الإخراج التلفزيوني.. جدلية أزمة الكوادر ووسائل التكنولوجيا.. فضائيات سودانية

الخرطوم – نمارق ضو البيت
منذ ستينيات القرن الماضي وإلى مطلع التسعينيات لم تكن التلفزيونات في متناول أيدي الجميع، واللافت للنظر أن جميع الجيران تجدهم يجتمعون أمام تلفزيون واحد في الحي بأكمله، فيلجأ صاحب المنزل لبناء (مسطبة) خاصة للتلفزيون في (الحوش)، حتى يجد الجميع مساحة للجلوس بارتياح أثناء المشاهدة، ومن لا يجد مكاناً شاغراً يفترش الأرض.
الجميع كانوا يتناقشون في برامجهم المفضلة ويتحول طريق العودة إلى منتدى للحكي والسرد وإبداء الآراء في المادة التي شاهدوها، لذا نما وعي المشاهد السوداني تجاه المادة المقدمة بصورة تلقائية، ومع ازدياد القنوات الفضائية وانفتاح الأسافير، إلى جانب وفرة أجهزة التلفاز في بيوت الفقراء والأغنياء، ازداد إلمام المشاهد بماهية المادة التي يريدها، ولم يعد يرضى بفتات البرامج الهشة الإعداد أو الإخراج.
انتشار واسع
وهذا ما ساهم في انتشار قنوات سودانية توازي القناة القومية إرضاءً لطلب المشاهد السوداني، على سبيل المثال النيل الأزرق، الشروق، الخضراء، المنال، قوون، الخرطوم، أمدرمان وصولاً للقنوات الحديثة كسودانية 24، وغيرها من الفضائيات القديمة والجديدة التي بذلت جهدا كبيرا للحاق بمصاف القنوات العالمية، لكن تظل هجرة المشاهد السوداني إلى المحطات الأجنبية قائمة بتنقله عبر الريموت كنترول إلى أخرى بحثا عن ضالته، فهل وصلت القنوات السودانية مرحلة جذب المشاهد السوداني أو الأجنبي؟ وما السبب في اختلاف قنواتنا المحلية عن العالمية والعربية؟
القنوات القومية والخاصة
قُدر لنا في الوطن العربي عموماً امتلاك خبرات بشرية مبدعة، لكن عادة ما تخذلنا التكنولوجيا، لأننا لا نواكب التطور العلمي دائماً، وغالباً ما يقارن المشاهد بين القطاع التلفزيون الحكومي والخاص بالرغم من كونها مقارنة مجحفة، بحسب رأي المهند كلثوم (مخرج سوري) الذي دافع عن قلة إمكانيات الفضائيات الحكومية في معظم الدول النامية قائلا: “نسبة لأعباء الدولة الكثيرة والمقسمة على كافة قطاعات الدولة من تعليم، صحة، غذاء، بنيات تحتية، ثقافة وفنون، لذا فإن لديها أولويات أهم من مواكبة التطور الإعلامي في أساليب الإخراج، والدول عموما ينبغي أن تصب اهتماماتها في أساسيات بناء دولة صالحة للحياة الكريمة، من ثم تتجه للأمور الثانوية، وهذا ما يبرر تأخر القطاع الحكومي عن القطاع الخاص، الذي يبخس الكثيرون من قدره”. ويرى المهند أن هناك قنوات خاصة في المغرب العربي والخليج تضاهي معايير القنوات الأجنبية، وتمتاز بقدر عالٍ من الحرية، التي تكاد تنعدم في التلفزيونات الرسمية نسبة لعدم توافقها مع سياسة الدولة، على سبيل المثال قد لا توافق قضية الشعب سياسة الدولة، وبالتالي سيتجنب الإعلام الحكومي عرضها على شاشاته.
افتقار إلى الدورات التدريبية
وأضاف كلثوم: “نحن نفتقر دائماً إلى عنصر التدريب الجيد، بالرغم من توفر الكادر البشري الذي يمتلك الموهبة والرؤية الإخراجية الرفيعة، لكن ذات هذه الخبرات لا تُجيد التعامل مع الأجهزة الحديثة، نسبة لعدم تدريبهم على استخدامها، وكذلك لأنهم لم يتابعوا حركة التطور في مجالات الإخراج التلفزيونية أو السينمائية المتقدمة، فتبعثهم الجهات الرسمية إلى دورة أو اثنتين من ثم تتوقف عن إرسال بعثات بسبب ارتفاع تكلفة الدورات، لذا تجد مخرجين كُثراً لم يحظوا بفرص تدريب، فيعتمدون في أعمالهم على الأنماط العتيقة إخراجيا التي لم تعد تسمن ولا تُغني من جوع، وبالتالي يظهر الفارق التكنولوجي الكبير بين المخرجين التقليديين والمتابعين للحركة الإخراجية”. ويواصل: “كثرة مشاهدة الأعمال ملكت المشاهد القدرة على أن يكون ناقداً حاذقاً، يعرف كيف يوجه بوصلة مشاهدته”. ويضيف: “الحل من وجهة نظري يكمن في تبني وزارة الثقافة للكوادر الإخراجية، كي يختلف المشهد على الشاشات الحكومية”.
التشبث بالكوادر القديمة
معظم المشاكل الإخراجية في القنوات التلفزيونية في السودان، تعود إلى ذات الأسباب التي تفضل المهند كلثوم بطرحها، ابتداءً من ضعف الإمكانيات الإخراجية إلى عدم مواكبة التطور التكنولوجي كما أسلف. وفي السياق يقول لؤي اليمني (مخرج): غالباً ما تلعب العلاقات الشخصية دوراً كبيراً في العمل، فيوظف الكثيرون بناءً على نظرية المحسوبية وقرابة الدم، إلى جانب افتقار عنصر الإبداع واختلاط التخصصية، وعادة ما يتجة مخرج الأخبار لإخراج برامج منوعات، وقس على ذلك، بعكس الإخراج في الدول المتقدمة، التي يحترف فيها المخرج مجالاً معيناً، ويطور من نفسه فيها، كما أن الكثير من القنوات السودانية تفتقر لخبراء الديكور ويتجاهلون جانب الإضاءة مع إنها من أهم عناصر الصورة الجيدة. ويستطرد: “كما تتشبث القنوات بالمخرجين الكبار في السن ويستهينون بقدرات الشباب، الذين يمكنهم إضافة لمسات حديثة، وأغلب الشباب السودانيين ممن يمتلكون الرؤية الإخراجية الجيدة والكاميرات المتطورة تمكنوا من إخراج أعمال مميزة”.
جيل قادم بقوة
من جهته، يرى المخرج لؤي بابكر صديق أن الإخراج بشكل عام هو خلق صورة جمالية للشاشة تحكي عن محتوى النصوص، والإخراج التلفزيوني إذا لم تتوفر فيه العوامل الأساسية التي تعين في إكماله يعد عملاً ناقصاً. ويضيف: في السودان هناك الكثير من المواهب غير الدارسة، لكنها تتمتع بموهبة فطرية، تحتاج إلى الصقل بصورة أفضل، وهناك جيل قادم بقوة سيتمكن من خلق فرق في الحركة الإخراجية.
اليوم التالي