جنيف نجحت لقد وقعنا في الفخ

عثمان يس ود السيمت
هناك حكاية عرفت بحكاية (طرفة وخاله المتلمس) وهي الحكاية التي انتهت بمقتل طرفة . حيث كان طرفة وخاله نديمان للملك عمرو بن هند ، وقيل أن طرفة قد هجا عمرو بن هند أو تغزل في أخته فرأى الملك أن يتخلص منهما فكتب لهما كتابين لعامله بالبحرين ويقال له المكعبر بأن يقتلهما إذا بلغا عنده. وهما في الطريق رأى المتلمس شيخاً يأكل ويقضي حاجته ويتناول القمل فيتفلى منه في نفس الوقت ، فعجب المتلمس وقال له (ما رأيت أحمق مما تفعل) فرد الرجل (الأحمق مني من يحمل حتفه بيديه) وانتهت القصة بأن أخرج المتلمس كتابه ودفع به لغلام فقرأه فوجد فيه أمراً بقتله فرماه في النهر وطلب من طرفة أن يفعل مثله فأبى وكانت النتيجة أن قتل طرفة ونجا خاله المتلمس.
مقال اليوم يعود بنا لنفس الرواية لكنه يجتزء منها حكاية الشيخ الذي كان (يأكل) و (يقضي حاجته) و (ويتفلى من القمل) في نفس الوقت . وعلل ذلك تعليلاً منطقياً وفق رؤيته (للأمور) . يدخل طيباً ويخرج خبيثاً ويقتل عدواً.
فالإدارة الأمريكية في مؤتمر جنيف كانت تدخل طيباً وتخرج خبيثاً وتقتل عدواً . وحتى لا نطيل عليكم فأمريكا كانت في جنيف :
تدخل كمالا هاريس للبيت الأبيض.
وتخرج دونالد ترامب من الحملة الإنتخابية.
لكن من هو ذلك العدو الذي كانت تتفلى منه وتقتله؟؟
فجميع استطلاعات الرأي الأخيرة المتابعة للحملات الانتخابية الأمريكية والتي ستنتهي في نوفمبر إما بفوز كمالا أو عودة ترامب تكاد تتفق على أنهما يكادان يتساويان بنسبة 50% لكل منهما . لكن تتفوق كمالا في مجالات (ما يهم الناخب الأمريكي داخلياً) واهمها الخدمات الاجتماعية والفواتير والرعاية الصحية والهجرة وموضوع الإجهاض (حق المرأة في إتخاذ القرار في ما يخص صحتها) وقضية حمل السلاح وما يترتب عليه من جرائم ومآسي. ويتفوق ترامب في موضوع إدارة السياسة الخارجية و(أمن أمريكا). ويتخلف عنها في جميع الملفات الأخرى.
قضية (الأمن) في أمريكا قضية مفصلية يحكمها إرث تأريخي نتج عنه سلوك مكتسب لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، وسبق أن عرضت ذلك الإرث في مقال لي في 2017م . ذلك الإرث تمثل في (عقد تأريخية) وهي ثلاثة بالتحديد وتشكل معضلات في الفكر لا يغفلها المواطن الأمريكي وإن كان لا يفكر فيها علناً وهي :
عقدة الإبادة الجماعية والتي حدثت للهنود الحمر، والسخرة والإستعباد ضد الزنوج وهما معضلتان و(خجلتان) لا يستطيع الأمريكي التفكير فيهما جهراً وإن كان لا ينساهما أبداً . فالمتابع للأعمال السينمائية الأمريكية منذ أفلام رعاة البقر والغزو الأبيض لأمريكا بما فيها بعض الأفلام التي حاولت تناول الموضوع (بشفافية) مثل فيلم العسكري الأزرق soldier blue. وظل الفكر الأمريكي يراوغ نفسه بمحاولة إيجاد (علاج أو تبرير أو ربما تعويض) مقبول يريح العقل الباطن الأمريكي من هذا الصراع ، وخير مثال لتلك المعالجات ما نجده في بعض الأعمال الحديثة مثل (عودة ديجانجو Django Unchained) بطولة جامي فوكس وكريستوف فالتس حيث يعود ديجانجو في هيئة كاوبوي أسود ليخلص السود من ظلم الرجل الأبيض. هذه العقدة جعلت أمريكا (تتحدث) كثيراً عن حقوق الإنسان في الفترة التي تلت الانتصار (الجزئي) لحركة الحقوق المدنية . وأصبح يؤرقها كثيراً كل ما يذكرها بذلك الماضي (المزعج) . لذلك فإن تصديها لمثل تلك القضايا في العالم إنما هو من قبيل محاولة (إراحة النفس) من ذلك الصراع المؤلم . والدراما الأمريكية أعتبرها أكثر نضوجاً وتعبيراً عن الواقع الداخلي مما نسميه في عالمنا هنا (دراما).
العقدة الثانية هي عقدة التلكؤ في إتخاذ القرار (المناسب في الوقت المناسب) ونشأت هذه العقدة حين تلكأت أمريكا بنفس أسلوب (هاملت) في دخول الحرب العالمية الثانية حتى جاءتها الحرب في أراضيها بطريقة ما زالت تعتبرها مذلة حين تتذكر (بيرل هاربر). لذلك أصبحت أمريكا تعيش في حالة حرب مستمرة منذ تلك المعركة.
العقدة الثالثة نتجت كتداعيات للعقدة الثانية بمحاولة علاج (يرد الكرامة والروح المعنوية) وذلك باستخدام العقاب الماحق أو القوة الماحقة والتي تمثلت في استخدام القوة النووية في هيروشيما وناجازاكي. وسرعان ما تحولت هذه الحادثة لعقدة أشد فتكاً (بالحالة النفسية) الأمريكية من بيرل هاربر نفسها.
نتج عن تلك العقد التأريخية أن : القوة الأمريكية مقدمة على ما سواها في جميع الرؤى التي تتنافس في المعارك الانتخابية ، ومن لا يثبت أنه قوي كفاية كمرشح يكون مصيره السقوط. أدى ذلك لأن يكون لكل رئيس أمريكي حربه ، وقد عاصرت في حياتي 12 رئيساً أمريكيا (الذين تستوعبهم ذاكرتي الواعية) وكان لكل منهم حربه ، خاصة إذا رغب في أن يعاد انتخابه . وأشهر من لم يعاد انتخابه كان الرئيس كارتر ولم تكن له حرب ، بل لم يشفع له أنه قام برعاية أكبر عملية سلام قامت بها أمريكا وهي (اتفاقية كامب ديفيد). لكن المطلوب هو (معركة وحرب) يثيت فيها المرشح للفترة القادمة قدراته على إدارة الحرب. جو بايدين لم يتقدم لإعادة ترشيحه لكن نائبته كمالا هاريس تحملت وزر (ضعفه) كونه لم تكن له حرب لتفترن بإسمه . لقد استمعت لمدة تقارب الساعتين لخطاب كمالا هاريس بمناسبة قبولها تسمية الحزب لها كمرشحة له ، وهو خطاب عرضت فيه رؤية الحزب الديموقراطي (ورؤيتها) لحكم أمريكا في المرحلة القادمة . كان الخطاب تلخيصا لما ذكرته أعلاه ولم تترك مكاناً ساخناً في العالم إلا وذكرت ما ستفعل فيه بالرغم من أن الرئيس السابق أوباما في خطاب تأييده لها ذكر أن أمريكا ليس بالضرورة أن تكون شرطي العالم ولكن المهم ما ذكرت هي.
جنيف مؤتمر ناجح جداً من حيث إرادة وأهداف منظميه ، فالإدارة الأمريكية لم تكن ترغب في (ملف بارد) لتضع فيه كل تلك الجهود بقيادة وزير خارجيتها . بل كانت تبحث لحملتها الانتخابية والتي ستنتهي في خلال 70 يوماً أو أقل عن (معركة سريعة وسهلة وتشبع العقد الأمريكية الثلاثة) بحيث تضمن دخول كمالا هاريس للبيت الأبيض وتخرج ترامب من المعركة الانتخابية. فهي تدخل طيباً وتخرج خبيثاً. لكن من هو ذلك العدو الذي ستتناوله كالقمل و(تقصعه) بين أظافرها؟
مصطلح الإرهاب مصطلح أمريكي تخشاه أمريكا منذ أن هاجم أراضيها في حادثة أوكلاهوما ثم حوادث نيويورك ومصالحها في الخبر بالسعودية وحوادث سفاراتها في شرق افريقيا ومدمرتها كول في ميناء عدن . أصبح الإرهاب هاجساً أمريكياً تتعامل معه خارج أجندة الإنتخابات لكنه يحتاج (لرجل قوي) أو قد يجربون (إمرأة قوية) وفي الذاكرة ما فعلته المرأة الحديدية في بريطانيا في حرب الفوكلاند . ولوصول إمرأة حديدية أمريكية على الإدارة الأمريكية وفي خلال 70 يوماً علاج (ضعف) الرئيس بايدن وإضفاء القوة على خليفته المحتملة كمالا هاريس. لذلك كانت الدعوة لجنيف ليست من أجل الحرب الأهلية في السودان (والذي لا يعرفه الناخب الأمريكي) ولا من أجل حقوق الإنسان (وهي ليست من هموم أمريكا) ولا من أجل المجاعة ولا من أجل النساء السودانيات كما وقف بلينكين يقول ويمدحهن منذ قيام الثورة ووقوف الكنداكة على سيارة (لتقود) الثورة (وكل ذلك كلام طيب) ولكنه ليس الحقيقة. لقد إنعقد مؤتمر جنيف وله خطة (ب) ولم نسمع عن الخطة (أ) . أي إنعقد ليفشل فيكون قد نجح في الوصول للخطة (ب) ووقتها ستفلي أمريكا القمل (قملاية قملاية) بل وستأكلها كما تفعل القرود . أيضاً هنا لا يهم أمريكا ولا ناخبيها ما هو ذلك القمل (قمل رأس أم قمل تكة سروال أم قمل عانة اسفل من ذلك قليلاً) . لكن الأغبياء من بلدنا المكلوم بسلوك الأغبياء قد أوقعونا في الفخ مرتين . مرة بقطع الرؤوؤس وأكل الأحشاء ومرة حين رفضوا الذهاب لجنيف وابوا إلا أن تنجح خطة أمريكا كاملة وستأتيكم حربها وعلى صدرها تلك الصور البشعة (لجنودنا يقطعون الرؤوس ويأكلون الأحشاء) . ناس الروسين المربعة حيقولوا لكن ديل ما جنودنا (يللا فهموا أمريكا كده) . ثم ماذا عن المدمرة كول وقد دفعتم تعويضاتها .
لقد أبتلينا بقيادات لا تفهم حتى كيف تحافظ على حياتها ، فالمستهدف كل تلك القيادات إلا من أبى ، ويبدو أن حميدتي بذكائه البدوي فهم ما لم يفهمه خريج كلية الأركان بعلومه العسكرية . وجلوس حميدتي بجنيف سيجبر أمريكا على تعديل الخطة (ب) لتصبح (ب1) وفيها قد يكون حميدتي بديلاً مشروعاً للقيادة الجديدة تضعه مكان من رفض جنيف ويجعل كمالا هاريس تصل للبيت الأبيض بعملية تشبه ما فعله جورج بوش الأب بمانويل نورييجا رئيس باناما . ولو حدث ذلك سيكون انتصاراً مدوياً شكله المسرحي أفضل من حرب العراق وأفغانستان ، فهي عملية تنسجم تماماً (وإراحة الضمير الأمريكي) من (أكلان) تلك العقد.
ما كنت أتمناه أن تكون لقيادة الجيش والدعم السريع قنوات إتصال (سرية) تتبادل فيه المعلومات التي تهم سلامة الوطن وسلامة (تولا) وتولا أو تولة تعني في الموروث السوداني (النفس) لكن يبدو أننا قد دخلنا مرحلة سبق السيف العزل وأن الأدوار قد رُسمت ولا مجال لإعادة صياغتها ، فمهلة ال 70 يوما معنيٌ بها الإدارة الأمريكية وليست إدارة بورتسودان . وقريباً قد نبارك لكمالا هاريس تخليصنا من ترامب وسيأتينا نحن من لابركة فيه ولا نستطيع أن نبارك له .
في كل ذلك أين هي قوى الثورة السودانية ؟ لا أقصد قحت ولا تقدم ولا مجرمي الحرب وإنما أقصد قوى الثورة الحقيقية.
طبعا يا كاتب المقال فقدت المصداقية من ما قلت انك عاشرت ١٢ رئيس يعني بالميت كدا انت بديت حياتك الأمريكية مع الريس ايزنهور او كندي الاول…. يعني انت خشيت امريكا بداية الستينات او نهاية الخمسينات… وحسب علمي غير كدا… يبقي لي الحق في ان اشك..
طيب تاني شنو…
كل هذه السنين ولم تفهم كيف يفكر السياسي الكاوبوي ولم تعي الدرس ولا الحاضر ولا الماضي…
بالجد كدا وبدون اي تلون هل بي تصدق انوا الامريكان يريدون خيرا بالجيش او المواطن او البلد ككل وانوا ناش الجيش ضيعوا الفرصة علي نفسهم… ياخي طالب سنة اولي سياسة لا يقبل بهذا…
دخلوا طيبا واخرجوا خبثا سمك لبن كركدي فسيخ…
لسخرية القدر هناك مقال في الجزيرة نت عدد اليوم عن حياة ومسيرة وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن اذا قرأتة فانه يدحض كل كلامك هذا ويعيد تعليمك في السياسة الأمريكية.