ثقافة وآداب، وفنون

عودة دينق مارنق

معاوية ماجد

موجة عاتية عالية تضرب سيقان الأشجار المحيط بالطرف الشرقي للقرية، محدثة صوتا طارت على أثره أعداد من الطيور وهي تتصايح في عتاب اخجل تمرد الموجة المفاجئ فتساقطت رزازا على الصخور المبعثرة تحت الأشجار، وسالت ماء بينها فاحتمل السيل بعض من ورق الاشجار يواري سوأة فعلها ، عم المكان السكون بذهابها فظهر كلب في الطرف الآخر من القرية يطارد عجل هارب من حظيرة البهائم الكائنة خلف أكواخ القرية التي بسطت في تراص يشبه قرني ثور ملقاة على الأرض الممتدة داخل الغابة الوارفة الظلال والمطلة على النهر، لمحاولة إرغامه على العودة إلى الحظيرة والتي يوجد على مقربة منها كوخ قائم على أرض مرتفعة قليلا، تتصاعد من خلال فتحة أنبوب مثبت على جانبه المائل أعمدة من الدخان تحولت بفعل الرياح الى سحب غطت جزء من شمس الغروب ذات اللون الأحمر والسماء من حولها اخضوضبت بمسحات من ألوان متعددة في شكل جمالى مبهر تزينه الطيور العائدة إلى اوكارها، و سحابة أخرى من الدخان ساقها الحنين إلى مشاركة أذناب البقر في طرد الحشرات الباحثة عن ملاذ آمن فوق أجسادها، فمرت فوق راس بنت صغيرة واقفة و هي ممسكة بيديها حبل مُتدلِّي من سياج الحظيرة الذي تم بناءه من أعواد الخيزران، وإلى جانبها الباب المتأرجح للحظيرة يهتز الجزء الأعلى منه بضربات تيار الهواء الذي بدأ وكأنه يعاقبه على البقاء مفتوحا، و نظرات البنت الصغيرة المثبتة في تجاه سقيفة العلف المتخذة من الطرف الاقصى للحظيرة موقعا، تنظر إليه بين الحين والآخر مؤكدة ذلك في اغتياظ، و من ثم تعاود متابعة الاحداث الواقعة امام السقيفة في دهشة و استغراب.
ضوء خافت يتسلل عن طريق نافذة الكوخ يحمل معه همهمات و ضحكات وصوت تحرك أواني يُنبئُ عنْ إستمتاع و لذة جعلت من قطط القرية تحوم حول الكوخ في رقص جماعي وعلى مقربة منها عدد من كلاب القرية باسطة أذرعها بالوصيد ونظراتها معلقة في حميمية بائنة وغير معهودة بالقطط، وتعيد ثباتها بتمني حافل على باب الكوخ الذي بدأ لها وكأنه عظم كبير يسيل المرق على جانبيه، فجأة رفعت الكلاب رؤوسها و توقفت القطط عن رقصها وجالت بنظرها نحو باب الكوخ الذي صدر عنه صرير عندما فتحه رجل في ريعان الشباب، ظهر وهو يحمل بين يديه إناء ممتلئ من بقايا الطعام، توجه صوب بساط صنع من سعف وخصص كإناء لاطعام للكلاب والقطط،  فتبعته وهي تهز أذيالها فرحة وشاكرة سيد القبيلة على هذه الوجبة الدسمة، بينما صياح الديوك الآتي من خلف سقيفة اجتماعات سيد القبيلة تظهر قدوم آخرين للمشاركة في هذه الوجبة، والجزء الواقع على يسار كوخ سيد القبيلة من سقيفة الاجتماعات تعلو سطحه أغصان من نبات دموع المسيح التي تسللت نورا داخل الكوخ ..
ــ اشكرك كل الشكر سيد مارنق على هذه الوليمة الفاخرة وكرم الضيافة وحفاوة الاستقبال.
ــ العفو سيد عبدالله أنتم أهل دار .. حللتم أهلا ونزلتم سهلا يا مرحبا.
ــ سيد مارنق أنت سيد هذه القبيلة التي نفخر بأن بيننا مشتركات إنسانية عميقة و ثقافية ضخمة و نيل يمتد بيننا بالخير و يغذي الحياة في شرايننا، لذلك نأمل بأن نعمل معا على بناء مفاهيم للتعايش السلمي و مد جسور التواصل بيننا في كافة المجالات، لان في وحدتنا قوة و أدوات للبناء، لذلك نريد أن نستقرئ ملامح مستقبلنا بفكر (الفين توفلر) و نصدق النبوءة بأفعالنا وطموحاتنا، نحن في الطرف الآخر من النهر صحيح أننا في تباين فكري واضح و رؤى مختلفة في كافة المجالات، إلا أننا تواثقنا على دستور الآباء المبني على الوصية في حب الأرض وقبول الآخر، فصار معيار وطنيتنا في الالتزام الصادق في البناء و التعمير.
ــ صدقت يا سيد عبدالله، المشتركات العميقة بيننا كان ينبغي أن تكون حصن منيع ضد طلاب التفرقة ومناصروها، نحن نريد لنظرة (ألكسيس دو توكفيل) العميقة تجاه النظام الذي أسسه الآباء الكبار في أمريكا، أن تكون لنا نبراسا وهاديا لوضع لبنة الدستور المشترك الواحد بيننا للبناء والخلاص، أن تعميق الجراح بصراع المتخيلات الإثنية ينبغي أن يضمده سعينا نحو تعميق البعد المعرفي والإنساني و سكب اصول هذين البعدين في منهج تفكيرنا، ابني دينق ترك دراسته في إحدى مؤسساتكم التعليمية للمضايقات المستمرة ونعته بتوصيف شائن بالرغم من التحذير والنهي القاطع في معتقدكم عنه، وهو كان ومعه أخريات بمثابة الشرارة التي أشعلت الحريق ونشرت دخان التفرقة والانفصال.
ــ سيد مارنق ابنك دينق هو المستقبل وهو مثال للطالب المثابر المجتهد، أن أقرانه يطلقون عليه اسم (صاحب النظرة الثاقبة)، و اصدقك القول سيد مارنق عندما التقيت به للمرة الأولى في ركن المتحدثين في الجامعة و هو بصحبة أجا كير ابنة أخي من اختكم السيدة ماريا رأيت فيه تلك الصفات وأكثر وازيد عليها بأنه صاحب إلقاء خطابات تحفيزية ملهمة.
دخل دينق الكوخ بعد إطعامه للكلاب و القطط من بقايا الخير وسلم على ضيوف والده بكل الخير و جلس إلى جوار والده مارنق تسبقه اطباق محملة بأنواع مختلفة من الفواكه يحملها نسوة من القرية يرتدين زي “اللاوا” بألوانه الزاهية، وضعت بترحاب على مائدة الطعام الممتدة بالكرم.
ــ نياكيم .. نياكيم ..! !
امرأة مسرعة نحو حظيرة البهائم و هي تنادي بصوت مرتفع و غبار خطواتها يسابق أنفاسها.
ــ نعم يا والدتي انا هنا .. هنا يا والدتي تاراجا.
اشارة بيدها الصغيرة و الاخرى ممسكة بالحبل المُتدلِّي من سياج الحظيرة.
ــ هل رايتي دينق ..؟
ــ نعم لقد رايته قبل قليل وبصحبته أجا كير يدخلا الحظيرة جريا .. ! ! لحقت بهم لكنني لم أتمكن من الدخول لان باب الحظيرة ثقيل لم أتمكن من فتحه.
ــ وهل دينق تركه مفتوحا هكذا ..؟ ! !.
تساءلت تاراجا بغضب و هي تنظر نحو الباب.
ــ نعم انه دينق تركه مفتوحا وتمكن عجل من الهرب عبره.
أجابت نياكيم و هي تنظر ناحية سقيفة العلف و أردفت قائلة:
ــ والدتي العزيزة تاراجا لقد رأيت دينق يصارع أجا كير و يعضها في شفتيها و يحملها بين ذراعيه و هي تصرخ الى داخل السقيفة، انني اخشى عليها منه فهي كما تعرفين صاحبتي.
ــ لا عليك سوف أتولى هذا الأمر، واساعد أجا كير على الخلاص منه، الآن عليك بالرجوع الى الكوخ لشرب الحليب.
ردت تاراجا و هي تتجه نحو السقيفة عبر باب الحظيرة الذي سبقها إليه عجل عاد مسرعا باحثا عن والدته، بينما نياكيم رجعت عائدة الى الكوخ و بصحبتها كلب يلهث و يهز في ذيله.
اقتربت تاراجا من الجدار الخيزراني للسقيفة خلسة و من بين اعواده المتفرقة قليلا تمكنت من مشاهدة ما يجري بالداخل، رات دينق يخرج  شيء من بين فخذيه بدأ لها وكأنه ثعبان أسود اللون ذو رأس غريب و هو يطارد أجا كير بين جوالات العلف البلاستيكية المتراصة فوق بعضها البعض و فجأة يجذبها اليه و يرمى بها فوق كومة من العلف ويختفيا بداخلها بضعة ثواني ثم ينفلق كوم العلف وتخرج ساقي أجا كير بقدمين حافيتين ترجفين وهما يصارعان في الوصول إلى سقف السقيفة في محاولة منهما حتى تسنداه من الوقوع..!!
ضحكت تاراجا بصوت سمعته كالهسيس وهي تنظر إلى اهتزاز الرغبة الفاعلة في خبث، حسبتها طقوس إليو سينية فاشاحت بوجهها عنها و هي تخطو الى الوراء و تنظر الى عجل مسرع نحو والدته و يلتقم ضرعها في شوق و ترحاب، ثم التفتت ناحية سقيفة العلف منادية بصوت عالي:
ــ دينق .. يا دينق .. والدتك تأمرك بالحضور فورا لتستقبل مع والدك الضيوف القادمون، أنهم على وشك الوصول.
.
ــ نعم يا عمتي تاراجا  .. سمعا وطاعة إنني قادم على وجه السرعة ..
رد دينق و هو يرفع راسه عن صدر أجا كير وعلف البهائم يتطاير من حوله كحروف نوتة موسيقية كان العازف لها و أجا كير المغنية، و حروف المباني تشكلت في صوتها لوحة سريالية علقت على أستار شهقة المتعة المتوسدة تأوهات نزق عشق لامست الثريا.
منحوتة لحصان ذو قدمين مرفوعين، صنعت من خشب الأبنوس و وضعت على طاولة من فوقها علقت لوحة لفنان مغمور، و جزء من شعاع اضاءة الكوخ مسلط عليها، و تمد بعض منه خلسة الى المنحوتة أسفلها، بينما عبدالله يجلس قبالتها يتأمل الفكر فيها برهة، ثم فجأة يشير إليها قائلا:
هذه الزاوية التي تضم اللوحة والمنحوتة تذكرني بمتحف اللوفر في باريس ومتحف المتروبوليتان في نيويورك، هذين المتحفين يضمان أثار من جميع الحضارات البشرية الشيءُ الذي ينبئك بأن إنسان تلك الحضارات آمن بالفن و ارتقي به.
ــ فعلا فعلا لقد صدقت في ذلك يا سيد عبدالله، الفن الحقيقي بكافة انماطه و تفرعاته  يرتقي بالنفس الإنسانية والوجدان،و يهذب سلوك الأفراد، وهو أمر ينبغي أن يوظف في المناهج التربوية لإعداد جيل يرتقي بمجتمعه، غالب الخلافات البشرية هي اخطاء في التعبير و تناول المواضيع، لذلك اذا امعنا النظر في هذه البقعة السوداء للإنسانية و اسقطناها على قول لاوتزه “الموسيقى تأتي في المرتبة الثانية بعد الصمت ، عندما يتعلق الأمر بما لا يوصف.” لذلك نجد بأن هنالك فعلا دروب في الفن تعالج و ترتقي بكثير من القضايا، اتمنى ان نعمل معا يا سيد عبدالله على اقامة منتدى يكون شعاره “الفن يجمعنا”، وأن يكون بداية لفعاليات أخريات تعيد اواصر الاخاء و الانتماء.
قالها دينق وهو يمعن النظر فيمن حوله و يرشف من فنجان القهوة الذي بيده.
ــ انا اوافقك الرأي يا سيد دينق و لا اشك في موافقة والدك على هذا المقترح الذي سوف يكون مدخلا لصفحة علاقات دلالية مفاهيمية و بوتقة ذوبان للتلاقي في روح المكان بجسد واحد.
جاء رد عبدالله و هو يمد خيوط التلاقي بين الجالسين.
ــ فليكن ذلك إذن ..
قالها مارنق وهو يقضم التفاحة التي بين يديه في تلذذ جعله يعدل من جلسته.
ــ هنالك أمر آخر يا سيد مارنق .. يشرفني ان اتقدم طالبا يد ابنتكم لقاء لابني محمود، واتمنى ان ينال طلبي هذا القبول عندكم.
قالها عبدالله وهو ينظر الى ابنه محمود الذي تراءت له ملامحها فرقص فؤاده و رحبت روحه لأجل حضورها الطاغي في مخيلة الحاضر.
ــ مبارك لنا جميعا هذا اللقاء المحمود..
قالها مارنق وهو ينهض من مجلسه فاتحا ذراعيه لعبدالله في حب واخاء. وصوت مؤذن آت من بعيد و هو يردد حَيًّ عَلى الفَلاحِ..
تقدم عبدالله خطوة نحو مارنق و هو يردد:
ــ و دعونا نقول ايضا للسيد دينق ..
تعال
إلَى وَطَن ليكتمل الْجَمَال
حُبًّا
بروحك
وَسِحْر الْخِصَال
فِيك
تَعَال
الى ديارك
كي تَجْذِب الْأَمَلُ إلَى شرايين الْمُحَال
وتضخ الأُكْسِجِين
عِشْقًا
فِي جَسَدٍ الْمَكَان
حَاضِرًا
وَغَدًا
وقبلة تتوسد
صُوَر اللِّقَاء
وَوَحْدَة آلعآشقين
تعانقا في صمت مشرق و فسيح..
تحرك الركب تحفه زغاريد الوداع، و الاكواخ التي بدأت من عل كأنها قرني ثور مضاءة بهبة الغفران تمد النهر المتلألأ كعقد ماس على جسد الحياة بالسلام لسكان الطرف الآخر.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..