هل السخرية وسيلة مقاومة أم دليل استسلام ؟؟

هل السُّخرية وسيلة مقاومة أم دليل استسلام ؟؟
يُروى عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن أحد مجالسيه أبلغه أن السودانيين أصبحوا يكثرون من إطلاق النكات الساخرة، فعلق قائلاً “لا بدَّ أنهم جاعوا” .. لو صحَّت نسبة هذه الرواية للسادات، فأغلب الظن أنه بتعليقه ذاك كان يُعبِّر عن تجربة شخصية مع شعبه.
المتابع لأحاديث السودانيين عبر مختلف وسائط التواصل الإسفيري وفي مناسباتهم الاجتماعية، يستطيع أن يلحظ بوضوح نزوعهم الطاغي للسخرية خلال تفاعلهم مع أية قضية عامة في وطنهم .. فعلى سبيل المثال، ما أنْ تُعلن حكومةٌ جديدة (لا جديد فيها) أو يصدر عن مسؤولٍ حكومي تصريحٌ (غير مسؤول) حتى ينهمر سيل النكات والرسوم الكاريكاتورية والتعليقات الساخرة بصورة تذكر بالمثل الشهير “شر البلية ما يضحك” .. كما يستطيع المرء أن يستبين البُعد التراجيدي المُستتر وراء هذه السخرية مثلما تتساقط الدموع أحياناً مع ضحكٍ مجلجلٍ فتجعله مُرَّ المذاق، أو تُحيله إلى “ضحكٍ كالبكا” حسب وصف شاعر العربية الأشهر أبي الطيب المتنبي.
يرى بعض الباحثين أن السخرية هي وسيلة مقاومة تهدف إلى تسفيه الطغيان وفضح عريه وكسر هيبته المصنوعة بالقوة المادية، أمَّا الروائي التشيكي ميلان كونديرا فقد كان من الطبيعي أن يجعل، في كتابه “الضحك والنسيان”، من السخرية مقياساً لمنسوب الحرية في مجتمعٍ ما، وذلك لكثرة ما رأى في مجتمعه، وما عايش هو شخصياً، من المبكيات المضحكات حيث فُصِل من الحزب الشيوعي بسبب اتهامه بـ “نزعات فردية” وحُظرت مؤلفاته وفقد وظيفته بعد انخراطه في ربيع براغ واضطر للهجرة إلى فرنسا بعد اجتياح الدبابات الروسية عاصمة بلاده (في كتابه المذكور آنفاً، يبدو كونديرا كما لو أنه يتحدث عن سودان اليوم حين يقول على لسان أحد شخوص حكاياته: الدستور يضمن حرية التعبير، بَيْدَ أن القوانين تعاقب كل من يهدد أمن الدولة، ولا يعرف أحدٌ متى تصرخ الدولة بأن هذا الكلام أو ذاك يهدد أمنها).
وفي مقابل من يرون السخرية من الاستبداد وطبائعه وصنائعه وسيلة مقاومة، هناك من يرونها نوعاً من الخنوع والاستسلام والتأقلم القسري مع الواقع الغاشم، وتعبيراً عن حالة عجزٍ عن تغيير الواقع أو الدفاع عن الحقوق، وهي حالة تليق بالضعفاء فاقدي الحيلة كما في حكايتين، على نَسَق حكايات كليلة ودمنة لابن المقفع، وقعتُ عليهما مصادفةً قبل عدة سنوات في زاوية صحفية – من أسفٍ سقط اسم صاحبها من الذاكرة – أولاهما عن خروفٍ وجد نفسه فجأةً في مواجهة مباشرة مع ذئبٍ، في قارعة الطريق، عاجله باتهامٍ جائرٍ بأنه قابله في نفس هذا المكان قبل عامٍ كامل وأخرج له لسانه وولَّى هارباً .. حاول الخروف المسكين أن يحتكم للمنطق، فأوضح للذئب أن عمره لا يتجاوز ستة أشهر وذلك يكفي دليلاً على عدم ارتكابه ذلك الجرم لأنه لم يكن قد أبصر النور بعد، لكنَّ الذئب ردَّ عليه، بفمٍ يسيل لُعاباً، بأن هذا يعني أن مرتكب الجرم هو أبوك لأنه يشبهك تماماً ولا بدَّ أن تتحمل النتيجة .. وعندها أدرك الخروف الوديع أن المنطق الأعزل لا يصمد أمام الظلم المسلح فحاول اللواذ بالسخرية وقال للذئب ضاحكاً: “يخلق من الشبه أربعين”، غير أن السخرية لم تجنبه مصائر أسلافه السابقين وانتهى ثاوياً في بطن الذئب .. أما ثانية الحكايتين فهي عن خروفٍ آخر لم يكن أفضل مصيراً من أخيه الذي ثوى في بطن الذئب، حيث سمع هذا الخروف مالِكَه يوصي أحد عماله بأن يأخذه للجزار ويستفيد منه بالكامل ولا يُبقي منه شيئاً بحيث يكون اللحم للشواء والعظام للحساء والجلد لصناعة حذاء والقرنان للزينة، عندئذٍ نطق الخروف وقال مستسلماً وساخراً: لقد نسيتَ الثُغاءَ يا سيدي، أرجو أن تأخذه من حنجرتي ليكون رَنَّةً في هاتفك.
لقد عُرِف عن السودانيين منذ القدم أنهم يستغفرون الله ويستعيذون به من الشيطان الرجيم عند الإفراط في الضحك، وليست هذه الظاهرة حكراً عليهم، فثمة موروثات شعبية في مختلف الثقافات تتماهى مع الاعتقاد السائد بأن الفرح في هذه الدنيا عابر بينما الحزن ضيفٌ ثقيلٌ ومقيم.
وإذ يلوذ السودانيون بالسخرية في مواجهة راهِنِهم الزاخر بشرور البلايا والمحتشد بمثاقيل الشقاء والعناء التي تنوء بهم، فإنها سخرية تلامس أقاصي التراجيديا .. وهذه حالة تزدهر في ظلِّ النظم التي تُصادر من شعبها حرية التعبير وتمنعه تسمية الأشياء بمسمياتها وتسعى لتحويله إلى ضحيةٍ خرساء، محرومة حتى من حقها في الأنين، ليبقى الحزن مكظوماً في صدور المظلومين والمحرومين من حقوقهم .. لكنه يظلُّ حزناً سلبياً لا معنى له إذا لم يصاحبه شعورٌ واعٍ بالظلم والحرمان يُحوِّله إلى غضبٍ وثورةٍ على الواقع الذي أنتجهما. ولهذا بقيت مقولة جان جاك روسو تتردد بعد أكثر من قرنين من رحيله، وهي أنَّ الظلم والحرمان لا يخلقان لدى المُصاب بهما أي حافزٍ للتغيير، بل الوعي بهما وإدراك أسبابهما هو الشرط اللازم لاستنهاض الهمم والزحف نحو التغيير.
عمر الدقير
[email][email protected][/email]
يا استاذنا جلدنا اندبغ من الظلم لكن ما باليد حيله
لعنة الله على الظالمين
كتابة طاعنة .. يسلم يراعك الأنيق يا باشمهندس الدقير
يا استاذنا جلدنا اندبغ من الظلم لكن ما باليد حيله
لعنة الله على الظالمين
كتابة طاعنة .. يسلم يراعك الأنيق يا باشمهندس الدقير