ماتت حروف الدهشة

قبل أعوام خلت كتبتُ مقالاً عن هواجس “التطبيع” مع الفساد،وقلتُ إننا نخشى في ظل “التصالح” والتساهل مع هذا “الأخطبوط” والأساليب السياسية المنحرفة، وترك الحبل على الغارب دون محاسبة أن نصل مرحلة تستعصى علينا حواجب الدهشة فنعجز أن نرفعها استنكارًا لأن كل قبيح مستهجن سيصبحُ عاديًا بكثرة التكرار وسرعة الإيقاع مع غياب الردع والمحاسبة ، قلتُ أخشى أن يأتي زمانٌ نتصالح فيه مع تقرير المراجع العام بكل ما فيه من فظائع: خيانة أمانة وتزوير وسرقات، فحدث الذي خشينا، حتى جاءت التقارير التي تحدثنا عن ترويج الخمور والمخدرات والتهريب بالسيارات الدستورية.!!!…كأنما أصحاب الممارسات والأساليب الفاسدة قصدوا تطبيع “علاقتنا” مع هذه القضايا ومع الانحراف السياسي بكل أشكاله ، وذلك بنزع الحساسية تجاه هذه الممارسات الفاسدة…

خشيتُ وقتها أن نبلغ منطقة “انعدام الدهشة”، وفقدان الحساسية تجاه الممارسات والأساليب الفاسدة المنحرفة، فهل ياتُرى وصلنا المنطقة “إيّاها”…

فإذا بلغنا منطقة “انعدام الدهشة”، سنجد أنفسنا متصالحين مع كل الغرائب والبدع السيئة والمفارقات ، وتلقائيًا نكون قد فقدنا الحساسية إزاء كل ممارسةٍ مُستهجنةٍ ومُستنكرةٍ حينها سنتيقّن بأنه ليس هناك ما يُدهش، فكل شيء عادي…

منطقة “انعدام الدهشة”، مثل منطقة “انعدام الوزن”، الفرق فقط أن الأخيرة فوق سطح القمر، بينما الثانية فوق سطح أرض السودان، وإذا كانت الأجسام على سطح القمر لا يُقام لها وزنٌ مهما كانت كثافتها وحجمها وكتلتها، فإن الممارسات السياسية الفاسدة المُدهشة في منطقة “إنعدام الدهشة” لا تلفت انتباهًا ولا تثير فضولًا لكثرة تكرارها للدرجة التي يتصالح معها المجتمع ويعتبرها أمرًا عاديًا، وبالتالي لا يُقام لها وزنٌ مهما كانت مفارقاتها ودرجة انحرافها…

تيقنتُ أننا قد و”صلناها” أو كدنا، عندما سمعتُ أن والياً استنكر على أحد معاونيه حبس موظفين من ذوي الولاء تحصلوا “جبايات” من السوق لصالحهم عوضاً عن “الدولة” وطلب منه إطلاق سراحهم وهو ينتهر صاحبه :”دي حاجات بسيطة ياخ”..!!!

يقيني أننا قد “وصلناها” وتصالحنا مع كافة أشكال الفساد عندما أسمع المسؤولين يصوبون الاتهامات الصريحة لـ “مطار الخرطوم” بأنه أصبح البوابة الرسمية للتهريب،وأن 70% من إنتاج الذهب يتم تهريبه عن طريق المطار وغيره ، ومع ذلك لا أجد إقالة لمسؤول،ولا محاسبة لأحد، وكبار مسؤولي المطار وحُراس منافذه ليس من بينهم شيوعي ولا حزب أمة ولابعثي ولامؤتمر سوداني،ولا حركات مسلحة.. ورغم ذلك تتوالى الاتهامات الرسمية لـ ” المطار الرسمي ” والمطار ساكت،والتهريب عبره مستمر ولم ينقطع…أجد كل ذلك وأنا لا اندهش لكثرة تكرارالاتهامات، وسيل التهريب والضبطيات ، وكثرة الصمت وغياب المحاسبة،ألا يعني ذلك أن “حساسيتنا” تجاه الفساد قد ماتت ولم يعد هناك ما يثيرها، وماتت معها “الدهشة”…وماتت حروف “الدهشة” قُبال أهمسا…لي الليلة ما وشوش نسيم في روض وما غرد مسا…لي الليلة ما سافر عبير بالطِيب يغازل نرجسا…الليلة يا “وطني الكبير” في حرقة لافيني الأسى…كل الاعتذار لشاعرنا المحترم التجاني سعيد للاقتباس … اللهم هذا قسمي فيما أملك..

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائمًا في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..