أخبار السودان

جدل في برامج الإسلاميين

خليل علي حيدر

بدأ د. عبداللطيف عربيات، أحد الإسلاميين الأردنيين ، بعيداً عن التركيز، في مداخلته على محاضرة د. محمد سليم العوا "الإسلام والديمقراطية"، الأردن عام 1998، والتي تناولنا ما جاء فيها في مقال سابق. عربيات كان من ذوي الصولات والجولات في البرلمان الأردني من خلال أزمة احتلال الكويت عام 1990، وموقف الإسلاميين الأردنيين المؤيد بحماس شديد للرئيس العراقي وسياسة نظامه المعروفة.

غير أن د. عربيات في مداخلته هذه كان متقبلاً للديمقراطية بعض الشيء، بشرط أن تكون "إسلامية"، وبخاصة وأن أحد الصحافيين العالميين، يقول، "فاجأني حين قال لي: لماذا نرى العرب يعرضون عن الديمقراطية بكل أشكالها، فيما أفريقيا السوداء تلتهمها التهاماً"؟

وتساءل عربيات في مداخلته: "لماذا لا يشعر المسلمون بغياب فريضة شرعية هي الشورى، ويهتمون بالسنن المستحبة وغير المستحبة، ويحافظون على هذه السنن، أكثر مما يحافظون على الفريضة الشرعية؟ لماذا أبعدوا أنفسهم عن هذه الفريضة؟ وهل الواقع العربي المعاصر، بما يتصف به من فردية مقابل المؤسسية، ومن قبيلة عشائرية مقابل الديمقراطية، سبب في غياب نظام الشورى.. مبادئ ووسائل؟ لماذا تتم محاربة الديمقراطية باسم الحفاظ على مبادئ الإسلام"؟

وأشاد د. عربيات بـ"وثيقة المدنية"، باعتبارها "أول دستور إسلامي"، ولكنه تساءل: "لماذا نلحظ تجاهلاً كبيراً لهذه الوثيقة وهذا الدستور في حياة المسلمين المعاصرة؟ ونجد فقهاً سياسياً إسلامياً مخالفاً للمبادئ التي جاءت بها هذه الوثيقة حتى من قِبَل بعض دعاة الإسلام"؟ ودعا إلى الإفادة من التجربة الإنسانية العالمية وتراكم الخبرات، وأضاف أن "الديمقراطية من وجهة نظر موضوعية، هي أفضل وسيلة لتحقيق مبادئ الإسلام السياسية، فهو أبرز معنى الديمقراطية الحقيقي من حيث أنها أحدث ما توصلت إليها التجربة البشرية من وسائل لتحقيق سياسات ومقاصد الشريعة الإسلامية".

وربط د. عربيات إهمال العرب والإسلاميين لكل هذا التراث بحديث نبوي، حيث "تنبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن عُرى النظام الإسلامي ستنقض عروة عروة: أولها نقضاً الحكم وآخرها نقضاً الصلاة.. وما العرى الأخرى التي تلت الحكم حتى وصلنا للعروة الأخيرة وهي الصلاة"؟. وقال ربما هي الفنون، "فالفنون الآن شبه محرمة عند بعض المسلمين! أهي من العرى التي نقضت وهي بحاجة إلى تجديد"؟

أما المداخلة الثانية، فكانت للـ د. علي محافظة، الدبلوماسي وأستاذ الجامعة وصاحب المؤلفات القيمة، وقد انتقل "محافظة" في مداخلته، إلى انتقاد المشروع الأساسي للإسلام السياسي معتبراً العودة إلى السلفية المتمثلة في ظهور جماعاته ردة فعل للتوجه الديمقراطي الذي تقدم به الأفغاني وعبده والكواكبي وآخرون قبل قرن من الزمان. وتساءل عن جدية هذا المشروع وقدرته على انتشال العالم العربي من واقعه.. "أين البرامج السياسية؟ أين هي البرامج السياسية لدى الأخوان المسلمين في مصر، ولدى الأخوان المسلمين في الأردن، ولدى الأخوان المسلمين في السودان حيث يحكمون الآن؟ وأين هي التعددية في السودان؟ هناك أناس يدعون إلى التعددية في فترة الدعوة حتى إذا استلموا الحكم انقلبوا عليها".

وانتقد "محافظة" هذه العودة إلى التراث الديني دون رؤية قادرة على استخلاص ماضيه من عناصر مفيدة، وبخاصة ضمن خطوات عملية معاصرة. إذ "لا يكفي أن نعرض أفكارنا بصورة نظرية بحتة عندما نعالج القضايا الإسلامية، بالاعتماد على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.. أين التطبيق العملي؟ أين البرامج العملية في القضايا السياسية وفي القضايا الاقتصادية وفي القضايا الاجتماعية وفي القضايا الثقافية وفي القضايا العلمية؟ ما البرامج التي نقدمها لهذه الأمة؟ حتى الآن لم نر شيئاً"!

وانتقادات "محافظة" والمآخذ التي يثيرها على مسار الإسلام السياسي في غاية الأهمية كما نشير مراراً. ويكفي مثلاً أن ننظر في تجربة الأخوان المسلمين السودانيين، والإسلاميين عموماً هناك في زمن النميري، حيث تعاونوا مع نظام انقلابي، ثم قفزوا خارج مركبه قبل غرقه ليركبوا سفينة انقلابية أخرى عن سبق إصرار وترصد، بقيادة البشير، لتفشل خططهم مرة أخرى!

هل كان هذا هو مصير تجارب السودان الإسلامية لو بنيت على الديمقراطية وفصل السلطات والشفافية، وابتعدت عن مغامرات د. الترابي وإيواء الإرهابيين وغير ذلك؟

في 27 أبريل 1984، صرح مرشد الأخوان المسلمين في مصر لمجلة "الأسبوع العربي" بحديث عن السودان قال فيه: "أسعدنا أن تطبق حكومة السودان شرع الله في عباداتها ومعاملاتها ونحن لا نجري وراء الشائعات التي تريد أن تشوه جمال هذا الاتجاه.. سمعنا عن أحد الصادقين في السودان أنه بعد تطبيق الشريعة الإسلامية، انخفضت نسبة الجريمة في السودان من 87 في المئة إلى 40 في المئة وحسبك هذا تقدماً في الخير".

وكان هذا بالطبع تقييم حركة الأخوان لمنجزات النميري الذي كان قد وصل إلى السلطة إثر انقلاب عسكري في مايو 1969، فحل البرلمان ومنع الأحزاب وأنشأ مجلس قيادة الثورة وعين نفسه قائداً أعلى ووزيراً للدفاع، ثم رئيساً للوزراء، بعد أشهر قليلة من الانقلاب.

وبعد قصص سياسية ومغامرات معروفة تحالف مع الأخوان المسلمين، وأعلن في سبتمبر 1983 قراره "بتطبيق الشريعة الإسلامية"، مثيراً بذلك مشاكل كبرى في السودان. ولم يطل به الأمر، حيث أطاح به انقلاب آخر في أبريل 1985.

البشير نال دعم الترابي وجبهته القومية الإسلامية، فقفز إلى السلطة، والأخوان، من خلفه، وذلك في انقلاب 30 يونيو 1989. وما أن أمسك بزمام السلطة حتى حل الحكومة والبرلمان وعلق الدستور ومنع نشاط الأحزاب السياسية. وما هي إلا سنوات، حتى دب الخلاف بينه وبين الترابي. وهكذا أعلن البشير حالة الطوارئ عام 1999 وانقض على مؤيدي الترابي، الذي تم اعتقاله في فبراير 2001. وبالطبع، لا تزال فصول حكم البشير تتوالى إلى اليوم.

واصل د. محافظة مداخلته فقال: "اسمحوا لي أن أقول: الإسلام مرجعية هذه الأمة. هذا شيء جميل.. ولكن أي إسلام؟ هل المقصود بذلك مصادر الشريعة الإسلامية أي القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس؟ أم التجربة الإسلامية التي فيها خلاف، بدءاً من نهاية الحكم الراشدي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؟ الشعار البسيط المطروح الآن "الإسلام هو الحل"، فأي إسلام نقصد؟ أهو إسلام الفئات والأحزاب والجماعات الإسلامية المتناقضة؟ فكل فئة تدعي أنها تمثل الإسلام الحقيقي، وأن الآخرين لا يمثلونه. هنا "مربط الفَرَس" وهنا مصدر الخطورة! كل فريق يدعي العصمة، أي بعبارة أخرى، أن رأيه هو الرأي السليم والآراء الأخرى لا علاقة لها بالإسلام".

وتوقف د. محافظة في مداخلته عند علاقة الإسلاميين والدعوة إلى الديمقراطية، فقال: "فيما يتعلق بهذا التحول عند الإسلاميين في التوجه نحو الديمقراطية، لماذا بدأ منذ فترة وجيزة؟ هل بدأ نتيجة لتطور فكري؟ ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الإسلاميين إلى قبول مبدأ التعددية؟ لقد أحسست أن البحث في الديمقراطية ما زال بحثاً لتبريرها ولتسويغها للناس، مع أن الأمم والشعوب فرغت منها منذ قرون من الزمن، وأصبحت بديهية".

دافع د. العوا في رده على المداخلتين، فقال إن التناقض بين النظرية والتطبيق، والوعود والتحقيق مشاهد لدى الساسة والثوار. فالذين قادوا ثورات وحكموا شعوباً بموجب ما قدموه من أفكار، ما أن حكموا حتى اختلف التطبيق بنسبة تتراوح ما بين 100 و1000في المئة! لم يختلف بنسبة 90 في المئة أو 80 في المئة. ومن الرئاسات الماركسية إلى الرئاسات القومية.. الكل قالوا كلاماً في مرحلة الدعوة للثورة والتغيير، ولكنهم عملوا بخلاف هذا القول، لأن الواقع يفرض نفسه، ولا يعقل أن يطلب من الإسلاميين وحدهم -دون خلق الله أجمعين- أن تكون لهم برامج تفصيلية لكل شيء".

جريدة الاتحاد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..