الفكر العربي الإسلامي وتزييف التاريخ السوداني

ان اغلب التاريخ الموجود في المراحل الدراسية أو المبثوث على قنوات الإعلام يعمل على ربط التاريخ السوداني بالتاريخ العربي ما قبل وبعد الرسالة المحمدية. ففي كل مجالات الحياة الإنسانية نجد الذين يريدون ان يذهبوا إلى التاريخ يلجئون إلى التاريخ العربي في مجال ضرب الأمثال أو مجال الوعظ والعبر وغيره. فإذا أراد احدهم أن يضرب مثل عن الشجاعة نجده قد ذهب إلى ذلك التاريخ وإذا تحدث احدهم عن الكرم يحدثك عن حاتم الطائي وإذا تساءلت عن الأخلاق أو الزهد وغيره من المجالات الإنسانية أو الاجتماعية يذهب بك مباشرة إلى ذلك التاريخ.
فعمل ذلك التاريخ على فصل التراكم التاريخي للحضارة السودانية من حيث القيم والشخوص، ويتمرد الفكر العربي الإسلامي على النقد أو المقارنة عندما يرتدي الثوب الإلهي وتصبح تلك القيم وأولئك الشخوص جزء من الإله والتاريخ الإلهي على الأرض.
ويختلف الإرشاد الإلهي عن التجربة الحياتية والفكر الناتج عنها إذا كان في الإرشاد المحمدي أو في غيره من الإرشادات، فحياة الرسل وتجربتهم الذاتية ليست جزء من الإرشاد وكذلك الإرشاد ليس جزء من الله، فحياة الرسل عبارة عن محاولة استيعاب لتلك الرسالات من خلال مرحلة حياتهم وحياة مجتمعاتهم، وبالتالي فان إدخال الرسل ومرحلتهم التاريخية ومجتمعاتهم ضمن النطاق الإلهي هو نتاج قصور فكرى جاء من محاولة إدراك ثلاثية منفصلة هي الله والإرشاد والحياة ودمجهم دخل مجال واحد يشمل فقط مجتمعات تلك النخب.
وإذا كان هنالك مجتمع يجسد جوهر مفهوم الإرشاد وليس الفكر الديني الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، فهو المجتمع السوداني. وجوهر الإرشاد هو إدراك مغزى الحياة الإنسانية في استمرارها والتكامل المجتمعي والتعامل مع الآخر باعتباره إنسان بغض النظر عن هويته الداخلية. ومارس المجتمع السوداني كل ذلك قبل التجريف الذي حدث له مع تحكم الفكر العربي الإسلامي على مفاصل الحياة في السودان. وحتى لا يكون كلام مرسل وتحديدا في قدسية الحياة حتى بالنسبة للآخر نورد جزء من سيرة بعانخي ورسالته عند غزوه لمصر في رد على الغزوات المصرية على أرضه وارض حلفائه، وفي تلك السيرة والرسالة يوجد كل مغزى للإرشاد في توصيفه لكيفية التعامل مع الآخر.
ولمتبعي الفكر العربي الإسلامي نوضح ان هذه السيرة من التاريخ كانت في عهد المجتمعات العربية تحارب بعضها بعضا وكانت تستمر لعشرات السنين كما يخبرنا تاريخهم، وما كنا نمارسه وجاءت الرسالات حاثة عليه لم تدرك المجتمعات العربية فائدته بالنسبة للحياة إلى الآن رغم وجود الإرشاد المحمدي بين ظهرانيهم، نتيجة لوقوفهم إلى اليوم عند العصبية القبلية التاريخية.
رسالة وتاريخ بعانخي نجده في كتاب تاريخ السودان لنعوم شقير ص 20 وما بعدها، وهذا جزء من الرسالة والتاريخ (لا تهاجموه ليلا هجوم الخادعين بل هاجموه متى رأيتم انه اعد جيوشه وخيوله وسار لقتالكم وإذا قيل لكم انه يجمع مشاته وفرسانه في مدينة أخرى ويستعد للهجوم عليكم فاثبتوا في مكانكم إلى أن يأتيكم فحاربوه مستبسلين … ثم سار بجنوده شمالا وكان كلما مر بمدينة وقد أقفلت دونه أبوابها يدعوها للتسليم فتسلم له فيدخلها ويأخذ منها الجزية ولا يقتل من أهلها أحدا … وكان قد أوصاهم قائلا إذا تسور أحدكم السور فلا يقف في مكانه وإذا سلم لكم احد الرؤساء فلا تقتلوه لان هذا مذموم).
وهذا التاريخ قبل ميلاد المسيح أي قبل الرسالة المسيحية وقبل الرسالة المحمدية، وهذا هو تاريخنا الحقيقي الذي كنا نلتزم فيه بالقيم الاجتماعية والإنسانية قبل مرحلة التجريف التي أتت إلينا بمقولة الحرب خدعة أو المقولة الأقبح “امسح اكسح قشو ما تجيبو حي” وبعد ذلك يحدثونك بأنهم آتيين من الله، ولا يدركون أنهم يعبدون صنم صنعوه بأيديهم يسمي بالفكر العربي الإسلامي.
ورغم محاولات التجريف التي استمرت مئات السنين منذ بداية احتكاك الفكر العربي الإسلامي بالحضارة السودانية وبلغ قمته مع ما تسمي بالحركة الإسلامية، إلا ان أصل الحضارة السودانية ظل ثابتا تتمسك به المجتمعات من خلال السرد ومن خلال القيم. فعلينا العودة إلى تاريخنا الحقيقي وليس المزيف، فإذا كان يوجد أفراد في تلك المجتمعات يضرب بها الأمثال في الشجاعة والكرم وغيره، فان في المجتمع السوداني تاريخيا والى الآن نماذج لا حصر لها. وإذا كانت هنالك قيم أريد لها ان تعبر عن مغزى الإرشاد الإلهي في كيفية التعامل مع الآخر باعتباره آخر إنساني فهي قيم المجتمع السوداني.
[email][email protected][/email]