صورة..!

عثمان شبونة
* (ميم) فتاة عادية؛ لا تجاهر بشيء سوى فتنة مندسة وراء هندامٍ كثيف.. يشتهيها فتية السوق؛ فلا يجدون فرصة مع شيطان المساء؛ إذ تغادر بآنيتها (قبل أن تنام العتمة في الدروب).. تغني رغم أن الليل يحبو في حدادِه داخل كربة الزمن السوداني..!
“إِشتقت ليك..
ساعة المَسَا فرَد الجناح
لَمْلَمْ مصابيح النهار
والعتمة نامت في الدروب
والليل لِبِس أجمل وشاح”
لم تترك الهواجس الثقيلة ومدارج الهَم وشاحاً يخبيء حزنها؛ أو شارعاً يتسع بمودة صافية كضمير الطفلة (نور) التي ترافقها أحياناً.. ونور هزتني مرة عندما كنت أسامرها في زقاق لبيع الطعام بالسوق العربي.. كانت طفلة تبدو أكبر من سنواتها الأربعة؛ لديها إجابة لكل سؤال بلسان نشِط ممراح؛ إلّا سؤالين عفويين: (بتحبي الله)؟ فتومئ برأسها مسرورة.. (هو وين)؟ فتبتسم صامتة؛ تشير لعينيها بأصبعين نحيفين ثم تغمضهما طويلاً وبقوة! فاتشاغل بقلبي ما بين ودٍ وعطفٍ وبعض رعشة.. ثم أبدأ قصيدتي (الله في عيون نور) ولا تكتمل.. فقد انطفأت الطفلة؛ تآكلت بمرض لعين.. فذكرتني ببائع اللِيف بين شروقه وغروبه.. فبين حين وآخر ألفاه يسعل حتى يدمع بغزارة.. رويداً رويداً يتلاشى لحمه حتى يختبيء بالموت.
كانت ميم فتاة متفتحة بحياء يلامس هيبتها البسيطة المحببة (حتى أظافرها).. مشغولة عن ملاهي العشاق؛ لكنها تخفق حتى رموشها بشيء عميق يعيدها للغناء.. تستجمع حبات أمل مشتتة على أرصفة نفسها المكدودة.. وكانت (نور) بالنسبة لها الحاجز الذي تصد به ضعفها واشتهائها.. فأظلمت مسالكها بانطفاء نورها.. ولم تكن مفاجئة مع دوران الوقت أن تنحل (عجلاتها) مع بوعورة الطرقات والزلق! تستسلم للخراب تحت وطأة الأيدي العابثة في زوايا العتمة التي تنام بداخلها..!
كنت أتعمد تخفيف الصدمة حين رأيت بقايا إنسانة (مشتتة) إنفلتت روحها فتغير الجسد إلى شبح..! فتاة عرفتها من قبل في محطة داكنة كحزني عليها.. ووسط قاذورات سكة الحديد المنسية الصدئة إختزل الزمن صورة الوطن المتعوس فيها؛ وهي تستحم بالمطر..!
المواكب