فرانكنشتاين والمأساة

زيد خلدون جميل
كانت أحداث قصة فرانكنشتاين الخيالية تدور حول فكتور فرانكنشتاين الذي كان عالما فذا من منطقة جنيف السويسرية في نهاية القرن الثامن عشر، وكان مهووسا بفكرة التوصل إلى سر الحياة، واعتقد أنه سيمكنه من صنع مخلوق حي من أجزاء بشرية ميتة.
وبعد عدة سنوات من التجارب المضنية، اقتنع بأنه توصل إلى ذلك السر، فقرر أن يصنع الإنسان المثالي، الذي يتمتع بذكاء خارق وجمال لا يضاهى، وبعد عدة أشهر من العمل الشاق نجح في جمع أجزاء بشرية ميتة لتحقيق مبتغاه، ولكنه لم يكن دقيقا في عمله، فبعد أن ربط تلك الأجزاء مع بعضها بعضا استطاع إحياء المخلوق الناتج عن هذا، ولكنه تفاجأ بحجمه العملاق، فقد بلغ طوله مترين وأربعين سنتيمترا، أما شكله فكان مرعبا، فالشرايين الدموية كانت بادية بوضوح تحت جلده، وعيناه كانتا بلون أصفر غريب، وكان أقرب ما يكون إلى الغول منه إلى الإنسان. وبعد كل هذا العناء وكان الوقت متأخرا في الليل قرر فرانكنشتاين أن يخلد إلى النوم، إلا إنه استيقظ فجأة ليجد ذلك المخلوق البشع والمرعب واقفا أمامه، وابتسامة مخيفة مرسومة على وجهه، فأصيب فرانكنشتاين بالفزع وهرب مذعورا من المنزل.
ولكن إذا كان فرانكنشتاين قد فشل في خلق الشكل الجميل، فإنه نجح في خلق الذكاء، لأن المخلوق كان ذا ذكاء خارق، حيث علم نفسه الكلام والكتابة، وكان شديد الحساسية رقيق الطباع محبا للناس، إلا أن العكس هو ما حدث، حيث كان الجميع يهرب منه، ما اضطر المخلوق إلى أن يلجأ إلى الغابة منعزلا، ليتعذب بسبب الوحدة القاتلة، ويعاني من صدمة اضطهاد الجميع له، فإذا كان الناس يملأون العالم صخبا ومرحا، فإن عالَم المخلوق هذا كان صامتا كالأموات. وأخذت تنتاب المخلوق وبشكل تدريجي أفكار سوداوية تجاه فرانكنشتاين، متهما إياه بالتسبب بمأساته، وتطور هذا إلى حقد عظيم، لأنه كان هو من جلبه إلى هذا العالَم التعيس الحاقد، الذي رفضه ونبذه وكأنه حيوان أجرب، فأخذت طباعه تتغير نحو العنف، لتتخذ في النهاية طابعا إجراميا نحو فرانكنشتاين نفسه، الذي لم يعطه حتى اسما، وكأنه لم يستحق أن يحمل اسما كبقية البشر، لأنه لم يكن بالنسبة لفرانكنشتاين سوى غول لا علاقة له بالبشر. وتستمر القصة، حين يلتقي المخلوق بفرانكنشتاين ثانية، ويطلب منه أن يصنع له امرأة ليعيش ويتحدث معها، فهو ليس أقل من الآخرين من المخلوقات الحية مرتبة، إلا أن فرانكنشتاين يرفض الطلب فيهدده المخلوق، ولكن دون جدوى، أمام إصرار العالم فرانكنشتاين على الرفض وصل غضب المخلوق وحنقه إلى درجة، أنه قتل زوجة فرانكنشتاين وشقيقه وصديقه محاولا الضغط عليه لإتمام المهمة، وبعد أحداث كثيرة تنتهي القصة على متن سفينة راسية في أحدى المناطق القطبية الشمالية، حيث يموت فرانكنشتاين بسبب المرض أمام بصر المخلوق الذي لم يصدق عينيه، فبوفاة فرانكنشتاين انطفأ بصيص الأمل الوحيد له في صناعة رفيقة له، ولم يستطع تحمل العزلة والعذاب بعد ذلك، فقرر الانتحار لإنهاء هذه الحياة السقيمة، وسار مبتعدا عن السفينة باتجاه الفضاء الأبيض الفسيح ليختفي إلى الأبد.
لم تكن لهذه القصة أي علاقة بالواقع، بل كانت قصة خرافية تماما كتبتها فتاة إنكليزية تدعى ماري وولستونكرافت جودوين (1797 ـ 1851) عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. وقد كانت هذه الفتاة في الحقيقة ابنة لأبوين من الفلاسفة الإنكليز المعروفين، وتنتمي إلى الطبقة العليا من المجتمع الإنكليزي وعشيقة أشهر شاعر في بريطانيا آنذاك، وهو برسي شيلي (1792 ـ 1822) حيث أصبح اسمها ماري شيلي بعد زواجها منه. وترك برسي وماري بريطانيا عام 1814 في رحلة أوروبية ومرا بألمانيا، حيث سمعا هناك عن قصة عالم ألماني كان يقوم بتجارب فاشلة لإحياء الموتى في قلعة تدعى فرانكنشتاين، قبل زمنهما بسنوات طويلة. وفي عامي 1815 و1816 اجتاحت العالم موجة من الشتاء القارص والممطر بشكل استثنائي وكان ذلك بسبب ثورة بركان تامبورا في إندونيسيا، وكان العاشقان آنذاك في رحلتهما الأوروبية الثانية، وقد انتهى بهما المطاف في منطقة جنيف صيف 1816. وفي يوم كئيب حيث كان المطر ينهمر بغزارة، لم يستطع العاشقان الخروج من المنزل فقضيا الأمسية مع بعض الأصدقاء، ومنهم الشاعر الإنكليزي الشهير اللورد بايرون (1788 ـ 1824) في قراءة قصص ألمانية عن الأشباح، فاقترح اللورد بايرون أن يشتركوا في مسابقة في ما بينهم، وهي تأليف قصة مرعبة والفائز هو من ينتهي منها أولا، وبعد عدة أيام كانت ماري هي الفائزة، حيث انتهت من تأليف قصة العالم فرانكنشتاين ومخلوقه. واستطاعت ماري أن تنهي النسخة النهائية للقصة عام 1817 ونشرتها في العام التالي، وكان نجاحها وشهرتها واسعين إلى درجة انها أصبحت من أشهر القصص في تاريخ الأدب الغربي. وقد نُشِرت بعد ذلك عشرات الدراسات عنها، وكذلك القصص المقتبسة منها، بالإضافة إلى المسرحيات والأفلام السينمائية، التي كان أولها عام 1910 وما زالت تنتج حتى الآن، وقام بتمثيل بعضها أشهر الممثلين العالميين مثل، روبرت دي نيرو ودونالد ساذرلاند، وكانت سبب شهرة آخرين مثل، بوريس كارلوف وكريستوفر لي. ولم تكن السينما المصرية استثناء، فقد أنتج فيلم مصري عام 1935 عن فرانكنشتاين، وهو فيلم «حرام عليك» بطولة اسماعيل ياسين وعبدالفتاح القصري وسناء جميل، ومثل دور فرانكنشتاين الممثل المصري محمد صبيح (1914 ـ 1980).
تعالج قصة فرانكنشتاين مأساة الشعور بالوحدة لدى الإنسان، ففكتور فرانكنشتاين (العالم الذي صنع المخلوق) كان نفسه يميل إلى الوحدة، كما تقول القصة بسبب تفرغه لأبحاثه، وكان أحد أعز أصدقائه المثقفين في القصة روبرت والتن، يعاني من الوحدة أيضا، نظرا لعدم عثوره على شخص يساويه ثقافيا كي يتواصل معه، ولكن المأساة الحقيقية والأهم في القصة كانت المخلوق نفسه الذي أصبح محور القصة وأشهر شخصياتها.
تعتبر قصة فرانكنشتاين أول قصة خيال علمي من قبل الكثيرين من النقاد والمؤرخين، ولكن قد يكون هذا غير صحيح، لأن العالم الفلكي الألماني يوهانيس كبلر (1571 ـ 1630) كان قد كتب قصة «الحلم» عام 1608، التي دارت أحداثها حول رحلة إلى القمر. ولكن هذا لا يقلل من أهمية قصة فرانكنشتاين وتأثيرها على الأدب الغربي الحديث، فقد تطور أدب الخيال العلمي تدريجيا وتحول إلى جزء مهم من الأدب العالمي الحديث. والمضحك في الأمر أن الجمهور في عشرينيات القرن التاسع عشر خلط بين الشخصيتين (فرانكنشتاين والمخلوق) وأطلق اسم فرانكنشتاين على المخلوق نفسه، وأصبح هذا راسخا في الثقافة الشعبية في كافة أنحاء العالم إلى يومنا هذا، ويستعمل الاسم كثيرا في وصف الشخص القبيح الشكل، أو المتوحش في تصرفاته، كما إن هذا الاسم، حسب قاموس أوكسفورد، يرمز إلى الشيء أو المخلوق الذي يقتل من صنعه.
وعلى الرغم من أن المعروف أن ماري شيلي هي من ألف القصة، إلا أن دراسة دقيقة لتاريخ ماري وبرسي شيلي والقصة نفسها، تجعلنا نشك في كون ماري المؤلفة الوحيدة لها. ففي عام 1816 كان برسي شيلي ككاتب وشاعر قد أثبت كفاءته للجميع وأصبح معروفا وأسلوب قصة فرانكنشتاين شبيه بأسلوبه في أعمال أخرى، يضاف إلى ذلك أن شخصية العالم فكتور فرانكنشتاين كانت شبيهة جدا بشخصية برسي نفسه، كما أنه كان هو من كتب مقدمة قصة فرانكنشتاين، وتمتاز القصة بتلاؤمها مع أفكاره.
وقد اتفق المؤرخون على أن برسي كان يحاول جاهدا أن يجعل من زوجته ماري كاتبة شهيرة. ومن ناحية أخرى نجد أن ماري شيلي كانت في الثامنة عشرة من عمرها عند كتابة القصة، أي أنها كانت في بدايتها الأدبية وكانت تنقصها الخبرة الكافية لتكتب عملا أدبيا بهذا الحجم، بل إنها لم تستطع أن تنشر شيئا يعادل فرانكنشتاين شهرة أو أسلوبا بعد ذلك، على الرغم من نشاطها الأدبي الواضح، وكان أسلوب قصة فرانكنشتاين بعيدا عن أسلوب ماري الذي عرفت به لاحقا عندما أصبحت في قمة إنتاجها الأدبي. وهذه الأسباب تجعلنا نتساءل حول الدور الحقيقي لبرسي شيلي في تأليف القصة.
كاتب عراقي
القدس العربي