخصية الراوي المشارك والمصاحب حتى ليكاد يتوهم القارئ أن السارد أحد جنود السلطان تاج الدين وذلك من خلال توظيف بعض الأساليب التي تقتضي أن يكون السارد مشاركاً شخصيات الحكاية في الأحداث كأساليب النداء والأمر وعلى الرغم من جنوح السارد ” الفيتوري ” إلى ظاهرة تعدد الرواة في الحكاية إلا أن الراوي المشارك ظل هو الطاغي هو الرؤية السردية بشكل عام وقد جاء نص الفيتوري في أغلب أحواله محققاً السمة السردية حتى في لغته التي لم تأت كلغة شعرية محضة بل كان السرد حاضراً فيها بقوة، فالشاعر عمد إلى استخدام اللغة السردية وفق ما تقتضيه الحكاية وما يخدمها من خلال سرد الأحداث وسم ملامح الشخصيات أو بناء الخطاب السردي بمختلف عناصره دون أن يغفل خصوصية الشعر بمجازاته وإيقاعاته الخاصة مؤكدًا أن الفيتوري هنا يمكن أن يعد واحدًا من الشعراء الذين استطاعوا توظيف تقنيات السرد بجدارة في صناعة القصيدة الحديثة .
وفاء للمجتمع
والفيتوري في غنائه هذا يسقط كل أحاسيسه ومشاعره على بلاده وأبنائها وهو أمر يتضح في سياق الضمائر المستخدمة في النص (أنا، أنت) التي تبرز في اتحاد تام يصطرع بالحياة. وقد أدرك الشاعر سبيل خلاصه منذ أن نطق بكلمة الحب، وهي التي يراها الطريق لتحقيق إنسانية الإنسان وهي الطريق لإدراك الذات الضائعة وسط مجتمع متضخم بالماديات، فالفيتوري متحد مع واقعه ويعي قضاياه التي يموج بها مجتمعه ويرى أنه لا بد من تهديف الشعر ورسم مسار محدد له للوصول لغايته وقصيدة (عاشق من إفريقيا) تأتي في نطاق القضية الكبرى التي التزم بها الشاعر ونذر لها شعره، قضية القارة الأفريقية التي أخذت تشق طريقها إلى التحرر والانطلاق في دنيا الحياة المعاصرة عبر مجموعة ثورات تشنها ضد الاستعمار والتخلف والتفرقة العنصرية في أماكن متفرقة من أرجائها بغية التحرر والانعتاق من سيطرة وتحكم الغير.
فيها هذا التوجه الشعري الذي سلكه الفيتوري يشكل تعبيرًا عن أشواق الإنسان الأفريقي وتطلعاته نحو المستقبل وتحسس القيود والجرح ومحاولة الوصول لتشخيص دقيق لأزمته ومن ثم السعي في علاجها والتخلص منها وإلى الأبد وتحمل ما ينتج من ذلك من تمرد وتحدٍ وثورات كأنما يريد الشاعر التأكيد التام على التزامة الكامل بقضيته وضرورة تهديف الشعر ليكون له دور في معالجة القضايا الإنسانية الكبرى ذات الطابع الاجتماعي والسياسي والحضاري .
ونشير إلى أن الشعر القديم يرتبط بصورة أساسية بالوزن فهو كلام مقفى موزون بالإضافة إلى أنه كان ينشد إنشاداً ولا يلقى إلقاء كما يحدث اليوم وحالة الإنشاد هذه تناسب الانطباعية والتأثرية التي تميز الشعر العربي القديم إذ يعرف بأنه الجيد من المنظوم الذي يترك أثراً في نفس المتلقي ويخاطب عاطفة المتلقي وهي غاية الشعر القديم، ولكن القصيدة المعاصرة ليست بالإيقاع والوزن المعروف في القصيدة العمودية وإنما تعتمد على الجرس الموسيقي المنبعث من الألفاظ وهي خطاب له مقومات تكوينية لا يمكن فهمها بدونه وهذه المقومات مرتبطة بطريقة إنتاج الخطاب والخلفية والمنطلق الثقافي للمبدع الذي عاش في ظلال العالم المعاصر ومفاهيمه الداعية للانفتاح على الآخر واستحضار ثقافته ليتم التلاقح الفكري والثقافي والوجداني الداعم لعجلة التطور والتقدم بعيدًا عن حالة الانزواء والانكفاء التي فرضتها ظروف تحكمت في تحديد حركة ومسار الفكر الإنساني في السابق وبزوال هذه الظروف لم تعد هنالك ضرورة لأن يتشبث المبدعون بالنماذج القديمة التي ربما لا تتفق مع معطيات الواقع والعصر الآنية حتى لا يدخل الأدب في غربة ثقافية.
الصيحة