في محك الاختبار

أشرت أمس في مقال سابق إلى أن الأمم التي علا شأنها وارتقت، إنما نهضت بقيم العدل والمساواة بين الرعية ومجموع قواعد السلوك المنضبط بدءًا من قيمة العدل التي هي أساس الحكم وانتهاءً بالهمة العالية في أداء الواجبات، فالأمة التي يمارس حكامها الظلم واستغلال النفوذ والفساد على نطاق واسع لن تنهض أبداً مهما تكاثرت مواردها وتعددت مصادر ثرواتها، لأن ثنائية الظلم والفساد مع غياب العدالة لن تترك لها شيئاً تنعم به، والأداء الذي لا تصاحبه الهمة العالية فلا محالة إلى بوار…
الآن الدولة ترمي بثقلها في محاربة الفساد بعد سبات عميق قارب الثلاثين عاما، وهناك رأي عام قوي يضع كل أجهزة الدولة في محك الاختبار ليعرف الناس أهي هبة لمحاربة الفساد حقاً، أم هي هبة لاستدرار الدم في شرايين الخزينة الذابلة التي باتت أفرغ من فؤاد أم موسى، وذلك عن طريق محاصرة “قطط الإنقاذ” السمان وإيجاد تسوية معهم ترفد الخزينة…
نريد لبسط قيم العدالة الشاملة أن تأخذ بقوة كل الذين يؤذون الوطن وشعبه ? دون أن يحملوا السلاح- وإذا كان حملة السلاح يحاربون الجيش السوداني بأسلحة نارية في ميدان واحد، فإن الطفيليين والمضاربين وأباطرة الفساد يحاربون الشعب السوداني في قوته وأمنه الاقتصادي، وفي تنميته واستقراره، وفي كل الميادين والمجالات، وإذا كان المتمردون يرتكبون الفظائع من نهب وسلب وتقتيل فإن (هؤلاء) يفعلون الشيء نفسه لكن بسلاح لا يُدرك خطورته إلا قليل، فمنهم من يعمل لأن تكون بلادنا دولة مستوردة لقوتها ووقودها وعلاجها وملبسها ومأكلها ومشربها لأن في ذلك (دولارات) تمتلئ منها الجيوب والبطون بالسحت والمال الحرام، وهذا ما ظللنا نكرره في كل مرة …
لقد بتُّ أكثر قناعة بأن فئة من (الناس) يحاربون الدولة وشعبها المكلوم وإلا فأجيبوني بوضوح لماذا لا يزال السودان يستورد القمح وقد أعلنت الدولة غير ما مرة مشروع توطينه وأنفقت المليارات لذلك، فلماذا فشل المشروع؟ ومن الذي أعاق مسيرته ولمصلحة من؟ ولماذا فشل مشروع توطين العلاج بالداخل بعد أن أهدرت الدولة المليارات في تنفيذه …
إن بسط العدالة والحكم الراشد الذي تتحدث عنه الدولة الآن إذا ما طُبق فعلاً لا قولاً كفيل بكنس كل هذه المخازي والتشوهات…
وإذا ترسخت قيم العدل على النحو المطلوب لن يبقى عصيًا على أفهامنا أن (موظفاً) عاماً بسيطاً كان يسكن بالإيجار، ويعيش بـ (مجابدة ومباصرة) ثم يجد موقعاً (مرطباً) فيرتع وما يلبث إلا قليلاً حتى تسمع بأملاكه العقارية وشركاته التجارية واستثماراته الخارجية …
وزير العدل الأسبق محمد بشارة دوسة، تعهد قبل “٤” سنوات بالتمكين للعدل وتحقيق قيم العدالة، وأكد في الوقت نفسه التزام الوزارة بتوجيهات رئيس الجمهورية بإعداد منظومة متكاملة لمكافحة الفساد وصولاً للحكم الراشد، ووزراء العدل الذين جاءوا من بعده إلى يومنا هذا يتحدثون فقط عن هذه القيم ويستعصي عليهم إسقاطها على الواقع…
فالذي يصلح الحال ويتطلع إليه الناس هو إزالة المتاريس التي تُشكلها الحصانات أمام مبادئ العدل، فالحصانات الآن على قفا من يشيل… والمساواة التي تهفو إليها قلوب التائقين إلى (نسمة) عدل في كتمة المظالم تبدو في الفرص المتكافئة بين كل أهل السودان في العمل والتوظيف، والعطاءات وحظوظ الثراء والتجارة والإعفاءات والتسهيلات وما إلى ذلك مما يستأثر به ذووا الحظوة دون غيرهم… اللهم هذا قسمي فيما أملك.
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.
الصيحة