مشروع شيخ علي “ميتة وخراب ديار”!

(1)
إن كان لنظام الإنقاذ حسنة تحسب له فهي بعثه لسؤال الهوية الوطنية المسكوت عنه من مرقد تطييب الخواطر الذي قبع فيه مسترخياً لعقود بينما القيادات التاريخية والنخب السياسية في تقاعسها تبحث عن وئام اجتماعي رخيص أرادت أن تصل إليه دون دفع ضريبة طرح المبادرات الجريئة وتقديم المساومات التاريخية الحقيقية التي يتثنى عبرها نزع فتيل الأزمات الوطنية وعلاج القضايا المصيرية التي عادة ما تواجه مرحلة تأسيس الدول ذات المكون البشري الهجين التي تمتاز بتعدد الأعراق والديانات والثقافات.
(2)
وضع الأسس الصحيحة لوحدة وطنية مرضية ولحمة مجتمعية متماسكة في ظل المجتمع متعدد الأعراق والمعتقدات مسألة في غاية التعقيد لا تتثنى إلا عبر خوض مكوناته لغمار حوار ديمقراطي شفاف طويل النفس بلا قيود سوى قيد احترام الرأي والرأي الآخر يتم من خلاله الوصول لتسوية تاريخية والتراضي على مجمل القضايا المصيرية وفي مقدمتها مسألة الهوية الوطنية والصيغة المثلى لحكم البلاد والمرجعية القانونية لقضية الحقوق والواجبات وصولا لسلم اجتماعي وطيد خالٍ من أوهام تطييب الخواطر تحرسه وتسهر على حمايته مؤسسات دولة العدل والقانون.
(3)
هذا هو السبيل الوحيد القويم الذي يجب أن تجتازه الشعوب “الهجين” لحسم القضايا الوطنية المختلف عليها والوصول لحالة من الوئام الاجتماعي. أما كيف أعاد أبالسة “الإنقاذ” طرح سؤال “الهوية الوطنية”الذي ظل يمثل عبر الحقب جذر المشكلة السودانية؟ وكيف تم إيقاظ المارد من تنويمه المغنطيسي الذي أرادت به النخب السياسية الهرب من مسؤولية مواجهة الأزمة؟ تلك مفارقة عجيبة وقصة تبدو أغرب في دقة حياكة فصولها من قصص “ألف ليلة” وأفظع في تفاصيلها من تاريخ حكم “الأبارتهيد” في دولة جنوب إفريقيا وقد بز أبالسة الإنقاذ أباطرة المستعمر الإنجليزي نفسه في تخطيط وتنفيذ سياسة “فرق تسد” الملعونة.
(4)
استهدفت الجبهة القومية الإسلامية بعد أن سطت على السلطة ليلاً باسم “الإنقاذ” أول ما استهدفت نسيج المجتمع السوداني، فغرست فيه أنيابها السامة ومعاول هدمها المدخرة فحوى قوانين ظالمة كبلت حراك المجتمع وشرعت لممارسات شيطانية أرهبت المواطن وأوغرت صدره ولم تستح أن تعلن نهاراً جهاراً على لسان “الحوار” العاق لشيخه علي عثمان محمد طه أن أهم مقاصد دولة الصحابة الجدد يتمثل في “إعادة صياغة الإنسان السوداني” ولبلوغ هذا المقصد دمجت وزارتا الشؤون الدينية والشباب في وزارة واحدة باسم وزارة “التخطيط الاجتماعي” عام 1993م ليقوم على رأسها “كبير إخوانه” شيخ “علي” ويمسك بخناق الحراك الاجتماعي في السودان ويوجهه كيفما شاء وفقا لبنود مشروع الخراب الحضاري .
(5)
إعادة صياغة الإنسان السوداني مثلت المرتكز والمحور الرئيس في برنامج الجماعة المتأسلمة الذي أطلقت عليه “المشروع الحضاري” وكان هو المنطلق الذي شرع الجرائم كافة التي ارتكبت من بعد في حق الوطن والمواطن من فصل الجنوب بأرضه البكر وثرواته الطبيعية مرورا بقطع أرزاق الكفاءات الوطنية وتشريدها ونسف استقرار الخدمة المدنية، الشيء الذي قاد لدمار وانهيار المشاريع الزراعية والصناعية وصولا لإشعال الحروب الأهلية وارتكاب المجازر الجماعية في كلٍّ من دار فور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومازال مسلسل الجرم يمتد ويتسع، والواقع المأسوي يزداد تأزما وتعقيدا.
(6)
استقر رأي الجماعة المنقذة في بواكير العهد المشوؤم على ضرورة تقسيم الشعب لفسطاطين: فسطاط “الرحمن” وفسطاط “الشيطان” وقد نسبت نفسها ومنسوبيها ومن تبعهم بغير إحسان “خوفا أو طمعا” للفسطاط الأول وأصرت على شيطنة الثاني لينقسم المجتمع وفق مشروع الخراب لسدنة سلطة من المسلمين الوطنيين ومعارضة مارقة خائنة وتقع الكتلة البشرية الأعظم غير المنحازة بينهما في الحيرة فيسهل التعامل معها والتأثير عليها بوسائل ضغط غير أخلاقية وابتزاز ممنهج باسم الدين مارسته الجماعة بمساعدة وسائل الإعلام التي احتلتها وأفرغتها من الكفاءات المهنية وجعلتها في أيدي مجموعة من العاهات البشرية أمثال “الخال الرئاسي وإسحاق فضل لله ” لتعيث في عقول الشباب وضمير الأمة تجهيلاً وإفساداً.
(7)
تحولت أجهزة الدولة الإعلامية في بداية عهد العصبة الحاكمة من وسائط محايدة لنقل الخبر ونشر الثقافة والوعي إلى دور للإفتاء جل همها إضفاء الشرعية على ممارسات السلطة وأخطائها الفادحة وحتى جرائمها التي لا يمكن أن تخطئها العين. كيف لا وقد عملت بكل جد واجتهاد على تحويل طبيعة الحرب في الجنوب من مشكلة سياسية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية إلى حرب جهادية مقدسة بين المسيحية والإسلام وروجت لذلك عبر الدعاية المغرضة التي تبثها في برامجها الغوغائية مثل برنامج “في ساحات الفداء” التلفزيوني الذي كان له أثر مدمر في غسل عقول الشباب وزيادة شدة الاستقطاب والاحتقان لنحصد في خاتمة المطاف علقم الانفصال دون أن نحقق السلام والاستقرار لشعبي الشطرين، فينطبق على حالهما التعيس اليوم المثل السوداني المعبر “ميتة وخراب ديار”
(8)
انتقلت الجماعة المنقذة بعد فصل الجنوب إلى مرحلة جديدة من مراحل تنفيذ مشروعها المدمر ظنا بأن فصل الجنوب الزنجي المسيحي قد أوصل المجتمع السوداني لحالة من النقاء العرقي والديني، وفي مغالطة ساذجة لحقائق التاريخ والجغرافيا صدقت أمانيها المريضة فأصرت على إتباع النهج الأعجف نفسه في تعاملها مع مطالب أهل دار فور المشروعة مما فاقم المشكلة وأدى لاندلاع الصراع الدامي الماثل إلى حينه، وقد استبدلت الجماعة الكذوبة في صراع دارفور العامل الديني الذي سقطت مبرراته أمام أهل الإقليم العامر بحفظة القرآن واستعانت بعامل أضل وأقبح هي الفتنة العنصرية فأشعلتها بين مكونات مجتمعه وانحازت بالسلاح والمال لجانب القبائل ذات الأصول العربية فاندلعت أعمال القتل على الهوية وارتكبت أحط وأبشع المجازر الجماعية التي عرفها التاريخ الحديث.
(9)
أصيب المجتمع السوداني المسالم نتيجة لهذا النهج الشاذ بزلزلة عظيمة هدمت جسور التواصل بين مكوناته البشرية وضربت الوئام والسلم الاجتماعي في مقتل، فارتد على عقبيه من الحداثة الهشة أدراج الماضي نحو عصبية الجهة والقبيلة ليطل سؤال الهوية من جديد مرفوعا هذه المرة على أسنة السيوف والرماح عوضا عن أسنة الأقلام وساحات النقاش والحوار مذكراً الجميع بخطورة الصمت عليه وتجاهله وبضرورة التوافق عليه وحسمه ، وهكذا يطرح مشروع الجماعة الحضاري في مجتمعنا علقم ثماره ويقدم سم العنصرية الزعاف نخباً لانتصاراته المتوهمة ليستمر الحال على هذا المنوال وينفجر الصراع الدامي في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق ويتشكل جنوب جديد ينذر بتكرار مأساة فصل الجنوب القديم ورغم ذلك ما تزال سلطة الشيوخ التي شاخت تعيش مرحلة المراهقة السياسية وتمارس استمناء الأفكار العاطلة.
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.

تيسير حسن إدريس
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هذا باختصار حال البلد بعد الانقاذومتى ماحل الخلاص الترابى والبشير وراس الحية على لابد من هذة الروؤس ولابد ان ينتهى عفا الله عماسلف

  2. أحسنت كالعادة يا صاقي بارك الله فيك..

    نعم هو السؤوال المحوري والذي كان يجب أن يجيب عليه الأحزاب و الزعماء السودانيون.. من الأزهري للصادق.. وهذا هو دور المفكرين.. فالعبقري والمفكر هو الذي يقدم حلا للمشكلة تفاديا لحدوثها.. ولكن يبدو إننا إبتلينا بقادة ليس لديهم أفق طويل المدى وينظرون تحت أقدامهم..

    الهوية الوطنية ستترسخ وتتاصل لوحدها كلما ازداد الوعي..فالبشرية جميعها تهدف لتصل للهوية الإنسانية..

  3. استاذ تيسير اود ان اضبف لمقالك التاريخي هذ والذي يشرح متتبعا مسيرة هذا النظام والاسلوب الذي اتبعه في تفكيك نسيج المجتمع وغرس انيابها السامة لاستغلال مسالة الهوية والتعدد لانفاذ مشروع الفصل العنصري والعرقي بين ابناء الوطن الواحد .
    اود ان اضيف انه اذا كانت ثمة حسنة فهي، ايجابية كون ماحدث ادى الى زيادة كمية وطفرة نوعية في عدد المفكرين في مشكلة الهوية .وبالرغم من ان الانقاذ افرزت ادبا غثا الا ان هذه الظروف انتجت مفكرين ومبدعين بل خلقت وعيا لايستهان به في وسط السودانيين واصبح المغطى مكشوف .والفرز واضح .
    دمت استاذ تيسير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..