أَكاذيبُ الحاجة نَصْرة

عادل سيد أحمد

إشتهرت حاجة (نصرة) وسط نساء الحي بالبُوْبار، و الفشخرة، و الكذب. و كانت تلك الصفات التي تتحلَّى بها ( الحاجّة نصرة)، مصدراً لكدرهن، و تأففهن و سبباً كافياً لإبتعادهن عنها، و مجافاة مجالستها… لدرجة تقترب من: المقاطعة…
كانت تحكي، عن جمالها، في صباها، الذي لا يوصف، و ثروة أبيها التي لا تنضب، و عن بطولات و شهامات أخوانها… و على العموم كانت تنسب لنفسها، طالما البعرفوها ما حضروها، كلَّ جميل…
و كان عُمرها المعلن في هذا المجلس أو ذاك، يتناقص، طرداً، مع عدد العارفات به من الحضور… بحيث طابق، ذات مرّة: عمر بنتها البكر (إنتصار)…
لذلك كلِّهِ، ضِقن بها و لم يحتملنها!
و لكن ، مع الزمن،… و طول العُشرة، صرن يطقنها، و يتحملّن وقع أكاذيبها عليهن، و يسمحن لها أو يدنين، هِنْ، من مجلسها، في مناسبات الحي العديدة: أفراحهُ و أتراحهُ…بل، و صرن يستمتعن بحديثها و مُبالغاتها و مُباهاتها بما تملك و لا تملك، و كانت أكاذيب (الحاجة نصرة) بدورها، أكاذيب بيضاء، و مُهذبة … لا تضُر أحداً، و لا تقحم سيرة الناس في ثناياها، و لا تتضمن إفشاء أسرار هم، و لا تحتوى على: بذاءةٍ أو ساقطِ قولْ… و مع ذلك فإن الهفوات و الهنّات كانت لتحدث، و تنكسر الجرّة: مرّة… مرّة!
و الحقيقةُ، أن (الحاجّة نصرة)، و منذ طفولتها و ريعان الشباب، إتصفت بالخيال الواسع و سرعة البديهة بين أخواتها، و كانت، قبل الولوغ في الكذب و إدمانه، تمتلك قدرات مُعترفٍ بها في الخُروج، أو إخراج نديداتها و رفيقات دربها من: المآزق التي تتطلب حفظاً لأسرارهن و تفاديهن عقاب الأهل، و تجنيبهن أكثر المواقف إحراجاً و تعقيداً، في مجتمع، ما فتيء يحاصر الفتيات في الصغيرة و الكبيرة، و يُحصي عليهن: أنفاسهن!
و لكن، بناتها، اللائي كنَّ على دراية و معرفة برأي و موقف نساء الحي من أمهن، و من خيالها الجامح، الشاطح… الناطح، ذلك الموقف الساخر ،أحياناً، منها… أو المشفق عليها في أغلبِ الأحيان، كُنَّ يخجلن من أمهن و لها… و يدارين عليها: بحملها على الصمت، إن كنَّ حاضرات في مجلسها، أو بالإعتذار الملطف، غير المباشر، عن رُشَّاق خيالها و رايش أكاذيبها، و بوبارها، و مباهاتها، في أغلب الأحيان، خاصة إذا ما أصاب ذلك البوبار و تلك المباهاة، كبرياء إحدى نساء الحي الحاضرات أو الغائبات، في: (مقتل!)…
و من سلوكها الكذوب، جاء أيضاً، تمارضها المتكرر و أدعائها الدائم للسقم، عندما طعنت في السن: كل ما أحتاجت لدعم نفسي، أو تحسين في مستوى التغذية و المعيشة، أو بلغ بها السأم مبلغاً فوق إحتمالها، في: إبتزاز عاطفي مفضُوح لأفراد الأسرة، و للمقربين من المعارف و الجيران!
و كانت تُجيد، في هكذا أحوال، دور المريضة، بحيثُ كان أهل الدار يعجزون، حقيقةً، عن معرفة حقيقةَ المرض من عدمها … و يحتارون، في نداءاتها، و استغاثاتها المتقنة، أناتجة هي عن مرض؟ أم وهم؟ أم إدعاء؟ أم كذبٍ صريح؟؟؟… بحيثُ خلقت ما يُمكن تسميته ب:(مسرح الحاجة نصرة).
و مع ذلك، و برغمه، و في كل الأحوال، كانوا: يقومون بالواجب، و يحملون شكاويها: محمل الجد! و لكنهم كانوا يلجمون تماديها في التمارُض، حينما: يدخل الدواء و العلاجات الأخرى دائرة الضوء… فقد كان ذلك: يخيفها، و يخفف من إدعآئتها و كذبها… لأنها كانت تتجنب (أقراص الدواء)، و تهاب (الحُقن!)… و تكرهها،كراهية: العَمَى!
و في فترة طويلة من حياتها، قبل أن تدهمها السُنون، و يفتُّ عضدها الزمن، ساعدتها سرعة بديهتها و عدم تورعها عن إطلاق الأكاذيب: شمال يمين، ليس في إبتدار أعمالاً تجاريّة، فحسب، بل و التوسع فيها، أيضاً… مما سهّل عليها دخول البيوت من أبوابها و فكَّ الحصار و العزلة حتى صارت أكاذيبها جزء لا يتجزأ من بضاعاتها المتواضعة… و صارت جاراتها ينتظرن مجيئها لا لشراء البضائع وحدها … بل للإستماع و الإستمتاع بالقصص الخياليّة من نسج خيالها المتسع بموهبتها الجبّارة و عدم تحرجها في استباحة الماضي: و ماضيها بالذات تشذيباً و تنقيحاً و مونتاج!
و عندما شاخت، (الحاجة نصرة)، ضعفت ذاكرتها و أصابها: داءُ النسيان، فصارت تروى، الحدث، براويات مختلفة لا تتطابق فيما بينها، إن لم تتناقض… و كانت الروايات تخلو من الكذب الأبيض اللذيذ و من ظلاله، فباخت ونستها … لدرجة أن: قدامى المحاربات من صديقاتها و المخضرمات، كنَّ يذكرنها بالرويات و القصص الكذوبة التي أطلقتها الحاجة نصرة، أثناء مجالستهن، لعقودٍ، فيقلن لها:
لا يا حاجة نصرة، أنت الكلام دة نقَّصتيهو… و ما قلتي لينا زمان، كدي!
فتسرح (الحاجة نصرة) بعينيها، شاخصة بهما إلى نقطة فوق السقف… أن كانت راقدة، أو وراء الأفق، إن كانت جالسة… و تطقطق أصابعها الرقيقة الطويلة المُجعّدة بوهنٍ، و تقول بصوتٍ قادمٍ من التاريخ:
صدقتن!
ثم تبدا في نسج روايات أخرى، جديدة، تحمل أكاذيباً طازجة، كانت تتعرف عليها نساءُ الحي: لأول مرّة…متأوهةً تارةً… فتارة، و هي تهمهم:
آه، حليلنا نحن، الزمانّا فات… و غناينا مات!
وعندما تُوُفِّيَتِ (الحاجةُ نصرة) بعد طول عمر وفاضَت روحُها إلى بارئِها، نَعتها نِساء الحي مِن صديقاتها، ومعارفِها وجَليساتِها وبعض قريباتها… وهنَّ يستلهِمنَ كذِبها الحُلو في ذكرِ مَحاسِنها وتَعداد مَناقبها… وبكين حظَّهُنَّ العاثر في فقدها، وأشفَقْن َ مِن غيابها الذي سيدوم في مجالسِهِنّ أبدًا! .

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..