بشيْر عبّادي: جَوهرةٌ مِن الشهَامة والنّبل ..

أقرب إلى القلب:
(مَن تربّى على الخيرِ والمروءةِ صارهما..)
على المك في وصف آل العبادي، أحمد بشير
( 1 )
إذا عرف السودان رجالاً تسنّموا مسئوليات إدارة بعض أحواله وبعض شؤونه، فبرعوا وأخلصوا ونامت أعينهم هانئة راضية، فاعلم أن وزيراً نبيلاً شهماً مثل بشير عبادي، هو بينَ أميز من مرّوا على البلاد في سنوات النصف الثاني من القرن العشرين. كان وزيراً للنقل والمواصلات ثم وزيرا للصناعة بين عام 1971 وعام 1979 في الحقبة المايوية، والسودان تحت حكم النميري. لم أعرف الرجل معرفة شخصية ولا زاملته في مرحلة من مراحل الدراسة أو أي مرحلة من مراحل العمل، فقد كان الرجل من جيل الستينات، وصار من كبار التكنوقراط في سنوات السبعينات، ونحن من جيلٍ تالي. تلك أيام الشمولية القحة، ولكن ليس كل حكم شمولي هو شر بأكمله. في الحقبة المايوية، ثمّة رجال كان لشموسهم إشراق في ظلام الشمولية الدامس، ولأدائهم لمعان لا تنكره عين تبصر. آن أن ينظر الدارسون إلى تلك الحقبة بعد انطوائها قبل ثلاثين عاما، لرصد ما لها وما عليها، وأن يكتب عنها بأقلام الحيدة وبمداد الموضوعية.
قبل أن يكون دكتور بشير عبادي وزيراً كبيراً، كان أكاديمياً يشار إليه بالبنان، ونحن طلابٌ نترسم خطانا في التعليم. كنتُ أنا وشقيقه الأصغر السر عبادي في زمالة الدراسة، نتلقى العلم في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم أول سنوات السبعينات، ثم من بعد صار السر عبادي إداريا أكاديميا حاذقاً، وتحولتُ أنا دبلوماسياً ناشيءَ الخطوة في وزارة الخارجية، أتعلم من سفرائها ومن وزرائها.
وزيرٌ مثل بشير عبادي، لا يسقط من ذاكرة من عاصروا الحقبة المايوية في اتقاد سنواتها، فقد كان مثالاً حياً للمهندس الأكاديمي التكنوقراطيّ المنقطع لمسئولياته الوزارية، دون أن تشغله عاديات السياسة ولا تجاذباتها المهلكة. .
( 2 )
كتب الدكتور بشير عبادي مُلخِصاً تجربته الكبيرة في كتابه “دروب التنمية: تجارب ومواقف”، والذي صدر عن مركز محمد عمر بشير بالجامعة الأهلية عام 2009، فجاء كتاباٍ صادقا وافياً عن تجربته وزيراً تحت حكم نميري. لقد وقفتُ على أمرين جديرين بالالتفات في تجربة وزير سجل تفاصيلها بعد ثلاثين عاما ونيف :
أولهما تلك المصداقية العالية التي وثق به تجربته معلماً وإدارياً ثم وزيرا، في فترة شهدت تحولات في مسيرة التنمية والنهوض بامكانيات البلاد ومواردها المتاحة، فبسط تجربة جديرة بالتأمل.
ثاني الأمرين هو ما لمستُ في كتابته من رصانة في اللغة ودقة في التعبير، فيما هو يكتب عن أشقّ اللحظات التي عايش أحداثها وهو وزير مسئول، حتى لحظة خروجه من الوزارة شهماً نبيلا، فاتسق عند بشير مضمون ما كتب بشكل وأسلوب الكتابة.
عمل بشير بهمّة عالية وبخبرة اكتسبها إبان دراسته الأكاديمية في الولايات المتحدة في مجال الهندسة الميكانيكية وعلوم الفضاء، ونال عنهما درجة الماجستير والدكتوراة. غير أن الانقطاع لتخصصه الهندسي لم يبعده عن الأجواء التي سادت في العالم تلك الآونة، أو تلك التي سادت في الولايات المتحدة أواخر الخمسينات وأوائل سنوات الستينات من القرن الماضي، وقد أمضى طرفاً من حياته هناك. سنوات عبادي في الولايات المتحدة هي سنوات تصاعد وتيرة مطالبة السود والأقليات لنيل قدراً من المساواة مع سواهم، وفي حقهم في الحصول على فرص في الحياة، لا تمييز فيها ولا تشوبها عنصرية منفرة. أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية هي مزاج العالم وقد تمثل في جنوحه نحو صياغات جديدة لعلاقات الأمم والشعوب، ولكنه عالم كللته نذر الحرب الباردة بسحبها الساخنة وتوتراتها المهلكة.
( 3 )
في الولايات المتحدة تشرّب الرجل العلم، وأيضاً استشعر الحاجة لتسخير ما درس من علم في النهوض ببلده ليخرج من مصاف البلدان الموصومة بالتخلف إلى مصاف البلدان الناهضة. هذا القادم من “العالم الثالث” لم يبتعد عن البيئة السياسية التي اجتاحت العالم تلك السنوات. لقد هيأته دراسته الأكاديمية وتجربته الثرة في الانخراط في النشاطات الطلابية وهو في بعثته تلك، للعب أدوار مهمة في حقبة سياسية في البلاد، تميزت بداياتها بالركون إلى بعض شباب التكنوقراط والأكاديميين البعيدين عن صراعات الأحزاب التي كانت سائدة أواخر سنوات الستينات من القرن العشرين. لم يعرف عن بشير وقت دراسته في جامعة الخرطوم، أيّ انتماء للتيارات التي سادت في تلكم السنوات في السودان، بل كان مستقلا وسطيّ النزعة، لا يعرف التطرف في الفكر السياسي إلى عقله سبيلا.
بعد يوليو 1971، بدأتْ الحقبة المايوية ترسّخ وجودها وتحكم قبضتها على إدارة أحوال السودان. قال د.منصور خالد يصف أعوام النصف الأول من سبعينات القرن الماضي في كتابه “السودان: النفق المظلم” ص 116: (هي أعوام الوعود والبشائر. أعوام الحفز والمشاركة، أعوام الأمل في مستقبلٍ لا توحي به الهتافات ولا المواعظ المنبرية وإنما يستحثه الناس في جدية حاكمهم..). الرجال الذين كانوا حول النميري هم من فئات ثلاث في نظر منصور خالد. أول فئة منهم هم الأكاديميون التكنوقراط من ذوي الهمّة الطامحين للعب أدوار في تنمية البلاد. أولئك عند منصور “هم الجواهر في تاج النميري”. الفئة الثانية هم أناس أذكياء وعلى قدرٍ من الحماس، لعبوا دوراً في التعبئة السياسية وبناء التنظيم السياسي الحاكم. أما الفئة الثالثة فهم “المتمسّحون بالأعتاب في سدة الرئاسة”، ممن لا شأن لهم بالتنمية ولا بالتعبئة السياسية.
كان دكتور بشير واسطة عقد الفئة الأولى من التكنوقراط ذوي الهمة والطموح لأجل بناء الوطن، فاختاروه وزيراً للمواصلات والنقل في البلد القارة، ثم وزيرا للصناعة والبلد يتجه نحو ربط انتاجه الزراعي بالتصنيع .
( 4 )
لو حدثتَ عن النقل والمواصلات، فقد أنجزتْ وزارة الرجل الكثير. لنتذكر فقط دور وزارته في دعم أسطول الخطوط الجوية السودانية، هذي التي ضاعت الآن، وجهد وزيرها بشير في إدخال طائرات البوينج إلى أجواء السودان في سنوات السبعينات تلك. وقاتل وزير المواصلات وقتها، حتى لا تشوب مساعيه شكوكٌ أو تلوثها شبهات فساد . لم يكن بشير إلا ذلك السد المنيع الذي تصدى للأصابع الفاسدة، وللرقاب المتطلعة في ذلك المسعى، فمنع عنها ما رغبتْ فيه بغير وجه حق. ثم من نبله الأصيل، لم يرفع سكيناً لبتر الأصابع، ولا سيوفا لقطع الرقاب، بل اكتفى يبادر في نبل أصيل إلى لفت نظر الرئاسة، التي عرفتْ وتغاضتْ لأسباب تخصّها. وأحيلك ثانية لتحليل منصور عن الفئات التي فصّلها، وحدّث صادقاً في كتابه “النفق المظلم” عن فئة وصفها بأنها ضمتْ الوالغين في أعتاب قصر الرئاسة والمتمسحين بأعتابها. بعض هؤلاء من أغضبتهم شهامة د.بشير عبادي وصدق نواياه فضايقوه.
لو حدثتَ عن الصناعة، فدونك انجازه في إنشاء وإنهاض مشروع سكر كنانة، هذا الصرح الاقتصادي الشامخ في سودان اليوم. لقد بذل دكتور عبادي جهداً كبيراً إبان رئاسته لمجلس إدارة كنانة، وقد تولاها بحكم عمله كوزيرٍ للصناعة خلفا لعبد الرحمن عبدالله الذي انتقل وزيراً للنقل، فوصف في كتابه كيف عبر بالمشروع مطبات الفشل ومعوقات الأداء، وأوصله إلى آفاق النجاح. تلك الفترة هي أكثر فترات مشروع سكر كنانة عسراً وأشدها توتراً، وتطلبت إحداث قدرٍ من التنسيق بين مستثمرين مشاكسين وحكومة تتطلع لإنجاز حاسم عاجل. استوجب كل ذلك تجديد لوائح تستجيب لمرحلة انطلاق المشروع وضبط مساراته جميعا. حين استقام الأمر وانطلق انتاج السكر، كان دكتور بشير مع الرئيس نميري يفاخر بما أنجزت وزارته وهو رئيس مجلس إدارة كنانة، ولكن هيهات أن يرضى المتمسّحون بأعتاب القصر عن تلك المنجزات.
ثمّ غضّ صاحب التاج بصره عن جوهرة أسقطوها من تاجه..
( 5 )
غير أن الريح لا تأتي دائماً بما يشتهي ربّان السفين على زعم الشاعر. في أكتوبر من عام 1979 يخرج بشير عبادي من وزارة الصناعة، بموقف عبّر عنه بلغة فيها من النبل بما يشي بصادق الوصف الذي جاء من منصور خالد عن التكنوقراط كونهم “جواهر في تاج النميري” في سنواته تلك. كان بشير قد أمضى أعواماً ثمانية وزيراً من عام 1971 وحتى عام1979 في الحقبة المايوية.
تململ وزير الصناعة حين عمدتْ الرئاسة في القصر فرض أمرٍ وصله من القصر الرئاسي بطريقٍ غير مباشر، فيه تجاوز واستثناء لا تبرره خطط وزارته في إدارة اقتصاديات الصناعة. ما تردّد د.بشير في رفضه، ولم تقبل الرئاسة ? بل ما قبل المتمسحون بأعتاب الرئاسة- ما حسبوه مماطلة من الوزير المعني أو تطاول على الذات الرئاسية. لم يمضِ قلم بشير عبادي في تفصيل تداعيات وحيثيات إعفائه من وزارة الصناعة، بل آثر ترك الجملة مفتوحة، وهو يعلم تمام العلم من أولئك الذين وقفوا وراء قرار إزاحته من الوزارة التي أعطاها من خبرته ومن مؤهلاته ومن صدق نواياه الكثير.
لم يخرج سكينه ليجرح أحدا، ولا أمسك سيفاً ليبتر رقبة، فالرجل يملك سلاحاً آخر، أمضى وأقتل: هو سلاح الكبرياء. سلاح النبل. سلاح الشهامة. ابن أحمد البشير عبادي يظلّ وفياً لإرث مربٍ شامخ ولقيم أسرة شبّ في كنفها، تجري في شرايينه مجرى الدم. إن نظرت سترى رجلاً لم يأسره كرسي الوزارة، بل هو الذي أذعن له الكرسي وصار طوع إرادته. سترى رجلاً لم يفتنه بريق الوظيفة الوزارية ولا ابتغاها، بل هو الذي أضفى عليها احتراما ومصداقية فاستبقته وزيراً لسنوات. ما أصدق وصف منصور إذ رأى التكنوقراط أول عهد الحقبة المايوية، جواهر لامعة على تاجها قبيل زعازع السقوط ونذر الأفول. بشير عبادي جوهرة بريقها يحفظه التاريخ، ومدرسة مفتوحة لكلِّ وزير جاء بعده وتبوأ كرسي مسئولية وزارة، في بلد تتعثر خطاه على طريق التنمية، وموارده على غناها يتهددها ضعف التخطيط وعوار الإدارة.
( 6 )
آخر قولي هو أن يكون كتاب الدكتور بشير عبادي بصفحاته القليلة، وبما حوى من دروسٍ وعبر، كتاباً يتصفحه كلّ وزير ومسئول في أجهزة الدولة التنفيذية، متمنياً من صديقنا الوزير في رئاسة مجلس الوزراء الأستاذ أحمد سعد عمر، أن يكون أول ما يهدي لمن أدى القسم وزيراً. تلك تذكرة للناس عامة وللمسئولين خاصة، فيدركون أن الوزارة تكليف لا يقابله حافز ولا راتب ولا أوسمة ولا تشريف، بل هو البذل بلا ثمن لوطنٍ ثقلتْ مكابداته واستفحلت، وعطاء بلا منٍ ولا أذى ولا استغفال. شهد رئيس البلاد الراحل نميري الذي استوزر بشيرا، أنّـهُ لمس الاستقامة أكثرها عنده، والشهامة أوضحها منهُ، فما رصد إخفاقاً في وزارته ولا أحصى فشلاً. ذلك في معناه الضمنيّ، اعتذارٌ لبق من رئيسٍ أجبرته الضغوط والمشاكسات، لأن يقول لبشير وداعاً بعد ثمانية أعوام لم ينقطع عطاؤه فيها، ولا شكا من تعبٍ فيها، ولا أوهنت عزائمه مكابدات العمل العام، ولا مشاكسات الأقربين منه والأبعدين هناك في قصر الرئاسة. عناء البذل عند رجل مثل بشير عبادي هو راحة واطمئنان.
آخر قولي مثلما بدأت متمثلاً قول الراحل على المك: “من تربّى على الخير والمروءة صارهما…”
+++
الخرطوم ?4 ديسمبر 2014
[email][email protected][/email]
يا سعادة السفير كل ال عبادى الذين نعرفهم ومن أوائل سكان مدينة الدويم بالنيل الأبيض
لو انك عرفتهم واحد واحدا لكانت مقالاتك كثر فى مدحهم لأخلاقهم العالية ومعشرهم الطيب
ودونك الفريق عبادى رئيس العاب القوى .
لم تضف جديدا يا جمال محمد ابراهيم. مقالة مدحية لم يكن عبادي ليحتاجها مطلقا. عايز تطبطب على خروجه من الوزارة وتطعن في نميري والقصر وما أدراك ما القصر؟
بشير نفسه في كتابه ما أشار للحتة دي، وعرف كيف يتعامل معاها بحجمها ومن غير شوشرة.
منصور غرق تماما في (حفرة) بهاء الدين وأعمته عن النظر الأمين والشجاع لجوهر الأشياء المايوية وهانت مقدرته في التعامل مع تاريخه الثوري في مايو فصار مسخا سياسيا شائها تهيم به السياسة في أودية الضلال، فخسره شعبه وخسرته دولته خسرانا مؤلما.
(أتحدث هنا عن منصور خالد في مايو وليس الموثق والمحلل لتجربة الحكم الوطني بعد الاستقلال).
********************
بشير عبادي هو مرشحنا المرتقب لمنصب “رئيس الجمهورية” في مواجهة عمر البشير، ترشح عمر أو لم يترشح،، قامت الانتخابات في موعدها أو تأجلت. يديه الصحة والعافية.
يلا همتك معانا.
من نحن؟ سوف نقول من نحن.