مقالات وآراء

بعض ذكريات .. شوقي أنا للبلد بي حالا والشوق لي تراب أهلي (1)

أحلام إسماعيل حسن

سهرنا تلك الليلة حتى ساعة متأخرة بسبب الفرحة التي غمرتنا لقرب سفرنا إلى البلد بصحبة والدي لخوض انتخابات الدائرة التي ترشح فيها بالمديرية الشمالية، كان كل واحد منا يرسم سيناريو لتلك الرحلة، ويطلق لخياله العنان لوضع تصور خرافي، كل منا حسب عمره، ومخزونه عن تلك البقعة العزيزة من الوطن التي تعيدنا إلى جذورنا.

صحونا باكراً رغم معاناة السهر، لكن ما عشعش في دواخلنا من فرح أزاح عن كاهلنا أي إحساس بالإرهاق، وصلنا محطة القطار وسط الخرطوم حوالي الرابعة فجراً، نحمل أمتعتنا الشخصية إضافة إلى كثير من الطعام (الزوادة) الذي قضت والدتي يومين قبل تاريخ سفرنا وهي تعده استعداداً لمفاجآت الطريق التي لا يعرف أحد كم من الوقت سنقضيه لنصل إلى وجهتنا النهائية (كريمة).

دلفنا إلى إحدى عربات القطار، عددنا كان كبيراً، فضلنا أن نكون بالدرجة الثالثة حتى نستطيع أن نكون سوياً، نتسامر ونقتل الملل الذي يـولد عادة أثناء السفر، أذكر أنَّ مجموعتنا تتكون من شقيقتي أماني، وأخي وليد، وابن خالتي الفاتح، وأبناء عمي شرف وبهاء، وثلاثة من أصدقاء وليد.

كان فرحي يزداد كل لحظة أشعر فيها أنَّني في طريقي لألتقي أهلي الذين غرس إسماعيل حبهم في كل خلاياي بحديثه الجميل عنهم، حتى أحسست أنَّني أعرفهم قبل أن أراهم، ووددت أن تــُطوى لي الأرض، أو أن تصير لي أجنحة تحملني إلى أهلي الحــُنان، وسط النخيل على ضفاف النيل العظيم.

رغم أنَّ الوقت باكر، إلا أنَّ محطة القطار بالخرطوم كانت مكتظةً بالمسافرين والمودعين، والباعة الذين يرتزقون من هذا التجمع، بعضهم يبيع الماء، وبعضهم يعرض المأكولات، وآخرون يبيعون الشاي، وبعضهم يبيع الصحف اليومية التي يقبل عليها المسافرون ليتسلوا بها أثناء السفر، ومن ثم يهدونها لأصدقائهم الذين سيتعرفون عليهم أثناء السفر، وقليلون يحتفظون بها لدفعها لإخوانهم عند وصولهم إلى ديارهم، حيث كان يتعذر وصول الصحف إليهم في ذلك الزمان.

حجزنا أربعة كنبات وضعنا عليها فراشنا، وكان هذا يكفي للإعلان عن حجز المكان في عربات الدرجة الثالثة، اكتظت العربة بمجموعات شبابية من الجنسين، وصرت أجول بنظري، أتفحص أوجه المسافرين، وأشعر أنَّ الكل فرح بتوجهه إلى الشمال، لكنَّ إحساسي بفرحى كان أكبر، جلست وشقيقتي أماني بجوار نافذة القطار نراقب من خلالها جمهرة المسافرين وهم يحتضنون مودعيهم، وآخر يهمس بالوصايا لأحد المسافرين بصوت بين السر والجهر، ويعليه تعبيراً عن التشديد على عدم إهمال وصيته.

كانت أختي أماني تشاركني هذا التألق والتأمــُل في تلك الوجوه التي تتجمهر حولنا، تحرك القطار عند الخامسة صباحاً يزفـــُه هذا الأزيز الصادر جراء احتكاك عجلاته الحديدية بالقضبان الحديدية، في تلك اللحظات سالت دموع وانقبضت قلوب وارتفعت أياد بالوداع، حينها جلس الباعة تحت ظلال متفرقة يجردون ما تبقى من بضاعتهم، ويحسبون ما دخل جيبهم من نقود استعداداً لجولة تسويق أخرى لقطار يستعد لصف عرباته، أمَّا داخل القطار فقد استقر كل واحد في مكانه، ودب الهدوء بين المسافرين، وتسارعت حركة سير القطار محدثة إيقاعاً موسيقياً يساعد على استرخاء المسافرين، وربما دفع بعضهم للنوم تعويضاً عن تعب أيام سبقت سفرهم.

كنت حريصةً على متابعة محطات القطار التي سنمر بها في طريقنا للشمال، وكأنَّني بذلك أشكر لها تقريبي إلى وطني الصغير ولو خطوة واحدة. الآن عبرنا كبرى النيل الأزرق ليتوقف قطارنا في أولى محطاته، وقرأت اللافتة التي تقف وسط مبنى مكاتب السكة الحديد الخرطوم بحري، لم يتوقف بها كثيراً حتى واصل سيره، وبعد وقت قصير هدأت سرعته استعداداً للوقوف في محطة أخرى، قرأت على واجهتها (محطة الكدرو)، ثم تحرك ليقف بعد زمن تخللته بعض غفوات مني ومن معظم المسافرين بمحطة أخرى، هي محطة (الجيلي) التي تزاحم باعتها يحملون بضاعتهم التي يتكون معظمها من الجوافة التي اشتهرت بها منطقتهم، فتهافت عليها المسافرون، خاصة الذين اعتادوا على ركوب القطار، فحفظوا محطاته وما اشتهرت به من مبيعات، فهذه تتفرد بـ (الفرادة)، وهذه بـ (اللبن الرايب)، وتلك بنوع ما من الفاكهة، وأخرى بشاي اللبن واللقيمات، كذلك كان نصيب (الجيلي) من توقف القطار قليلاً، تحرك بعدها ليعبر المحطات والسندات الواحدة تلو الأخرى في رحلته إلى أرض الشمال.

رغم إصراري على الاستيقاظ للتمتع بحركة القطار ووقوفه في كل محطة، إلا أنَّ الإرهاق نال مني ومن الكثيرين، فاستسلمنا للنوم مع حركة القطار التي تساعد على الاسترخاء، وكنا نستيقظ أحياناً على حركة تحرك القطار بعد توقفه نتيجة لتلك الهزة القوية التي تصحب بداية تحركه، وأخيراً وصلنا إلى محطة شندي التي تظهر عليها معالم المدينة، وتزداد حركة المغادرين والواصلين إليها، مما يجعل مدة الوقوف بها أكبر من المحطات التي سبقتها.

عندما قرأت اسم شندي تراءى لي الفنان المبدع الشفيع يترنم بكلمات ودالقرشي:

القطار المرَّ

فيهو مرَّ حبيبي

ليه على ما مرَّ؟

كان نلت مقصودي

كان هنالك حادث أليم، وقع لأحد المسافرين قبيل وقوف القطار في المحطة، حيث سقط ذلك المسافر من القطار أثناء محاولته القفز من عربة إلى عربة أخرى، مما استدعى نقله إلى لمستشفى، وانتهزت مجموعتنا الشبابية هذا التوقف، فافترشنا الأرض، وبدأنا نتسامر فرحين بهذه الرحلة، خاصة أنَّ معظمنا كانت هذه هي تجربته الأولى مع السفر بالقطار، وبدأ بعض الشباب في الانضمام إلينا، ومن الذين أذكرهم شابة من مروى تـُدعى (نفيسة)، عرفتنا بنفسها، وقال إنَّها تعمل في التلفزيون، وكان بصحبتها شاب يـُدعى (صلاح نصر آدم) انضما لشلتنا، كذلك بعض الشباب كانوا يستغلون درجة أولى تنازلوا عنها مفضلين الدرجة الثالثة ليستمتعوا بصحبة مجموعتنا، وهكذا صرنا نشكل عددية كبيرة، تبادلنا الحكايات والشعر والغناء.

وبعد تحرك القطار وحلول المساء، استسلم الجميع للنوم، وبقيت أقاوم النعاس مستعينة بتلك السويعات التي نمت فيها في بداية الرحلة، لم يكن هنالك شخص يشاركني اليقظة إلا شاب جلس في الكنبة المقابلة، يحتضن مسجلاً ينبعث منه صوت طنبور حنين، وصوت طروب للنعام آدم:

الزول الوسيم في طبعه دايماً هادي

تابعت الأغنية وجلسة الشاب الذي كان يمد رجليه ليضعهما فوق إحدى الشنط الموجودة أمامه، استبدل ذلك الشاب شريط النعام بشريط آخر، ودون وعي كسرت كل الحواجز التي بيننا وطلبت منه أن يعيد شريط النعام، لم يسمع كلامي معه، لكنه فهم أنَّني أتحدث معه، فقلل صوت المسجل مستفهماً عن حديثي معه، فأعدت عليه طلبي بتشغيل شريط النعام، فبدت الحيرة على ملامح وجهه، ورد علي بطريقة تعلوها دهشة:

-انتوا كمان ناس الخرطوم شن عرفن بي أغاني النعام؟

فأفهمته أنَّني أعشق فن الطنبور، كأنَّه يختبرني ليتأكد من قولي، طلب مني أن أذكر له بعض أغاني النعام، فذكرت له أكثر من أربع منها، وذكرت له أنَّني أطرب كثيراً لأغنية (طاريك يا أم درق)، حينها لم يصدق الشاب ما سمع!! كيف لمن ظنها أنَّها تجهل الفن الشايقي ترد بهذه الإجابة؟! جلس على أرضية عربة القطار، سمعته يقول بصوت خافت كأنه يحدث نفسه:

-زولتك طلعت شايقيي مية في المية، يمين أنا قايلا خواجية!!

ثم رفع صوته بعد أن تنحنح وسألني عن وجهتي التي أريدها.

نواصل..

المصدر: مداميك

‫4 تعليقات

  1. كأنما نحن معك في قطار كريمه..
    في انتظار الحلقة الثانيه، اتمنى ان تمتد الحلقات الي اكثر من اثنين خاصة وانت في ديار الشايقيه الثرة الغنيه بارثها الذي عم كل السودان،، وبمعية والدك الشاعر الفذ اسماعيل حسن عليه الرحمة..

  2. يعني نفهم حق الشايقي /اولا اغلب ناس الطمبور بديرية واسماعيل حسن بديري ونقدر نسمي لكم الالوف./نحن شارببن الشمال شراب دون عنصرة منكم

  3. سردك ممنع و مليان بروح متشوقة للبشر و الاشياء و الاصوات. اتمنى ليك النجاح و التوفيق. بالمناسبة كان عندي مساهمة مماثلة تتحدث عن تجربة حقيقية اسميتها “من أهل العوض راكب القطر طالع من باريس ماشي اسبانيا”.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..