لصوص الألحان

بروين حبيب

■ يرفض كثيرون من المبدعين حكاية «تأثرهم بغيرهم» يعتقدون أنهم ولدوا هكذا بذخيرة فنية جاهزة، تطوّرت في أدمغتهم بدون أي تلامس مع إبداعات غيرهم ممن سبقوهم.
في حياتنا اليومية نحن عرضة لكل التأثيرات من حولنا، إذ يبدو أن عقولنا مهيّأة لتتأثر، ولا مفرّ من تأثيرات سلبية وأخرى إيجابية نتعرّض لها. الأغرب من هذه الفرضية ما يؤكده العلم، وهو أن الإنسان عرضة لتأثيرات متنوعة طول حياته، أي أن فكرة النضوج والاستقلالية عن الآخر غير واردة بتاتا.
الإنسان كائن يتفاعل مع ما حوله، وهو في حالة أخذ وعطاء مستمرة مع محيطه، أو مع العناصر التي تخترق محيطه. الشيء الذي ربما أهملته جهات كثيرة وظنت أنها تجاوزت بمنظوماتها التربوية هذه المرحلة، ففوجئت بتأثيرات غريبة جرّت أفرادها إلى العمل الإرهابي وما شابه.
أوسكار وايلد العظيم قال ذات يوم إن التأثيرات الجيدة لا وجود لها، لأن كل محاولة للتأثير على الآخر ليست أكثر من عمل غير أخلاقي. وهذا صحيح من جهة، إن قرأنا هذا المعطى النّظري من باب أنه تدخل في خيارات الفرد الحرة. على الصعيد الأدبي والفني، نبدأ بتربية أبنائنا على نتاج الآخرين، ثم ننتظر من الموهوبين أن يخرجوا للعالم بإبداعاتهم الخاصة، لكن في النهاية هناك عوامل كثيرة تحبك تلك المواهب لتخرج في صيغة تميزها عمّا سبقها.
أما ما هو غير مقبول فهو الاحتيال الذي يمارسه البعض بالبحث عن أعمال قديمة لأسماء غير معروفة جيدا ونسخها غشا ثم نشرها على أنها تخصهم. وقد مارس هذه اللعبة اللاأخلاقية مشاهير في عوالم الأدب والفن، وما من رقيب.
مؤخرا ? مع أن الموضوع قديم جدا ويتكرر ـ وقعت على مقطوعة موسيقية للموسيقي البريطاني جون إيرلند مرفقة بقراءة دقيقة للإعلامي العراقي صفاء أبوسدير، يشير فيها إلى أن المقطوعة التي ألفها إيرلند عام 1932 نسمع نبضها حاضرا في لحن أغنية «كلمات» لماجدة الرومي، واللحن لإحسان المنذر. سمعت اللحنين بإمعان ولم ألتقط سوى القليل مما قد يكون تشابها، ولا أدري إلى أي مدى يمكن لشخص مختص في الموسيقى أو له أذن موسيقية قوية أن يعرف المقاطع التي تحدث عنها أبو سدير. وإن كان الأمر صحيحا فإن ما قيل عن الأخوين الرحباني زمان قد يكون فيه شيء من الصحة، من أنهما أخذا الكثير من الألحان الغربية، خاصة الكلاسيكية منها، ولكن أن تحدث مناظرة حقيقية وتقدم الأدلة التي تدينهما فهذا لم يحدث، ولطالما لم يحدث فبرأيي أن الأمر متوقف عند مرحلة التأثير لا غير، لأن ثرثرات المقاهي في الحقيقة تبقى حبيسة سياج الثرثرة ولا تدخل التاريخ.
صحيح أن هناك مقطوعات كلاسيكية قديمة عزفها الأخوان الرحباني بروح شرقية لأغاني فيروز ولكن استعمال الإرث الموسيقي العالمي في عمل جديد، يعد نوعا من الإبداع، مادامت الأسماء محفوظة والحقوق أيضا. ونتاج الرّحابنة إلى اليوم يثير الجدل لأنه يتمازج بأنواع موسيقية أخرى، فمثلا يُعاب على زياد أن أغلب ألحانه فيها روح الجاز. ولكن لنعد للمقدمة التي طرحتها عن التأثير والتأثر، أليست الحكاية وما فيها أن المبدع كتلة من المواهب والتعاليم والتلاقح بإبداعات أخرى؟ أليس في النهاية نتاج تأثيرات كثيرة إضافة إلى ما هو عليه؟
أتساءل أحيانا هل كان الإنسان ليعرف الموسيقى لو لم يتأثر بتغاريد الطيور، وأصوات الطبيعة؟ لو أن الكون أخرس، هل يمكن للإنسان أن يخترع الموسيقى؟ هل يمكنه أن يتعلّم كيف يصغي ويفرّق بين الأصوات؟ هل يمكن لمختلقي فتاوى تحريم الموسيقى والغناء اليوم أن يفعلوا ذلك لو أن الله قلبهم فجأة إلى ما كانوا عليه وهم رُضّعَ ينامون يوميا على إيقاع أغاني أمهاتهم؟ هل يستغني الرضيع عن صوت أمه؟ وهل يمكن للأم وأهل البيت جميعا أن يستغنوا عن أصوات رضيع تحمل في طياتها أحيانا سحر الموسيقى وأسرار الله في خلقه؟
أعرف أن هذا موضوع آخر، ولكننا بحاجة إليه عسى أن تفهم هذه الأجيال حقيقة إنسانيتها وتتوقف عن خلط المفاهيم ورفض طبيعتها البشرية كما خلقها المولى عزّ وجلّ.
يقول الفقيه الأديب إبن عبد ربه الأندلسي ( 860/939 م )، صاحب «العقد الفريد»: «وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب».
هذه النظرة الفطرية الثاقبة هي التي جعلت هذا الرّجل متميزا بين الشعراء وأبناء الثقافة في عصره، لكن اللافت حقا هو أنه أدرك أبعاد تأثيرات الموسيقى على الإنسان بهذا العمق.
اليوم وقد تطورت العلوم وأثبتت الدراسات والأبحاث والتجارب قيمة الموسيقى في حياة الناس لا يزال هناك مشككون في الأمر.. ولا يزال هناك من يسمع ليبحث عمّا يُمَكِّنه من نسف ما يسمع. والمعادلة هنا تثير الخوف، هل الهدف من ذلك الاستخفاف بموسيقيينا ومبدعينا؟ أم أن الأمر يعود في الأصل إلى الاستخفاف بقدراتنا على الإبداع؟
وهذا سلوك له جذور تمتدّ إلى ماضينا حيث ردّات الفعل السلبية التي نتعرّض لها من أفراد عائلاتنا، حين نفرَمُ فرما بين الأوامر وتسلط الكبار والضغط علينا لنكون مثاليين.
إنها نفسها الحلقة المدمرة التي ندور في داخلها ونحن نقيّم مبدعينا، الحلقة التي لا نستطيع أن نخرج منها ونرى الأشياء كما هي بدون تقييمها بمبالغة قصوى تلغينا. وهنا فقط تتضح لنا الأعماق المُعَكّرة لمشاهير عرب يدعون أنهم لم يتأثروا بأحد، بشكل ما هم يريدون أن يرضوا تلك المطالب الحمقاء لمجتمع يعتقد أن «مثالية الأشياء» قائمة على النبوءة المحضة. وهذه أسخف المقاييس التي ورّطت أسماء كبيرة في إخفاء ماضيهم التعليمي بكل ما يحمله من مقتنيات وكنوز فكرية يتعاطونها سرًّا ويغرفون منها ما استطاعوا لكن بدون اعتراف بذلك.
وأذكر في ما أذكر أنني كنت في جلسة مع أصدقاء مغاربة ومصريين وأثار أحدهم هذا الموضوع بالذات، عاتبا على الفنان علي الحجار الذي أخذ لحن أغنية «أفافا ينوفا» للجزائري إيدير، فثار أحد المصريين قائلا في ما قال إن مصر هي التي أنجبت الموسيقى وهي التي علّمت العالم العربي معناها، وطبعا لا يخفى على أحد الحساسيات بين المصريين والجزائريين لأسباب أخرى، كادت الجلسة أن تتحوّل إلى مشادة بالأيدي لولا أن همس أحدهم أن إيدير حين أطلق أغنيته عام 1976 في شريط يحمل العنوان نفسه كان علي الحجار لا يزال لم يبدأ مشواره الفني بعد، أما ما تطوّر إليه النقاش بعد فقد طال ألحان محمد عبد الوهاب الذي سلخ شوبارت وتشايكوفسي وكورساكوف وكاسيو?!
صراحة، أعترف بأنني مقصرة في الإصغاء والبحث في تفاصيل الألحان العالمية وما أخذه الموسيقيون العرب منها، لكن حتما أنا مع الرّأي الذي يقول إنه من غير الأخلاقي أن ينسب شخص موسيقى ليست من تأليفه حتى إن مضى على وجودها ألف عام. تخيلوا معي لو أن الأمر نفسه يحدث مع الشعر والقصة؟
سيقول البعض هذا أيضا يحدث?
وهذا أمر آخر يحتاج لإثراء أيضا وفتح سجال جاد لمناقشته.
أخيرا وليس آخرا، أشكر كل الذين يتابعون زاويتي هذه ويتركون تعليقات راقية وجميلة، محبتي لكم جميعا ودمتم.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..