وقف حمار الإنقاذ في العقبة..!

ان تقاد عربة كثيرة الاعطاب في دروب وعرة، فهذه مجازفة حمقاء. ولكن ان تسلم قيادها لمن يجهل فنون القيادة و وعورة الدروب، فهذا/ه الاستهتار واللامبالة عينها. وبعد كل ذلك، ان يشغل مقاعدها، شرذمة من اللصوص والسفهاء والفاقد الوطني والانساني. عندها تكتمل فصول المأساة في تراجيديتها. لنحصل في نهاية المشهد علي كل ما لا يمكن تعقله او استيعابه، او مجرد استشفاف كنه الدوافع التي اختارت سلوك هذا الاتجاه العدمي.
فكيف يعقل ان تسبح دولة علي بحيرة من الثروات، متعددة المصادر والانواع، ويعاني شعبها المسغبة وشبح المجاعة؟ وكيف لمجتمع تتفتح امامه فرص المستقبل الواعد، مع امتلاكه كل مقومات النجاح، يجد نفسه اسير البكاء علي الماضي والحسرة علي الامس والتطيُّر من المستقبل؟ ان لم يفجعه الحاضر بالبؤس ويتربصه بالرعب ويفتح له ابواب الجحيم. وكيف يمكن لنظام او جماعة تجتمع فيها كل هذه المثالب والنقائص والتشوهات الانسانية؟ فاذا تحدثنا عن فسادها، فما نهبته هذه الجماعة ليس له مثيل؟ اما عن كذبها ونفاقها، فيعجز الكلام عن التعبير؟ واذا تعرضنا لتفريطها في مصالح البلاد وحقوق العباد، فعندها حدث ولا حرج، وكانها لم تاتِ إلا لعرضهما في سوق النخاسة؟ هل قلنا شيئا عن الاذلال والاحتقار والالفاظ السوقية، التي يبرع فيها اعضاء هذه الجماعة؟ والسؤال المحير، لماذا ظهرت اصلا هذه الجماعة، التي لا شبيه لها إلا (المسيح الدجال)، في ارض يتوسم فيها الصلاح؟ فهل غفلة الشعب وبالاخص نخبه السياسية لعبت دور في هذا الامر؟ ام العاطفة الدينية الساذجة، مثلت كعب اخيل في حصانة المجتمع؟ والحال كذلك، ألا تمثل هذه الجماعة وفي هذا المجتمع تحديدا، مادة ثرة لدراسة الكائن الانساني في تناقضاته وتعقيداته، التي لا تحكمها حدود؟ بل حتي ما درسناه عن سلوك الحيوان علي مقاعد الدرس، وجدناه اكثر منطقية من بعض سلوكيات الانسان، الذي يفاخر بتميزه بالعقل، ولله في خلقه شؤون. وعموما، كل هذا ليس بمستغرب الحدوث، في بيئة تتنفس الاستبداد والحرمان، ورماها حظها السيئ في دائرة الخذلان، في عالم تفتقد علاقاته العدل والاتزان.
وفي كل الاحوال، قد لا يختلف السودانيون، رغم اختلافهم علي كل شئ تقريبا، ان الازمة التي تردت اليها البلاد بلغت الحلقوم، وتاليا تنذر بما لا يحمد عقباه. وذلك ليس لاستحالة حلها، ولكن لان المتسبب الاساس في الازمة مازال متشبثا بالسلطة، مفترضا قدرته علي الحل، او الاصح فارضا سيطرته او الامر الواقع. اما ما يدعو للدهشة، في اوضاعنا الراهنة التي استعصت علي الاحتمال، هو تصدر بعض الاسلامويين المشهد، وهم يتطوعون من تلقاء انفسهم، لتقديم الحلول والمقترحات والمخارج. وبراءة الاطفال في عينيهم، والخشوع يتقطر من جباههم الوضاءة، والدعة والنعيم تفيض علي ملامسهم الناعمة وخدودهم الريانة، وسط كل هذا الضنك والغباش والجحيم، الذي يخيم علي بلاد الذل والهوان. فهذا الخبير الاقتصادي المرموق عبدالرحيم حمدي بجلالة قدره، يشخص لنا مشاكل الاقتصاد الوطني وخطورة حالته! وهنالك الاعلامي الضخم حسين خوجلي يتصدر قناته كل يوم، ليحدثنا عن تعقيدات الاوضاع وضرورة الالتفاف مع بعضنا البعض، لتكوين حزب السودان الواحد او شئ من هذا القبيل! وذاك السياسي الشهير علي الحاج عاد من المانيا علي جناح السرعة، ليقود جبهة الحور بين الفرقاء، واقالة عثرات الحوار الوطني! وصنوه المفكر الاسلامي الخطير غازي صلاح الدين، فتح كطارق بن زياد جبهة للاصلاح المستعصي. وهذا ناهيك عن كتيبة الاعلاميين الاسلاموية، التي تملأ الدنيا ضجيجا بالافكار والآراء والتعليقات، ليست عين الصواب والحقيقة فقط، ولكنها ذروة سنام الصالح العام! فمن بذمتكم كان يتخيل ولو في الكوابيس، ان هنالك اي علاقة يمكن ان تربط، كائن مفلس وموبوء بامراض التعصب والعنصرية والهوس، كالطيب مصطفي، بالصالح العام. ورحم الله الصالح العام واحسن اليه، إذا كانوا هؤلاء هم انصاره وحماته. فان لم يكن ما سلف هو علامات آخر الزمان (نهاية السودان) فما هي علاماته تحديدا.
واذا تركنا كل هؤلاء جانبا، لاننا نعلم الدوافع او ضرورات الاشتباه في كل ما يطرحون. فاننا نجد العجب العجاب في معارضين ثقاة ومفكرين كبار، يطرحون بكل بساطة ايجابيات اشراك الاسلامويين في تشكيل الفترة القادمة، كضمان للعبور من المأزق الراهن. وهو امر يدعو لاعادة البصر كرة بل كرتين في حقيقة معارضة وطبيعة افكار هؤلاء؟ ولو احسنا الظن، فمثل هذه الدعوات هي رد علي الازمة بازمة اكبر (العجز/الاستسلام). او بصريح العبارة، هي تعبير عن ازمات مواقف وافكار، تبدو عليها ملامح الشيخوخة، وتاليا لا تعد ببصيص امل في نفقنا المظلم الذي ادخلنا فيه الاسلامويون. والسبب ان الافتراض الذي تنطلقان منه اصلا مازوم؟ اي المشكلة لم تكن يوما في سودانية او بشرية او دينية هؤلاء الاسلامويين، ولكن تنصب تحديدا في كونهم اسلامويون! اي هذه الصفة هي لب المأساة. والسبب ان الاسلاموية ليست فكر او طرح سياسي من الطروحات والافكار المتداولة في الساحة السياسية، ولكنها في خلاصتها، نظام او آلية تضليل لاقتناص السلطة وغنم موارد البلاد بكل الوسائل والطرق. والحال هذه، ليس هنالك منطق او قيمة اخلاقية او حتي مبدئية ديمقراطية، تمنح شرعية لجماعة (هي وظيفة اكثر من كونها مشروع فكري/سياسي) غايتها الحصرية احتكار السلطة والتسلط علي المواطنين. اما اذا كان المبرر هو عدم الاقصاء، فالاقصاء مذموم في كونه يحرم المستحق من حقوقه. ولكنه لا يعني بحال من الاحوال، تسليم رقبة البلاد ومصالح العباد، لعصابة تشير كل الدلائل لنوعية سلوكها وطبيعة سلطتها. وليس ادل علي ذلك، من خدعة الشرعية الدينية التي تتمشدق بها. لانها لا تعني اكثر من ميوعة المرجعية، وتاليا قابليتها لتبرير وتمرير كل شئ، وبما فيها هضم التناقضات والالتفاف علي الالتزامات. وعموما، مثل هذه التبريرات هي غفلة اكثر منها نزعة تسامح او روح قبول للمختلف، وهذا قبل ان تشكل نقاط ضعف او مناطق رخوة في كل مشروع تغيير، غالبا ما تستغلها اسوأ استغلال، وتاليا تنفذ من خلالها كل مشاريع الاسلامويين الكارثية. وتجربتنا الديمقراطية الاخيرة خير دليل لكل من القي السمع وهو شهيد.
اما حكاية قدرة الاسلامويين علي المعارضة وتحكمهم في مقدرات الاقتصاد والاعلام..الخ، وتاليا تمكنهم من وضع العصا في دولاب مشروع التغيير في البلاد. فهذا بدوره جزء من الدعاية الكيزانية علي طريقة الدعاية الصهيونية. اما الاستجابة لهكذا دعاية او التاثر بمفاعيلها، لهو اكبر دليل علي المواقف والافكار المازومة التي خلفتها ازمة النظام المستحكمة. اي الافكار والمواقف اصبحت تنطلق من داخل الازمة وليس من خارجها! وتاليا اصبحت رهينة لشروط الازمة. والحال هذه، كيف يتسني لها تجاوزها او مجرد الاسهام في حلها؟ ولنقم دليل علي ذلك، الافتراض هو ان قوة الاسلامويين الاقتصادية خاصة، قادرة علي هزيمة او الحاق الاذي باي مشروع تغيير يتم بعيدا عنها. ويترتب علي ذلك ان اشراكهم مسالة اضطرارية، لضمان سلاسة انجاز مشروع التغيير المرتجي. إذا صح هذا الافتراض فهو يحمل احتمالين:
اما استجابة مشروع التغيير لمصالح الاسلامويين، او اقلاه عدم التعرض لها بشر.
او تعطيل مشروع التغيير عبر الفيتو الاسلاموي، والذي كالعادة يمارس بطريقة غير اخلاقية ولا وطنية.
وكلا الاحتمالين يلغيان مشروع التغيير من اساسه. لان التغيير ليس شئ آخر غير اعادة هيكلة السلطة والاقتصاد و..الخ او بنية الدولة بصورة شاملة. بحيث تعمل لصالح المصلحة العامة او ضد تجييرها لمصالح الافراد والتنظيمات والكيانات الخاصة. والحال هذه، اي تغيير لا يستهدف تقويض نهج الاقتصاد الاسلاموي (مصالح او قوة الاسلامويين)، المؤسس علي المال الريعي والانشطة الطفيلية ونمط الحياة البذخي! ومن ثم التوجه صوب الاقتصاد الانتاجي، الذي يسمح بمساهمة واستفادة الجميع. يصبح ضربا علي الرمل او خدع بصرية، سرعان ما يتكشف خواءها! لتظهر بوادر العجز الاقتصادي وتوابعه، من المعاناة المعيشية والتردي الخدماتي! لتتفجر الاوضاع من جديد، وتطفح النقمة علي سطح الحياة السياسية، لاعنة الاحزاب والديمقراطية! ومن ثم سماع المارشات العسكرية، والدخول في الدائرة الجهنمية الشهيرة. وللمفارقة، يصبح ما يتخوف منه المنادون بمشاركة الاسلامويين، هو نفسه ما يتحقق عبر مشاركتهم! وبكلام واضح، اي خلاص ياتي علي ايدي الاسلامويين لا خير فيه، والاهم اي تغيير لا ينجزه الشعب المغبون بيده، ويحافظ عليه بمهجه، هو سلفا لا يستحقه.
وعموما، تجربة الاسلامويين في السودان مرورا بداعش وطلبان وصولا لايران، حكمت علي نفسها بالحذف من المشهد المستقبلي. وذلك قياسا علي تجارب اقل منها همجية وعدمية، بسبب مرجعيتها غير الدينية، كالنازية والفاشية. والدليل، ليس هنالك اليوم من يدافع عنهما، او عن حقهم في المشاركة السياسية، وإلا اعتبر عنصريا او خطر علي البشرية. مع العلم انها قد تجد بعض التعاطف من اقلية شاذة من الغربيين، ولكن هذا لا يجلب لها التسامح او غض الطرف عنها في المجري العام. بل حتي الشبهات التي تتصل بها، اصبحت الآن تثير المخاوف علي مستقبل الغرب، كحال اليمين الشعبوي الصاعد، الذي ينذر بتهديد مكتسبات الشرائح الاكثر قابلية للاضطهاد. ومقدماته طالت الفارين من الاضطهاد، من خارج الفضاء الغربي. فما بالك بجماعات وتنظيمات اسلاموية ليس اكثر همجية وعدمية كما سلف فقط، ولكنها تفاخر بهذا التراث. المهم، التسليم لنموذج كالاسلاموية بمختلف تلوناتها، ولو في ظروف ديمقراطية مثالية. هي خطر علي تلك الظروف المثالية، قبل اي شئ آخر.
وبالرجوع لازمة الانقاذ التي ادخلت البلاد في عنق الزجاجة. نجد ان الازمة تمتد لمراحل تاسيس المرجعية الاسلاموية. فالترابي من اجل احكام سيطرته علي كل خيوط اللعبة، استخدم اسلوبين: اولهما، جعل كل السلطات في يده، من تفكير وتخطيط وتنظيم واشراف علي التنفيذ. وثانيهما، استبدال نهج المحاسبة بنهج الطاعة، او احلال الثقة في الفرد محل المؤسسية.
الاسلوب الاول بطبيعة الحال، عمل علي تهميش الحرية، ومن ثم اضعف الاحتمالات والفرص الديمقراطية، وتاليا عضَّد من السمة الدكتاتورية، ليس في طريقة الحكم فقط، ولكن الاخطر كطريقة استجابة من قبل افراد المنظومة تحت سلطاته. والحال هذه، كل ما يصدر من اعلي يجب تطبيقه فورا ودون تفكير او اعتراض. اما طريقة تنفيذ المهام او الاوامر او القرارات، فهي ما يقود للاسوب الثاني، اي الطاعة العمياء. واهم ملامحها، عندما تصل الاوامر للفرد او المسؤول في التنظيم، ينفذها غض النظر عن الوسيلة او الاكلاف او العواقب! والاسوأ ان تحت تصرفه كل التسهيلات والموارد وصولا لاستخدام الافراد كادوات.
ولكن هذه الاساليب في حقيقتها النهائية، مذلة وضد الكرامة والضمير والقيم الانسانية والموجهات الدينية؟ وهذه المعضلة الاخيرة بدورها يتم حلها عن طريقين: اولا، تصوير الطاعة كقيمة ايجابية مطلقة، وفي الديني (الايديولوجي) متسع لهذا التشويه الوجداني. خاصة وان الترابي يعلم الكثير عن تاثير الدين وعاطفة المتدينين. وقد يكون لهذا السبب تحديدا، ولاسباب اخري، اختار الترابي مشروع الدولة الدينية، كاستراتيجية سلطة واشباع لنوازع تسلط. ثانيا، التعويض عنها ماديا واجتماعيا، وذلك من خلال ترك الحبل علي الغارب لغرف اموال البلاد، مع اعطاء مساحة لجعل المنصب، اي منصب، اكبر من قيمته الحقيقية! اي يتحول الي وجاهة اجتماعية اكثر منه وظيفة فعلية. وهذا قد يفسر الفساد المهول من ناحية، وكثرة المناصب كالوزارات والولايات والمعتمديات والجامعات والشركات والمنظمات والمؤسسات والاجهزة، من ناحية مقابلة.
اذا صح اعلاه، يصح ان بعض الحديث المتداول عن عفة الترابي او عدم علمه بالفساد في دولته، هو حديث عارٍ من الصحة تماما. فالترابي وبسبب غروره الذي اورده المهالك (حرمانه من سلطة باع من اجلها دينه و دنياه) كان يعتقد انه متحكم في كل شئ. وعليه، طالما الفساد يخدم مصلحته، فهو مباح او غاياته شريفة! ولكن اذا شعر بخطورته او استخدم ضده، فعندها يتبرأ منه وينقلب عليه، قبل ان يستخدمه كسلاح ضد خصومه. علي عكس البشير، فهذا الاخير فاسد بالفطرة. اي اذا جعل الترابي الفساد وسيلة لبلوغ السلطة والمكوث فيها الي الابد، فالبشير جعل السلطة وسيلة للفساد واستدامته.
المهم، ما جعل احوال الانقاذ تتدهور بسرعة، ومعها للاسف اوضاع البلاد. ان الترابي رغم كل ما يقال عنه، إلا انه يجيد اصول لعبة السلطة، رغم عدم اكتراثه لاخلاقياتها وغروره الذي اتاه بنتائح عكسية. اي هو اكثر براغماتية، وتاليا كان يمكنه ان يقدم كثير من التنازلات حرصا علي بقاء الانقاذ او حفاظا علي مصالحها. لدرجة استعداده لتغيير مرجعيتها ذاتها، والارتماء في حضن اعداءها (مع العلم انها اصلا شعارات فارغة، والاصح لها وظيفة مرحلية). كما انه وبما يملك من كاريزمة بين اتباعه، قادر علي تمرير كل القرارات الصعبة والمناقضة للمرجعيات والشعارات السابقة. ولكن بوصول السلطة (كاملة) الي البشير فقدت الانقاذ مرجعيتها او نقطة ارتكازها. اي تحول مركز ثقلها من الاحتراف الي الهواة! وبكل ما تحمله الاخيرة من تخبطات وارتجال وعشوائية. وكل ذلك مع العلم ان البشير يفتقد المهارة والكفاءة والشجاعة، وتاليا لا يجيد لعبة السلطة كما يشيع البعض. ولكن هنالك عوامل خدمة البشير بعد المفاصلة (قبلها كان مجرد همبول) منها، ان الترابي حرم اقرانه (مشروع منافسته) من التطور والطموح، او اقلاه الثقة بالنفس لتحمل مسؤولية القيادة، هذا من جهة! ومن جهة مقابلة، ازاحة الترابي نفسها جعلت الاسلامويين يتخوفون من غدره، وقدرته علي الالتفاف واحتواءهم مرة اخري، وتاليا لم يجدوا سوي البشير كدرع يحميهم من سطوة الترابي ومفاجآته. كل هذه الظروف جعلت السلطات جميعها تؤول للبشير بعد خروج الترابي من موازناتها. والبشير قبل كل شئ مسنود من المؤسسة العسكرية، بعد ان غمر قادتها بالامتيازات المجانية واشركهم في المنافع الاقتصادية، وكذلك استفاد من تطلعات قادة الاجهزة الامنية لكسب وده (لغايات في انفسهم)، وتاليا التربص بالجميع وبما فيهم اسلامويين مناوئين. والخلاصة، الانقاذ في ظل الترابي كانت تعرف وجهتها، ولكن مع البشير اصبحت لا وجهة لها، وتاليا انفتحت علي التخبط في كل اتجاه. ومؤكد هذا التخبط يولد الازمات، ويجعل كل ازمة تمسك بخناق اختها. اي الانقاذ بدلا ان تحكم اصبحت تخلق الازمات، وتاليا تستغرقها هذه الازمات وتستنفد طاقتها. وبما ان كل ذلك يجلب لها السخط، بسبب انشغالها عن رعاية شعبها، ومن ثم يضعف سلطتها وهي غايتها الحصرية. فكان البديل لحل الازمات المكلف، هو الدفاع عن بقاءها علي سدة السلطة، سواء عبر الوسائل الناعمة، كاطلاق الشعارات والوعود والتطمينات والمبادرات الوهمية، او عبر الرسائل العنفية، كزيادة التوجهات العسكرية والتحذيرات الامنية والاستعراضات للقوات غير النظامية.
ومأساة البشير وقبله من يقع تحت حكمه، أن ادارة الدولة وقيادتها، علم وفن وسلوكيات واعية ومسؤولة، وهي بطبعها عملية معقدة، وتاليا تحتاج للمعرفة والخبرة والتخصصات المختلفة والوظائف والمهام المتعددة، والتنسيق بين كل ذلك، حتي لا يحدث تضارب وتتضرر مصالح البلاد والعباد. ناهيك انه بعد القيام بكل هذه الادوار والمهام، تزداد الاوضاع صعوبة مع مرور الايام، وظهور مستجدات تحتاج لتكيف من نوع خاص، وكذلك زيادة السكان وارتفاع مستوي طموحاتهم وتطلعاتهم، بالتوازي مع تناقص الموارد وشرسة الصراعات بين الدول. فما بالك في ظل كل هذه التحديات، ان تؤول الامور لسلطة غير شرعية، يقف علي راسها قادة غير مؤهلين لا اداريا ولا قيميا ولا وطنيا، كنموذج البشير. اما بعد توجه البشير لزيادة احتياطاته الامنية، وتجريب المجرب من سياسات اثبتت عقمها، ووجوه لعبت دور الاسد في التردي الماثل. فالمؤكد ان المصائب المتوقعة اعظم! ولكن هل هنالك اعظم من المحنة التي تمر بها الدولة السودانية الآن؟ بعد ان رهن فرد مصيرها، واصبح يقايض به، علي سلامته الشخصية؟! وانَّي له هذا، وآثار جرائمه وفساده في كل مكان؟!
المهم، اعتماد حمار الانقاذ علي المال الريعي لتسيير انشطته البذخيه، عوضا عن تنوع مصادر الدخل، من المداخل الاكثر جدوي اقتصادية، ولكنها ايضا الاكثر كلفة وحاجة لبيئة الاستقرار، لم يكن مصادفة! ولكنه توجه حتمي لمنظومة انقلابية تفتقد سلفا للسند الشعبي، وإلا لما قامت بانقلاب اصلا! وتاليا لن ترهن وجودها لجهود هذا الشعب او تقع تحت رحمته، وهذا عندما لا تخشاه وتحتاط لغضبته بترسانة من الامن، وقبلها الاستثمار في تشويه وعيه.
وبما ان المال الريعي نضب مع ذهاب ثلاثة ارباعه لدولة الجنوب، من هنا بدأ مازق السلطة في الاستحكام. ولكن كيف كانت ردة فعل النظام؟ وهنا نجد الفارق مرة اخري بين البشير وما يتوقع من الترابي، ولا نقصد من كل ذلك تفضيل او صلاح اي منهما للبلاد والعباد، من اي ناحية، فكلاهما ارض خصبة لانتاج البلايا والرزايا والشرور بكافة انواعها واحجامها. ولكن المقصود، ان ردة فعل الترابي مؤكد كانت ستختلف عن البشير، وذلك بناء علي معيار الشر العاقل اقل ضررا من الشر الجاهل في مواقف كهذه. حيث ما كان يتوقع من تصرف الترابي، هو تقليل النفقات، ليس حبا في الشعب، ولكن لعلمه ان الاسراف يقود النظام للافلاس عاجلا، ومن ثم يجعله عاجزا حتي عن تلبية احتياجات اجهزة حمايته المتضخمة. مما يعني الانهيار الحتمي لمنظومته من الداخل قبل الخارج. اما البشير فتصرفه معلوم للكافة، فقد فضل المهرجانات والرقص وزيادة الصرف الامني والدستوري، قبل ان يحول كافة الاعباء علي كاهل المواطنين المعدمين. اي رد البشير علي الازمة المالية بزيادة النفقات! وهذا ليس حديثنا، ولكنها شهادة شاهد من اهلها ممثل في صابر محمد الحسن، وان بصورة مواربة! وعبر هكذا تصرف ارعن، دارة الدوائر علي اصول الدولة وممتلكاتها، وانفتحت شهية الاستدانة، ولكن للاسف ليس لتوجيه الاموال وجهتها السليمة، او حتي نية رد الاموال الي اصحابها! وبكلمة محددة، اصبحت الدولة تدير الاقتصاد ومستقبل البلاد علي طريقة سوق المواسير. والحال كذك، كان لابد من الوصول لنقطة الافلاس التام، بعد صرف كل ما في الجيب والغيب معا. لتصل الازمة مرحلة العجز عن توفير الوقود! وهو كما هو معلوم الطاقة المحركة للدولة وانشطتها بالمعني الحرفي للكلمة. اي دون توافر الوقود لا يوجد إلا الشلل، وتاليا يمكن ان يصبح معيار اقتصادي، للفارق بين الدولة واللادولة او الدولة القادرة والدولة الفاشلة. ولذلك عدم توافره لمدة يوم، ناهيك عن ما يزيد علي الشهر، هو ببساطة رد الدولة الي عهد الدواب والشادوف والمعلاق (والمقصود اهدار الزمن والجهد وهما معيار العصرية علي اي حال)، وان لم يتاثر قادتها كالعادة بالمعاناة! وهذه بدورها واحدة من دلائل عمق الازمة، اي ان لا تصيب صانيعها باضرارها مباشرة او علي المدي القصير. والسؤال المحير، كيف تسير الدولة والمجتمع في اوضاع كهذه؟ فاما انهما اصلا غير منتجان او يمارسان انشطة غير ذات جدوي (عطالة مقنعة) ولا يحتاجان تاليا للوقود! او هنالك امكانية للتعايش مع حالة اللادولة السالف ذكرها، كواحدة من علامات تجذر ثقافة البداوة، رغم المظاهر السطحية لمغادرتها. ويا لها من تطورات تحسب للمشروع الحضاري الذي سيفوق العالم اجمع؟ ولكن مهلا، يبدو ان المقصود هو التطور العكسي، او التفوق في جلب اسلوب حياة وثقافة العصور الوسطي وفرضها علي الحاضر و رؤية المستقبل؟! وعموما، هذا ما يليق بمشاريع متخلفة ومفكرين رجعيين وقادة همجيين؟!
وكل ما سلف دون الحديث عن ندرة الغاز والدواء واشتعال فتيل الغلاء، ليحرق ممتلكات المواطنين البسطاء، وكل ذلك دون الوفاء بابسط ضرورات الحياة. اي المواطن السوداني اصبح يبيت مديون، ويصبح علي مصيبة جديدة كل يوم! والاسوأ من ذلك، ادخال الحكومة في وعي المواطنين ثقافة جديدة. فعن طريق الابتزاز او تهديد حياة المواطنين، ترسل الايحاء بان هنالك كوارث تختبئ خلف رحيلها او محاولة زعزعة سلطتها. بمعني، ان واجبها ليس تقديم الخدمات، ولكن ضمان الاستقرار. ولكن السؤال الاستقرار لمن، اذا كان جل المواطنين لا يملكون قوت يومهم؟ ولا اعتقد ان هنالك افلاس يفوق هذا الافلاس! وفي هذه المحطة الاخيرة تحديدا (الافلاس كخدمة وحيدة تقدمها للجمهور)، وقف حمار الانقاذ حسيرا كسيفا.
واخيرا اذا كانت كل المحاولات المطروحة والجهود المبذولة والتي تستعين بالاسلاميين كجزء من الحل مرفوضة، فما هو الحل اذن؟ خاصة وان الامور تسير بسرعة نحو النهاية التي يخشاها الجميع. للاسف لا يوجد حل حاسم ونهائي او كلمة سر تفتح كل ابواب الخلاص! خصوصا في مواجهة ازمة مستفحلة ومستعصية ومتطاولة كازمة الراهنة، والتي اصبحت كالجثة المتحللة، تحريكها مشكلة وتركها مشكلة اكبر. ولكن لهذه الاسباب تحديدا لا تنفع الحلول المرقعة او الاستعانة بمن تسبب في الازمة واستفحالها. وبناء عليه، الجهود التي يجب ان تبذل، والابداعات الفكرية التي يمكن ان تقدر ويرفع لها القبعة، وقبل ذلك تظهر معدن الفكر واصالة التفكير، والمواقف التي تحدد معيارية الوطنية او درجة حب الوطن، تتجسد في انتاج والوقوف مع، مشروع خلاص، يستصحب صعوبات الواقع، كتعقيد الازمة وشرذمة المعارضة وحساسية اوضاع المواطنين في الداخل وهم عالقون بين السعي اليومي لتدبير معايشهم وبين غدر الاجهزة الامنية التي تتربص بهم. والاسوأ تهور راس الدولة واستعداده لفعل كل شئ من اجل انقاذ راسه من قبضة المحاكمة. والمؤكد ان هذا امر صعب، والاكثر صعوبة ان ما عُجز عن انجازه لمدة ثلاثة عقود، اصبح مطلوب انجاز اضعافه في مدة لا تتجاوز بضعة شهور؟! ولكن في كل الاحوال هذا قدرنا، لاستنقاذ البلاد من قبضة جهلة ولصوص اوردوها موارد الهلاك.
آخر الكلام
كنت دائما علي قناعة، ان الترابي لعنة اصابت الوطن في مقتل، ولكن ما كنت اجهله، ان لعنة العسكر الجهلة، لا تقل كارثية وانحطاط.
مشهد الختام
البشير…انننتباه…الي المحكمة دُر..
مقال كامل الدسم. مستوي تناول عالي يشخص بعلمية وينأي عن اللغة المبتزلة.
هذا المستوي من التناول افتقدته الراكوبة منذ فترة ليست بالقصيرة لان كل من مسك قلما صار كاتبا ومحلل سياسي. شكرا للكاتب علي الارتقاء بذوقنا الي هذا المستوي الراقي.
لله درك من كاتب حاز ملكة التحليل وجزالة الأسلوب.
يبدو أن الإنقاذ ستنهار تحت ثقل تناقضاتها الداخلية، وهذا من فضل الله على العباد والبلاد.
في انتظار المزيد من المقالات، خصوصاً وأن التطورات كثيرة والأيام حبلى بالمفاجآت.
مقال كامل الدسم. مستوي تناول عالي يشخص بعلمية وينأي عن اللغة المبتزلة.
هذا المستوي من التناول افتقدته الراكوبة منذ فترة ليست بالقصيرة لان كل من مسك قلما صار كاتبا ومحلل سياسي. شكرا للكاتب علي الارتقاء بذوقنا الي هذا المستوي الراقي.
لله درك من كاتب حاز ملكة التحليل وجزالة الأسلوب.
يبدو أن الإنقاذ ستنهار تحت ثقل تناقضاتها الداخلية، وهذا من فضل الله على العباد والبلاد.
في انتظار المزيد من المقالات، خصوصاً وأن التطورات كثيرة والأيام حبلى بالمفاجآت.
الحل هو كما قال الأستاذ علي محمود حسنين ((لن تكون هناك جبهة وطنية عريضة بعد إسقاط النظام لأنها لا تريد أن تحكم بل ستعمل في الفترة الإنتقالية على التأكد و الإطمئنان على سلامة تنفيذ برنامج التغيير و سلامة الرؤى و التوجه. ))) الأستاذ علي محمود حسنين في حوار أجرته عبير سويكت المجمر.
وهذا ما نريده من جميع الأحزاب والجبهات والحركات. وهو نبذ الحكم الحزبي وإلى الأبد لارتباطه بالطائفية والرجعية والتخلف والدجل. ولكن يجب أن نتفق على هذا التوجه وسلامة بديله من الآن حتى يعلم الحميع ماذا سيفعلون بعد اسقاط النظام والقبض على أزلامه ومعاقبتهم؟ أعني الاتفاق على شكل الحكم. بالتأكيد لا أحد يريد العودة للأحزاب ولا الانتخابات لأن القيم التي تم تدميرها أو تخريبها لن تعود إلا بالقانون عبر تقنينها فيه وممارستها من خلاله. فالمساواة والكفاءة والنزاهة والاتقان والرقابة والمحاسبة هي التي ستتخلل الخدمة العامة والكل إما موظفون من الغفير للرئيس وإما مواطنون مراقبون- أفراداً أو عبر مؤسساتهم الصحفية الحرة لأداء الخدمة العامة ومحاسبة أفرادها لدى الجهات الرقابية الرسمية الادارية والقضائية والنقد والتقويم للبرامج التنموية التي تضعها المؤسسات العامة المعنية بالتنسيق مع المختصين وهكذا حكومة دائمة ذات شخصية اعتبارية متعاقبة توفر مكوناتها من أبناء الشعب وفق المعايير والقيم المذكورة وإلى الأبد فلا سياسة ولا أخزاب ولا زعامات سياسية أو طائفية.
الدين للأفراد وبعض شعائره التعبدية جماعية للتذكير بالمساواة والعبودية لله جميعاً والوقوف أمامه جميعاً للحساب أفراداً في الآخرة للمحاسبة على تمثله من عدمه في حياة الفرد في الدنيا كأفراد حيال بعضهم البعض. أما الدولة فهي لإدارة شؤون الحياة على الأرض بين البشر كمجموعات تشمل مؤمنهم وكافرهم بالدين على أساس الآدمية وبين البشر و ما سخره الله لهم من أقوات الأرض والسماء اللتين يعيشون بينهما كمجموعات وأمم بشرية بغض النظر عن ديانات ومعتقدات بعضها أفرادا وجماعات وذلك بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم الذي يتطلبه العقل البشري ويرفض ما سواه وهو الظلم ولا مشاحة كون الدين السماوي حث على هذه القيم، فالخالق يريد الخير لخلقه مؤمنهم وكافرهم وأما حسابهم على كفرهم وايمانهم به كخالقهم فيخصه وحده ويوم حسابه في الآخرة ولا مشاحة كذلك من تطابق الدين والفطرة السليمة والعقل الراشد في وجوب معاقبة الظلم في الدنيا مما يتعلق بحقوق العباد أو حقوق الإنسان كما تسمى بالمصطلح الإنساني المحايد عن مصطلحات الدين لأن الظلم والعدوان على حقوق الغير مما يهدد قيم المساواة على وجه الارض وعدالة اقتسام خلافتها بالعدل لكي تستمر الحياة فيها على الوجه الذي يليق بالانسان وتكريمه على سائر الحيوان.
الحل هو كما قال الأستاذ علي محمود حسنين ((لن تكون هناك جبهة وطنية عريضة بعد إسقاط النظام لأنها لا تريد أن تحكم بل ستعمل في الفترة الإنتقالية على التأكد و الإطمئنان على سلامة تنفيذ برنامج التغيير و سلامة الرؤى و التوجه. ))) الأستاذ علي محمود حسنين في حوار أجرته عبير سويكت المجمر.
وهذا ما نريده من جميع الأحزاب والجبهات والحركات. وهو نبذ الحكم الحزبي وإلى الأبد لارتباطه بالطائفية والرجعية والتخلف والدجل. ولكن يجب أن نتفق على هذا التوجه وسلامة بديله من الآن حتى يعلم الحميع ماذا سيفعلون بعد اسقاط النظام والقبض على أزلامه ومعاقبتهم؟ أعني الاتفاق على شكل الحكم. بالتأكيد لا أحد يريد العودة للأحزاب ولا الانتخابات لأن القيم التي تم تدميرها أو تخريبها لن تعود إلا بالقانون عبر تقنينها فيه وممارستها من خلاله. فالمساواة والكفاءة والنزاهة والاتقان والرقابة والمحاسبة هي التي ستتخلل الخدمة العامة والكل إما موظفون من الغفير للرئيس وإما مواطنون مراقبون- أفراداً أو عبر مؤسساتهم الصحفية الحرة لأداء الخدمة العامة ومحاسبة أفرادها لدى الجهات الرقابية الرسمية الادارية والقضائية والنقد والتقويم للبرامج التنموية التي تضعها المؤسسات العامة المعنية بالتنسيق مع المختصين وهكذا حكومة دائمة ذات شخصية اعتبارية متعاقبة توفر مكوناتها من أبناء الشعب وفق المعايير والقيم المذكورة وإلى الأبد فلا سياسة ولا أخزاب ولا زعامات سياسية أو طائفية.
الدين للأفراد وبعض شعائره التعبدية جماعية للتذكير بالمساواة والعبودية لله جميعاً والوقوف أمامه جميعاً للحساب أفراداً في الآخرة للمحاسبة على تمثله من عدمه في حياة الفرد في الدنيا كأفراد حيال بعضهم البعض. أما الدولة فهي لإدارة شؤون الحياة على الأرض بين البشر كمجموعات تشمل مؤمنهم وكافرهم بالدين على أساس الآدمية وبين البشر و ما سخره الله لهم من أقوات الأرض والسماء اللتين يعيشون بينهما كمجموعات وأمم بشرية بغض النظر عن ديانات ومعتقدات بعضها أفرادا وجماعات وذلك بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم الذي يتطلبه العقل البشري ويرفض ما سواه وهو الظلم ولا مشاحة كون الدين السماوي حث على هذه القيم، فالخالق يريد الخير لخلقه مؤمنهم وكافرهم وأما حسابهم على كفرهم وايمانهم به كخالقهم فيخصه وحده ويوم حسابه في الآخرة ولا مشاحة كذلك من تطابق الدين والفطرة السليمة والعقل الراشد في وجوب معاقبة الظلم في الدنيا مما يتعلق بحقوق العباد أو حقوق الإنسان كما تسمى بالمصطلح الإنساني المحايد عن مصطلحات الدين لأن الظلم والعدوان على حقوق الغير مما يهدد قيم المساواة على وجه الارض وعدالة اقتسام خلافتها بالعدل لكي تستمر الحياة فيها على الوجه الذي يليق بالانسان وتكريمه على سائر الحيوان.