
(١)
ربما يمثِّل حوض الحجر الرملي النوبي أضخمُ إحتياطيٍ للمياه الجوفية العذبة على مستوى العالم، ويطلق عليه في الانجليزية إسم
The Nubian Sandstone Aquifer System (NSAS)
هذا الحوض الذي تتم تغذيته من نظام نهر النيل، عبارة عن خزان جوفي عملاق، تبلغ مساحته ما يتجاوز المليوني كم²، وتتشارك هذه المساحة المتصلة أربعة دول هي السودان، مصر، ليبيا، وتشاد .. وقَّعت هذه الدول في فيينا عام 2013 على إتِّفاقيِّة للتعاون الإقليمي أُنشِأت بموجبها “الهيئة المُشتركة لتنمية ودراسة وإستخدام خزان الحوض الرملي النوبي” …
أمَّا إجمالي حجم هذا المخزون الخُرافي من المياه، بحسبِ أحدث التقديرات ذات الموثوقية، فهو في حدود 457.550 كلم³ (كلم³ = مليار متر³) أو ما يُعادل إيراد نهر النيل السنوي لخمسةِ آلاف عام تقريباً ..
(٢)
وِفقاً لأكثرِ الدِراساتِ تحفُّظاً، يحوزُ السودان على 18% من مساحة هذا الحوض، إذ أنَّ إجمالي ما يقع في بلادِنا يبلغ 376 ألف كم² تغطي ولايات شمال دارفور، شمال كردفان، والولاية الشمالية …
إذا ما إستعِنَّا بِحسابِ النسبة والتناسب، فإنَّ نصيب السودان من الحوض يبلغُ حوالي 83 ألف كلم³ من المياه العذبة، أي – لتقريبِ الصورة – أكثر من أربعة آلاف ضعفِ حصة السودان السنوية من مياه النيل (راجع ورقة رايان دوزال في الدوريَّة المتخصصة بانغايا جورنال)..
(٣)
لا غَرْوَ إنَّ دولتي مصر وليبيا العَطِشتين كانتا وما تزالان، في سعيٍ دائمٍ محموم لضخِّ أقصى ما تستطيعانِ من مياه هذا المخزون الهائل للحوض، فقد كانت ليبيا، منذ منتصف ثمانينيَّات القرن الماضي في طليعةِ المبادرين بذلك عبر تدشين رئيسها معمر القذافي لما أُسميَ بالنهر الصناعي العظيم الذي يسحبُ يومياً حوالي 6 مليون م³ من 1300 بئرٍ في جنوب ليبيا، موزعة ما بين مناطق الكفرة، السرير، وجبل حسونة ..
أما الجارةُ مصرُ فتحيطُ حجم سحوباتها بسريةٍ تامةٍ ومُريبة، غير أن ما يتواتر من أنباءٍ يشي – مثلاً – بأنَّ مشروعها في شرق جبل العوينات على حدودها مع السودان وليبيا، (بمساحته الحالية 220 ألف فدان وإمتداده البالِغ 500 ألف فدان أُخرى)، يجعلها تضخُّ حوالي 3.5 كلم³ من المياه سنوياً، هذا إضافةً إلي سحبِ كمياتٍ غير معروفة حتى الآن لإستصلاح أراضٍ تقع في تخوم واحاتها الغربية ..
(٤)
دولة تشاد لم تدخل إلا مُؤخراً في حلبةِ التسابق لضخ مقادِيرَ غير معلومةٍ حاليَّاً من مياه الحوض النوبي .. أما السودان فمن اللَّافت إنَّه يسحبُ بالكاد 0.84 كلم³ سنويَّاً من كنزه المائي العملاق، وهو قدر جدُّ ضئيلٍ مقارنة بالممكن المُتاح ضخِّهِ، فنصيب السودان من مخزون الحوض النوبي لوحدِهِ يُناهز مئة ألف ضِعف هذه ال 0.84 كلم³ .. فالكميَّة مهولة، حتى ولو بالغنا في الحذر وإفترضنا إن السحب الآمِن منها هو نِصفْ الممكن .. وكما قد يُلاحظ القارئ الحصيف، فقد تعمَّدنا في مقامِ حديثنا عن الحوض النوبي تجاهُل مخزونات المياه الجوفيَّة الإضافيِّة في عددٍ من المصادِر المهمة الأُخرى كحوضَي البقارة وأم روابة، وأحواض أودية المقدَّم، الملك، وهور …
(٥)
وحديثُنا عن السودان ذو شجونٍ شتى من عدَّةِ أَوجُهْ:
# ففيما عدا المناطق التي يحوي باطنها صخورٌ قاعديَّة، فإنَّ بإمكان البلاد نظرياً الإستفادة من هذه الثروة بضخِّ مليارات الامتار المكعبة من مياهها الجوفية كما ترى، وتوظيفها في رَي ملايين الأفدنة ..
# من وجهٍ ثانٍ، فإنَّ مما يُدمي القلبَ أن يُهِدِرَ إقتصادُ البلاد البلايينَ من ساعاتِ العمل بسبب تِسفارَ مواطِنينا في أريافِ عدَّةِ ولايات لِعشراتِ الأميال على ظُهورِ الدواب لِيملأَ الواحدُ منهم ” خُرْجَاً ” لِشُربِ يومهِ، فيما يَقبُعُ الماءَ تحتَ أقدامِهِ للأسف !!..
# أمَّا ثالثةُ الأثافي، من وجهٍ أخير، فإن هذه المياه كان بإمكانِها إطفاءُ نار الحربِ في دارفور منذ وقتٍ طويل، لو تعاملَ كُلٌّ من نظام الإسلامويين المقبُور والمجتمع الدولي مع مُعضِلة الحربِ – حينَ نُشُوبها – بحصافةٍ إفتقدها كِلاهُما !!! ..
للبروفسور عبد الله علي إبراهيم رأيٌ سديد – فيما يَلِي الصراعَ في دارفور – ما زال يُوالِي الإلحاح عليهِ في كتاباتٍه الراتِبة ، فقد ميَّز مُحِقَّاً بين التحليل المادي الماركسي للنِزاع، الذي تبناه وأسماه بِ “نهجِ الحاكورة”، في مقابل نقيضِهِ “نهج الأرومة” الذي وجَّهَ إليه سِهامَ نقدِهِ الحارق لأنَّه ينظرُ إلى هذا النزاع بإعتباره عرقياً/ثقافياً بين “عربٍ وزرقة”! .. ويجدُرُ بنا أن نُشير أيضاً الى مساهمة د. محمد سليمان في كتابه القيِّم “حروب الموارد والهوية” الذي نظر الى القضية من عينِ زاوية التحليل ذات النزعة المادية الكاشِفة لطبيعتِهِ، والتي خلُصت إلى كونِهِ صِراعُ بقاء، لا حربَ أعراق وهويَّات كما إعتقادِ العوام وسابِلةِ السياسة ..
لا نُغفلُ دور بعض العوامل الثانويَّة في إضرامِ الحريق، لكن من شاءَ من المُثقَّفين توطين سياقات/تداعيات نزيف الإقليم في علم الاقتصاد السياسي، فسيجد ببساطة إنه قد كشَّر عن أنيابه بالأساس في تلافيفِ ملابسات تفاقم صراع الرعاة والمزارعين على مواردٍ مُتناقِصة، تسبَّبتْ في شُحِّها وضُمُورها تبدلاتٍ مناخيةٍ سالبة أدت الى تصحُّرِ المراعي وتقلُّص مساحاتها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فيما ألهبَ أوارُ التنازُعِ حول هذه الموارد تدفق السلاح في ثنايا تعقيدات الحروب الليبية/التشادية والتشادية/التشادية التي إتَّخذت من دارفور أحياناً بعضاً من مسارِحها وميادِينها، ضغثٌ على إِبالة ..
(٦)
علاوةً على الكُلفة الإنسانية الباهظة من ضحايا، ومن دمارٍ بليغ للبنى التحتية وتعطلٍ للإنتاج، فقد صرفت حكومة المخلوع البشير، وفقاً لدراسة أنجزها د. حامد التيجاني، حوالي 24 مليار دولار على الحرب الدامية في دارفور، فيما أنفق المجتمع الدولي منذ عام 2007 أكثر من 17 مليار دولار أُخرى على قوات اليوناميد لحماية المدنيين في هذا الإقليم المنكوب!!! ..
أجدني على يقينٍ راسخٍ من إن رُبعَ هذا المبلغ الجسيم، ومجموعه 41 ملياراً من الدولارات، كان كفيلاً بتحويل دارفور الى فردوسٍ لو تم إستثمار هذا الرُبعْ في حفر آلاف الآبار وسحب مياهها بمضخاتٍ تعمل بالطاقةِ الشمسية، لو تم الإنفاق على البِنى التحتيَّة، ولو إستثمرنا في زراعة المحاصيل، إستزراع الغابات، ونثر بذور الحشائش بالطائرات إعماراً للمراعي.. كان أيضأ من الممكن تغيير نمط حياة الرعاة وإبدال ترحالهم إستقراراً في مزارعَ حديثة تجنِّبهم وقطعانهم شرور التعدي على حواكير المزارعين التي تخسرُ فيها كل الأطراف، لكنني دوماً ما أُردِّدُ أسيفاً كسيفاً القول السائر”لمن تقرأُ مزاميرك يا داؤود”!! …
(٧)
الآن، وبعد أن ودَّع السودان عهد “عُزلته المجيدة” وطبَّع علاقاته مع العالم، دولاً ومؤسسات، وبعد أن قطع شوطاً مرموقاً في مِضمارِ تخفيف عبءَ ديونه، فإن الفرصةَ تبدو مواتيةً لتلافي عجزنا المُتطاوِل عن إهتبال فرص توظيف موارد الحوض النوبي في النهوض بالإقتصاد الوطني والعبور به الى فضاءات الكفاية والرفاه .. غير خافٍ إن ذلك لن يتأتى ضربة لازب، لات حينَ مناصٍ لنا من تفكير إستراتيجي خارج الصندوق، يُوظِّفُ كنزنا الكامن – من بين تدابير أخرى بالتأكيد – كأولويةٍ تبدو جليلةَ الإلحاح للعاقِلينْ، بلا فِصالٍ … نزعمُ ما أوردنا وفي البالِ تكالُبِ دولِ الجوار على مخزون الحوض وضخِّها الجائِر لمِياهِه بما يُخفِّض من مُستوياتِهِ خصماً على نصيبِ السودان في المُنتهى ..
والفرصةُ أيضأ تبدو مواتية لأن البلاد موعودةٌ بتدفقاتٍ مليارية من المانحين، قروضاً وهبات .. ندعوا إدارةُ حصاد المياه بوزارة الري لتُبادر وتشرَعُ فوراً في إستيراد 10 حفارات إيطالية محمولة، بأعماق حفر مؤثر تصل حتى 1000 متر، (لا تتجاوز قيمتها الكلية 7 مليون يورو)، وتوزيعِها على عدد من الولايات لحفر آلاف الآبار للسُقيا وللزراعة .. إن تحققَ ذلك فستشتَعِلُ صحارينا ” قمحاً ووعداً وتمنٍ” ونكون قد قطعنا شوطاً مُؤثِّراً في إتِّجاهِ الكفايةِ والرُفاه ..
لنا عودة..
[email protected]
هوامش:
هوامش:
عن الحوض النوبي راجع ورقة رايان كارل دوزال في
Pangaea Journal
https://sites.stedwards.edu/pangaea/the-nubian-sandstone-aquifer-dispute/
راجع أيضاً ورقة د. إلينا كادري على الرابط
https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://www.iwra.org/member/congress/resource/ABSID249_ABSID249_Paper_Quadri_Elena2.pdf&ved=2ahUKEwj2mbmFxL3xAhVRM-wKHcGRBY0QFjAAegQIAxAC&usg=AOvVaw3mz7ZdOGLgNEBT8I1XXVcD
دراسة د. حامد التيجاني على الرابط
https://www.al-watan.com/news-details/id/95024
احد مقالات بروفيسور عبد الله علي إبراهيم عن ازمة دارفورعلى الرابط
https://www.sudaress.com/sudanile/32298
Very good informative article. I hope you be able to put more economic analysis
Thanks Osman Albakheit
كلام مرتب ومنطقي، يجب ان يضمن في مقررات المدارس ويا ريت وسائل اعلامنا تستضيفك لعكس اهمية الموضوع ن وتشارك به في مؤتمرات جادة لحل ازمات بلادنا. لك التقدير
بحث رائع يبث الأمل في النفوس التي أمتلأت يأساً من قرف السياسيين ، ولكن فعلاً لمن تقرأ مزاميرك يا داؤود ، نتمنى أن يجد أذناً صاغية من جيل الثورة رواد الغد .
لك التحية أستاذ خالد. هذا هو النوع من المشاركات اللي تخدم الوطن وتزرع الامل في نهضة ننتظرها جميعا تعم كل ربوع وطننا العظيم. شكرا وننتظر منك المزيد.
عهدنا بك و بمقالتك المحكمةوعلميتها الموثقة و معلوماتها الثرة و صياغتها الرفيعة و وطنيتها الصادقة.
هكذا ينشر الوعي لتبنى الأوطان
لك كل التحايا كاملة غير منقوصة
ممتاز..مزامير داوؤد عزفت منذ حوالي 40عاما أو يزيد!فقد تصفحت اطلس،يلخص دراسة قام بها برنامج التانية التايه التمن المتحدة..خلال أعوام 76-78في مكتب مدير ابحاث المياه الجوفية.والحوض النوبي نعرف قبل هذا التاريخ..
في مؤتمر حول مرتكزات الانتاج الزراعي،بقاعة الشارقة،تكلم د.عبدالرازف وهو من اميز خبراء المياه في السودان.وذكر انو منسوبه المياه بدا يتناقص..وقدره بحوالي 3امتار..
لعلكم لاحظتم الاستثمار الزراعي في شمال السودان والذي يعتمد علي مياه الحوض النوبي وهي مياه تطلق عليها كلمة فوسيلFossilيعني قديمه خالص وبقدر عمرها بحوالي 10000عام. لذلك مثل هذا الاستثمار في الوقت الحالي وبمحاصيل غير مجزية بشكل خطرا علي مستقبل الاستثمار في السودان…لانه ببساطة ييتنزف هذه المياه..اذن علينا في الوقت الحالي أستخدام حصتنا في مياه النيل..
ونارك مياه الحوض النوبي العراض الشرب،وفي مجالات السياحة والتعدين.
خلال عهد عبد الناصر،تم أستخدام المياه الجوفية في مشاريع زراعية كبيرة وكانت النتيجة كارثية..
الأعزاء عثمان البخيت، علي، ابو الزين، ابو جاكومة، والشفيف دوما شايف ..
اثلجتم صدري بمروركم الكريم على ما كتبت وتغريظكم محتواه ..
لكل واحد منكم تحياتي واكيد محبتي، فمنكم نستمد طاقة الكتابة ..