الشكل عند آرثر ميلر

ربما كانت من أسوأ الترجمات التي قرأتها لمسرحية عالمية تلك التي قام بها أنيس منصور ‏لمسرحية بعد السقوط لآرثر ميلر . لقد أدت ترجمته إلى تشويه جمالية التتبع البصري للحواريات ‏؛ بل ودمج بين ثقافتين ما كان لهما أن تندمجا ، دون مراعاة للجانب النفسي للقراءة ؛ حيث أنه ‏طرح النص باللهجة المصرية . ولم يؤد ذلك فقط إلى حالة الإغتراب الثقافي للنص وأفقده هويته ‏الأصلية ؛ بل أن اللهجة العامية المصرية وضعت المترجم نفسه في مأزق كبير ؛ لأن كلمات ‏العامية تحتمل معاني متناقضة وتجعل النص ركيكا ومتعبا في القراءة ؛ فكلمة (ليه) قد تعني ‏‏(له) ، وقد تعد (لماذا) ، وقد تعني (لي) . وهكذا تقودنا داخل النص مغالطات اللهجة العامية ‏وصعوبة متابعتها ، والنص الرائع لآرثر ميلر فقد متعة التتبع . ومع ذلك بقى فيه الكثير للإمتاع. ‏
إن أول ما يلفت الإنتباه هو براعة ميلر في تحويل المسرح -الذي يمثل معضلة أمام أي كاتب لا ‏يجيد قراءة المساحة- إلى فيلم سينمائي بأسلوب بسيط هو الضوء ؛ فكل المسرحية تدور داخل ‏عقل بطلها . وهناك شخصية المستمع التي لم تغب عن المشهد حتى آخر لحظة ..، من خلال ‏ظهور متقطع لأبطال المسرحية (الذين يتواردون داخل عقله) كما هو الشأن لدى كل إنسان ولكن ‏داخل بقعة ضوء صغيرة وتدور الحوارات بين بطل الرواية وزوجته الأولى والثانية ووالده ووالدته ‏‏. وهناك على جانب من المسرح يقف معتقل نازي (الكوجيتو اليهودي المؤكد) . إن الفكرة التي ‏طرحها أنيس منصور بتبسيط مخل لمضمون المسرحية كتعليق عليها ؛ قد أضاف إلى سوء ‏ترجمته المزيد من السوء . فالمسرحية تنطلق من فكرة الإنسان الخاضع بشكل دائم للإتهام من ‏الجميع . رغم أنه ممتلئ حتى النخاع بالضمير الحي والعاطفة الصادقة لكنه غير قادر على طرح ‏نفسه بشكل أعمق لدى الآخرين .‏
‏ إنه يبدو قليل الإهتمام بالآخرين في نظرهم ، رغم أنه غارق حتى أخمص قدميه في ذاكرته ‏معهم ، إن ذاكرته تعكس ذلك الإهتمام الصامت منذ الطفولة حين انهار والده ماليا ، وتعكس ‏إهتمامه بزوجتيه الأولى التي لا تراه إلا ذاتا منفصلا عنها تماما ، والثانية التي تريد البلوغ به حد ‏الهوس الليبيدو والتي تخضع نفسها لأعماق الملذات وهي في حالة دائمة من فقدان الشعور ‏بالمتعة. ‏
لقد استطاع آرثر ميل أن يجعلنا داخل عقل البطل بشكل مخيف ؛ فرغم أن هذه الفكرة ليس ‏جديدة فهناك الكثير من القصص والروايات والأفلام الهوليودية قد استخدمت فكرة الولوج إلى ‏الجسد ، إلا أن أسلوب ميلر في استخدام الظل والضوء جعلنا بالفعل ندلف إلى ذلك النظام المعقد ‏للذاكرة من جهتها الفسيولوجية . وكيفية إنقطاعاتها واستمراريتها وتشوشها وارتباكها. وربما كان ‏نظام العمل الذي انتهجته الذاكرة عند ميلر يعبر في الواقع عن دينامية العقل المبدع ، تلك التي ‏لا تنفك تدور في مسالك لولبية لتحدث روابط غير محسوسة بين ما لا ترابط بينه في الواقع، أي ‏أنها روابط عقلية وشعورية محضة وهي رغم ما تبدو عليه من وهن الومضات إلا أنها مؤثرة ‏بشكل حاد في النفس البشرية. إن ميلر لا يرابط داخل مدرسة التحليل النفسي. بل على العكس، ‏لقد اكتفى بطرح الحوارات الرائعة والتي تعكس ملكات إبداعية كبيرة ، خاصة مع حالة الإنفصال ‏الكبيرة بين شخصيات المسرحية مما يجعل أي كاتب قليل الخبرة يقع في إشكالية نراها دائما وهي ‏تقارب الشخصيات حيث نشاهد تقاربا كبيرا للشخصيات عند نقطة معينة وهذا ما يمكننا أن ‏نلاحظه في كتابات أسامة أنور عكاشة ، حيث أننا يمكننا أن نجد الحكمة مرصودة في الحوار ‏عند كل الشخصيات رغم خبرة كاتب مثله. لم تكن الحوارات عند آرثر ميلر بسيطة ولا معقدة حتى ‏أنه يخيل لكل شخص أن الكاتب قد سجلها من الواقع تسجيلا. في الواقع بعض المؤلفين ‏يحاولون الوصول إلى هذا العمق الحواري عبر تعدد المؤلفين ؛ بحيث يمثل أحدهم شخصية ‏ويمثل الآخر شخصية أخرى ومن ثم يخرج الحوار من عقلين متباينين فيختفي منه خط البعد ‏الواحد . ‏
يضاف إلى هذا أن الحوار ظل وبثبات يعكس الحالات العاطفية للشخصيات واختلاجاتهم الشعورية ‏واللا واعية ليجسدها تجسيداً بارعاً كل البراعة . ‏
باختصار استطاع ميلر أن يغزل نسيجه كسجادة يدوية تجد قيمتها في دقِة كل ضربة خيط. إن ‏قراءة واحدة لمسرحية ميلر لا تكفي لمن يرغب في تلقي الخبرة في فعل الكتابة ؛ لا سيما ‏المسرحية ، ذلك أنها من أكثر الكتابات صعوبة في ظل القيود الزمكانية التي تحيط بالكاتب ‏المسرحي والتي لا يستطيع التحرر منها بل والإفادة منها إلا كاتب عبقري كآرثر ميلر.‏
أمل كردفاني
‏30مارس- 2014م
الساعة 1:39 صباحاً
القاهرة

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..