شكيت حلفا ملهم الإبداع في سيرة الرعيل الفني الخالد محمد وردي

إشكيت حلفا ملهم الإبداع في سيرة الرعيل الفني الخالد محمد وردي وصالح ولولي/ محجوب بابا
المدخل: يتفق الدارسون على إطلاق صفة الإبداع على المبتكرين أو المبرزين في أي معلم من أشكال الفنون، عليه قد يكون من المنطق إطلاق صفة المبدع الجامع الكامل على ظاهرة الفرد الجامع بين أكثر من مجال أو معلم فني. يتوافق هذا الافتراض مع حقيقة أن الإبداع الشعري مثلا كان في الأصل إنشادا مجلوا بطلاوة اللحن الجاذب، والشاهد على ذلك أن فحول الشعر الجاهلي كانوا يتغنون منشدين بأشعارهم ويحفظ منهم الرواة والجواري والندامى وبترديدهم كان خلود المعلقات وموروثات الأغاني ودونكم كتاب الأغاني للجاحظ. تبرهن هذه الحقيقة على سلامة المفهوم النوبي القائم على إطلاق مسمى الشاعر للفرد المبدع الجامع بين موهبة المؤلف والمغني والمطرب، فضلا عن واقع التسامي على ظاهرة دعاوي ومنازعات حقوق الملكية وشيوعية التراث. يتجلى هذا القياس في سيرة فقيدنا الثنائي وردي وولولي وقد يبرز التساؤل حول بيئة جنات إشكيت حلفا الملهمة لهما لهكذا التميز.
المتن: في رواية قريبنا المرحوم الدكتور إسحق أيوب لمقتطف من سيرة وردي نشر بعد رحيله تحت عنوان وردي في أشكيت ذكر الآتي (مدرسة أشكيت الصغرى منارة العلم في تلك القرية النوبية التي تقع شمال مدينة وادي حلفا على مشارف الحدود المصرية (خط عرض 22 درجة شمال) ، أشكيت جنة الله وادي الخضرة والماء والجمال، أي الثلاث مُلهمٌ الإبداع. تقع على النيل وتحفها غابات النخيل وأشجار الموالح والعنب البناتي ومزارع القمح والفول. أبناء جيلي بالصف الثاني في المدرسة …. وصلت برقية بأن هناك مُعَلم جديد قادم وكانت الفرحة عظيمة عندما أخبرهم مفتش التعليم بأن القادم إليهم يسمى” محمد عثمان حسن وردي” من أبناء صواردة يتحدث اللغة النوبية بل ويترنم بها. جاء المعلم وردي ترافقه زوجته ثريا (أم صباح) ومعه آلة الطنبور، وكان أهالي اشكيت رجالاً ونساءً في استقبالهم جوار منزل جدنا محمد حسين أيوب الصغير في حي أيوبـإركي في إشكيت والذي قد خصص لاستضافتهما. في أيام قليلة أصبح وردي وزوجته ثريا وكأنهم إشكيتوكيه وبقية من الأهل، ثريا لا تفارقها جاراتها، “تهرا أوانا، ونونه، وسميرة اليابانية، وسفرا أوية، وتمايا وشقيقتها نفيسة، وصديقتها هجلة داود، هفيزا وشقيقتها فاطمة سيدي، زينب آشا، وعمتها هديجة بنت تهربجارا، وآشا دهيبة، وبرسي، وخديجة حسن الوحيدة التى تستطيع التحدث باللغة العربية (كلهن عماتنا وخالاتنا رحم الله المتوفيات منهن وطول العمر للأحياء) أصبحت ثريا تذهب إلى الحقل وتشارك في موسم حصاد التمر وجلب الماء من الترعة الرئيسية التى يسمونها “المشروق” أما زوجها أفندي وردي فقد أصبح صديقاً لجميع شباب الحي.. محمد عبد الغفور، صادق الشفا، دهب دوانا، عثمان نباوا، وغيرهم (كلهم الأعمام والخليلان رحم الله المتوفيين منهم وطول العمر للأحياء) كما امتدت صداقته لتشمل أولياء الله الصالحين الذين يمشون على الأرض هوناً.. أبدو هجيجة، محي الدين طه ومحي الدين فاطمة تمايا (رحمهم الله). كان معلمنا الجديد وردي يعمد إلى إطالة شرح المفردات ثم يقوم بترجمتها إلى اللغة النوبية باسلوبه السهل الممتنع. تعلمنا منه اللغة العربية قراءة ومخاطبة ونحن غير الناطقين بها،، وكان يقوم بتلحين القصائد المقررة فنرددها خلفه عدة مرات ثم نحفظها عن ظهر قلب سوداننا سوداننا أرض الجدود والأب.. فيه وجدت مأكلي فيه وجدت مشربي.. خلف نوافذ الفصل تأتي فتيات الحي لسماع تلك القصائد بصوته العذب أختي عواطف ومعها منيرة كتة وفريال آشيدو وفاطمة تبد “هبولي”.. تهرا ستا وفياقا وشقيقتها نفيسة هجلة ملكة جمال القرية في ذلك الزمن الجميل. لم يكن يلجأ معلمنا إلى العقاب البدني وأنا ذلك التلميذ الوحيد الذي نال منه هذا النوع من العقاب فعندما كسرت ذراعي وقام الطبيب بمستشفي وادي حلفا بعمل جبض في يدي اليسري، وفي حصة اللغة العربية وعندما خرج وردي من الفصل لبضع دقائق ضربت التلميذ أبيناشا (المرحوم القاضي الشرعي ابراهيم أحمد عثمان) باليد المجبصة فأخذ يبكى ثم كف عن البكاء وعندما دخل أفندي وردي إلى الفصل أخذ يبكي من جديد بصوت عال فضربني وردي بالمسطرة في يدي الأخري ضرباً مبرحاً ثم ذهب إلى والدي وأخبره بالأمر ورجاه أن لا يعاقبني لأنه قام بواجب التربية ويكفيني عقابه. لله درك من معلم. يقول معلم الأجيال المرحوم أفندي شيخون إن وردي هذا سيكون له شأن عظيم في التعليم والتربية أما إذا تفرغ لفن الغناء فسوف يصبح من كبار الفنانين خلال فترة وجيزة، ويقول أبي (المرحوم أبراس أيوب كسب الصندوق) إن حديث شيخون هذا نأخذه مأخذ الجد، وقد صدقت فراسته وهذا ليس بغريب على معلم تلقى على يده جيلنا وجيل من سبقنا هذا العلم الغزير ووالده الشيخ سيدنا شيخون الكبير تتلمذ على يده جيل والدي ومن سبقه.. وأدعو منظمة أشكيت لإقامة حفل تكريم يناسب ما قدموه لشباب القرية وشيوخها ومعهم كذلك أفندي طرفة وأفندي بكري قندول ثم حكيم القرية صادق الشفا. أقامت لجنة المدرسة احتفالاً كبيراً بمقدم وردي وقد أهداه والدي آلة عود في تلك المناسبة، يقول وردي بأنه يعتز بهذا العود أيما اعتزاز وقد تعلم العزف بالعود بدون مساعدة من أحد وقال في لقاء تلفزيوني له بأنه عندما ذهب به إلى صواردة قال أحدهم ولم يكن قد رأي العود من قبل يقول له ما هذا الشيء الذي تحمله في يدك والذي يشبه من الخلف السلحفاة؟يستطرد المرحوم إسحق قائلا… عند حضوري إلى الخرطوم والتحاقي بمدرسة الخرطوم الثانوية “القديمة” زاملني الصديق عبد الخالق حسن وردي عمه الأصغر والذي يقيم معه بالمنزل بحي العمارات. كنت أذهب معه إلى المنزل ويقول وردي بأنه سعيد جداً بلقائي مرة أخرى واجترار تلك الذكريات العطرة في أشكيت الجميلة الملهمة للفنان.. ويقول إنه ما زال يذكر مجلسه فوق مصطبة داره “التوقو” يجمع بين عينيه حقول القمح في مزرعة عمنا حسن صيام، والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء كما يقول الطيب صالح، تليها أشجار البرتقال واليوسفي في حديقة حبوبة آشا تلمع ثمارها كالذهب وعلى مقربة منها حديقة عبد الغفور الضخمة وبها أكثر من ثمانين شجرة مانجو مثمرة، ثم حديقة حسن سيدي شمالاً وأشجار العنب في حديقة أبو هرجة “والعناقيد تدلت كثريات الذهب” حقول البرسيم في مزرعة نجم بري وشجرة الجميز الضخمة أمام منزل دهب طنون تليها غابات النخيل والنهر يظهر بين فرجاتها. يقول وردي إن تلك الطبيعة الساحرة لا تمحي من الذاكرة.
وفي الأمسيات كان مكانهم الأثير جوار منزلنا فيأتي ومعه أصدقاؤه الجدد للاستماع إلى أغاني حسن عطية وإبراهيم عوض بالمذياع الذي يمتلكه والدي ويأتون أفواجاً من الأحياء البعيدة.. أحياء آري وتوماس وكشكوش.
آخر لقائي معه بالخرطوم كان بمزرعة رجل الأعمال الأخ الفاتح خليل بحي سوبا بدعوة كريمة من الأخوات هادية وآمال وحياة طلسم. تحدثنا كثيراً عن ذكريات أشكيت، كما تحدثنا بإسهاب عن الفن النوبي وأشار إلى خصوصيته وعالميته في آن واحد، كما تحدث عن الحضارة النوبية ومحاولات طمسها بسدي دال وكجبار والمسؤولية تقع على عاتقنا نحن أبناء هذا الجيل لإحباط تلك المحاولات اليائسة لإغراق ما تبقى من أرض النوبة وأشار إلى كتاب “حلفا الفردوس المفقود” للبروفيسور هيرمان بيل مدير متحف لندن السابق والذي عاش في حلفا لسنوات طويلة ويتحدث اللغة العربية بطلاقة.
وفي زيارة لي لأديس أبابا عرجت على مقهي ليلي فإذا بجميع رواد المقهي يستمعون إلى أغاني وردي رطانة ويرددون معه اسمر لونا.. إنه حقاً فنان إفريقيا الأول. أما عن سيرته الذاتية فمن منا لا يعرف أنه لا يخشى في الحق لومة لائم ويدلي برأيه بكل صراحة وصدق. ألا رحم الله أستاذنا الجليل الفنان محمد عثمان وردي بقدر ما قدم لأهل السودان من فن رفيع وأكتوبريات خالدة، ولو كره المرتجفون وفن أصيل). أما عن الراحل المبدع صالح ولولي تكفي الإشارة إلى أنه من المولود من طينة جنات إشكيت حلفا الموؤدة معايش الشباب على ترابها مما أثمر في موروثاته لمئات الأغاني الرمزية والألحان الشجية المحرضة والرافضة لجنائية التهجير والتوطين ألقسري، يتغني بها ويتراقص على أنغامها الأجيال شمالا وجنوبا على امتداد النيل وعلى أطراف المهاجر، بل هو المتصوف في محراب الفنون المتبوئ لمقدمة صف الإبداع النوبي، ترفع التحايا لكريمته ذكريات وللمعجبين في تخليد إرثه الصافي.
المخرج: رحمة الله الراحلين وأحسن خلودهما أضعاف العطاء والتسامي والارتقاء بفنون الغناء وجسد منهما نبراسا ومعلما للأجيال الراهنة والقادمة، فالتحيا ذكريات المبدعين.
محجوب بابا

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. معذرة للقارئ الكريم
    تصحيح في المدخل: كتاب الأغاني للأصفهاني وليس للجاحظ مع الإعتذار عن الخطأ
    محجوب بابا

  2. محجوب بابا : أسحر هذا – الكمأ – لا أعقب – ف الصمت فى حرم الجمال جمال – ان الحروف تموت حين. تقال !!!

  3. رحم لله الدكتور / إسحق أيوب ، كان موسوعة من ذاكرة الماضي، وقد أبدع في الوصف وأعادنا إلى الماضي التليد

  4. معذرة للقارئ الكريم
    تصحيح في المدخل: كتاب الأغاني للأصفهاني وليس للجاحظ مع الإعتذار عن الخطأ
    محجوب بابا

  5. محجوب بابا : أسحر هذا – الكمأ – لا أعقب – ف الصمت فى حرم الجمال جمال – ان الحروف تموت حين. تقال !!!

  6. رحم لله الدكتور / إسحق أيوب ، كان موسوعة من ذاكرة الماضي، وقد أبدع في الوصف وأعادنا إلى الماضي التليد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..