السودان على المذبح .. من التالي؟!

تقسيم السودان عبر انفصال جنوبه سيكون سابقة خطيرة في العالم العربي، وبداية لإحداث تهديد مباشر ليس للسودان بل للأمن القومي العربي، فأمن السودان مرتبط بأمن مصر، وأي إخلال بأمن مصر يشكل هزة للمنطقة في القلب، وما يحدث الآن في المشهد السياسي العربي ربما غير مفاجئ ومتوقع لمن يطلع على التركيبة التاريخية التي صاغت فيها القوى العظمى الجغرافيا السياسية للمنطقة منذ مطلع القرن الـ 20.

في الكتاب المهم جدا الذي يستحق القراءة مرة ومرتين، بالذات لمن يعتقدون من العرب ”المستغربة” أن التخلف في الشرق الأوسط هو في الجينات والذهنيات، ولم تأت به المؤامرات والحروب والانقلابات،(Peacc to end all Peace) للمؤلف الأمريكي ديفيد فرومكين، في هذا الكتاب يعود المؤلف إلى ملاحظة تاريخية مهمة وبعيدة الدلالة، ففي الصراع على منطقة الشرق الأوسط في مطلع القرن الـ 20 سعى الحلفاء لإدخال الولايات المتحدة طرفا في الحرب ضد ألمانيا والإمبراطورية العثمانية، إذ كان الرئيس ودرو ولسون حينئذ يتخذ موقفا متشددا إزاء (الطموحات الإمبريالية) لبريطانيا وفرنسا وروسيا، وكان عازما على إفشالها عبر تبني مبدأ (حق الشعوب في تقرير المصير)، الذي كان يؤمن به.

إلا أن الأوضاع تبدلت، فبعد هجوم الغواصات الألمانية على السفن التجارية الأمريكية وجد الرئيس ولسون نفسه في موقف حرج، فقد كان الضغط الشعبي يطالب بعقاب ألمانيا بينما مناوئو الرئيس السياسيون كانوا يرون أن الدخول في الحرب سيكون لخدمة الحلفاء، الذين تجمعهم مصالح واتفاقيات سرية لا تخدم مصالح أمريكا.. وهنا كان الرئيس في نقطة حرجة، فالاتفاقات على اقتسام الشرق الأوسط كانت معروفة.

وعندما حرص ولسون على موقفه المحايد قبل الدخول في حرب ضد ألمانيا، سعى لمعرفة ماذا لدى الحلفاء من اتفاقيات. بلفور وزير خارجية بريطانيا أرسل له نسخا من الاتفاقات التي تمت لاقتسام الشرق الأوسط الذي كان حينئذ ساحة الصراع الرئيسة للقوى العظمى.

المهم هنا والذي له علاقة بالوقت الراهن هو أن (إدوارد هاوس) أحد المستشارين السياسيين المهمين للرئيس ولسون، عندما اطلع على مضمون الاتفاقات قال، كما ينقل فرومكين (هذه خطة كلها سوء، وهذا ما قلته لبلفور. إنهم يجعلون من الشرق الأوسط مكانا يستولد حربا في المستقبل). ويرى فرومكين أن (هذا كلام فيه شيء من التنبؤ).

وبالفعل كما توقع إدوارد هاوس منذ ذلك التاريخ ظل الشرق الأوسط منطقة تستولد حروبا بعد حروب، وإدامة الصراع أدت وما زالت تقود إلى نسف جميع المكونات الأساسية للمنطقة عبر تقسيمها ضد حقائق الجغرافيا والتاريخ، فالتقسيم كما حدث في إفريقيا وآسيا، وضع بذور الصراع واستدامة العنف وعدم استقرار المجتمعات وبالتالي بقاؤها في مأزق التخلف الحضاري والاقتصادي المستمر، فكيف تستطيع الشعوب أن تلتفت للبناء والاستقرار وهي تجر من حرب إلى حرب؟!

واستدامة القلاقل في المنطقة تجعل الدول الكبرى تتدخل في مفاصلها السياسية والاقتصادية، والتدخل غير المحسوب أو المرغوب يُحدث الهزات والصدمات المتتالية مما يجعل الشعوب والحكومات تفقد مقومات التفكير والسلوك الموضوعيين الضروريين للبناء والإنتاج.

المؤسف أن القوى العظمى استقر في أدبياتها ومبادئها الأمنية الحيوية ضرورة الهيمنة على المنطقة، لذا استمرت عملية خلط الأوراق وإعادة ترتيب الأولويات السياسية والاجتماعية. فكما كانت سابقا، فنحن نعيش في ظلال الأزمات ونراها في فلسطين والعراق ولبنان والآن .. في السودان! ويبدو أن هذا قدر المنطقة الذي تفرضه اعتبارات الجغرافيا، حيث تقع المنطقة (في قلب العالم)، وأيضا تفرضه ثرواتها الطبيعية الضرورية لبقاء العالم.

إذاً نحن إزاء حقيقة مستقرة وهي قدرنا فهذا وضع مخيف، ويتطلب نظرة حكيمة وهادئة تتبنى مبدأ الاستقرار لأجل منع وقوع الحد الأدنى من الأضرار، والسؤال: هل الشعوب والحكومات على كلمة سواء وتلتقي على أرضية وذهنية مشتركة لتحقيق ذلك؟ لا أحد يستطيع الإجابة المانعة الجامعة ولكن كل من بيده شمعة عليه أن يوقدها، فالهجوم على المنطقة وإدامة الصراع فيها لا يواجهه سوى الالتفات إلى الذات وإعادة تكوينها لأجل التصالح مع عالم السياسة الذي يسعى إلى التعايش بين الممكن والمستحيل .. فيستحيل الوقوف إزاء قوى عظمى أصبحت لها مصالح وجودية في المنطقة وقادرة على نشر الخراب والدمار، و فيما هو ممكن ألاّ نستسلم للانهزام المعنوي الذي يحجب الرؤية والروية، وبالتالي الانجراف ثم تدمير الذات.

قد تكون هذه رؤية فلسفية لا تحتملها تقلبات الأوضاع في المنطقة ومحددات فهمها، ولكن ما يجري يجعل الحليم حيران، خصوصا بعد اتضاح اقتسام السودان .. وما سيأتي بعده من البلدان! وما بقي إلا أن نقول صبرا جميلا، والله المستعان!

عبد الوهاب الفايز
الاقتصادية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..