مقالات وآراء

زيارة الكابلي قبل عودته إلى أرض الوطن

كنا على موعد يوم الأحد الماضي لزيارة القامة الفنية سفير السودان أينما حل الاستاذ عبد الكريم الكابلي .. توجهنا ثلاثتنا دكتور صلاح عمر كبير أخصائي الأعصاب في لندن والأستاذ هاشم الفكي الذي رتب الزيارة وشخصي الضعيف .. كانت أمسية ولا كالأمسيات بضاحية واشنطن في فرجينيا .. هاشم يسكن غير بعيد من الكابلي ”سابع جار“ !! دلفناإلى داخل الدار حيث استقبلنا الكابلي وابنه عبد العزيز والسيدة الفضلى عوضية زوجة الكابلي .. ولما كان من أولويات الزيارة الاطمئنان على صحته بدأ دكتور صلاح إجراءات الكشف الدقيق والتأكد من نوع العلاجات التي يتناولها .. وبعد الاطمئنان على الصحة فإن مثل هذه الزيارة لمثل هذه الشخصية لا تكتمل من دون التمتع بذكريات الكابلي وتداعياتها .. بدأ كابلي الحديث يسعفه ذلك المخزون الثر من التجارب التي انتظمت مختلف بلدان العالم .. وهكذا كان كابلي في أسفاره وجها مشرقا لبلاده .. وكما هو معروف أن كابلي ليس فنانا عاديا وإنما مثقف متمكن من أدواته يلفت الأنظار مغنيا أو متحدثا .. ولن أنسى موقفا من أحد الدبلوماسيين السعوديين في واشنطن وهو أديب محب للغة العربية مطلع على آدابها بادرني يومها بالسؤال: هل تعرف عبد الكريم الكابلي؟ قلت نعم ومن منا لا يعرفه ! واصل حديثه هذا فنان غير عادي وواصل الأديب الدبلوماسي السعودي يقول : بالأمس كنت عائدا من المكتب وكان هناك لقاء معه في إذاعة لندن في البرنامج الشهير حيث يسأل المذيع الضيف عن ماذا يحمل معه من الكتب إلى جانب القرآن متوجها إلى جزيرة منعزلة ؟ ولم أتوقع إجابة مغن فنان مثل إجابة الكابلي حين قال: أحمل لسان العرب وعندما استرسل في تبيان أسباب إختيار هذا الكتاب بالذات بما يحويه من مواد لغوية تيقنت أني لا استمع إلى فنان فقط وإنما مثقف عالي الثقافة مجود لأدواتها .. وبالطبع لم اتعجب من الموقف فأنا أعرف أن هذا من شان الكابلي كثير أينما ذهب ..
حمدنا الله تعالى على صحته وأكد دكتور صلاح أن عودة الكابلي – وهو المحب المشاق – إلى البلاد ستساهم بقدر كبير في تحسن صحته وضرب مثلا بدكتور منصور خالد الذي باشر صلاح علاجه في لندن وكيف أن عودته للسودان كانت سببا رئيسا في تحسن صحته .. هذا ما عناه أديبنا الكبير المرحوم الطيب صالح في درة الأدب العربي ”موسم الهجرة إلى الشمال“ حين قال على لسان الراوي : (ذاك دفء الحياة في العشيرة, فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانها) ..

على أي حال بعد أن طمأننا دكتور صلاح على الصحة تشجعنا على اغتنام الفرصة والتمتع بالصحبة .. لقد كانت سياحة فكرية مع كابلي حول أحداث ومواقف لا يتسع لها المجال هنا وربما أعود لتفاصيلها في مقال آخر .. لقد طرح الأخ هاشم سؤالا حول أغنية المراية والتي أشار كابلي أن موحيتها إحدى حسناوات الأمهرة في العاصمة الأثيوبية أما دكتور صلاح فقد كان متشوقا لسماع قصة تلحين ”ضنين الوعد“ التي بدأت في داخل سيار عند عودتهم من مينة سنار .. هكذا تشعبت بنا دروب الذكريات وتفرعت المواضيع مما أكد لنا صفاء ذهن مبدعنا وسلامة ذاكرته .. وعلى أي حال فإن العلم يؤكد أن العقل المفكر لا يصيبه الوهن .. والكابلي لا يتوقف عن التفكير والقراءة وقول الشعر مما يعتبر تمرينا مفيدا للعقل كما التمارين الرياضية مفيدة للجسم ..
أما أنا فقد ذكرت في هذا السياق أبيات شاعره الأثير المتنبي القائل:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه حراب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
وهنا تفتحت شهية الأستاذ للكلام – ولعلي قصدت ذلك – فبدأ ينثر الدرر عن المتنبي الذي تغنى بشعره ما لم يجرؤ فنان آخر أن يقترب من من قال عن نفسه:
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي .. كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مَرَامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ .. شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ
لا شك أن المتنبي ”صعب المرام“ ولكنه الكابلي يروض الكلام الصعب .. ومن منا من لم يطرب له يؤدي إحدى إعتذارياته: مالنا كلنا جوٍ يا رسول“ ؟!
ومن منا من لم تشنف آذانه الحروف المنغمة تخرج مموسقة منه يردد درة المتنبي:
كم قتيلِ كما قتلتُ شهيدِ … ببياض الطلا ووردِ الخدودِ
وعيون المها ولا كعيونٍ … فتكت بالمتيم المعمودِ
دَرَّ دَرُّ الصبى أَيامَ تجري … رِ ذُيول بِدارِ اثلة عودي
حسنا فعلت مؤسسة ”دال“ أن تقوم بتكريم الكابلي نهاية هذا الشهر .. وليست مصادفة أن
يُكرم كابلي في عهد الثورة التي ربما لا يعرف الكثيرون أنه تنبأ بها وتغنى بها في منتصف القرن الماضي وإلا ما معنى ودلالات أنشودة – فتاة اليوم والغد – ذلك الحوار الذكي بين فتاة ”النصف الذي حوى كل المعاني“ وشباب الغد الذي طلبت منه جوابا على سؤال:

يا شبـاب الغـد اسمعنـي جوابـا
يقتنيه الجيـل فـي الدنيـا كتابـا
وكان الجواب:
إن عـزمـي مـــن فـتـاتـي
مسـتـمـد فـهــي ذاتـــي
ومرآة لصفاتـي كل خير في حياتي

وتنتهي القصيدة الملحمة الملهمة باستشراف المستقبل:
سوف نرقـي سلـم المجـد رقيـا
ونفيـض العلـم ينبوعـا رويــا
ونـنـادي بتلاقيـنـا سـويــا
ونشيـد العلم صـرحـا أبـديـا
نـحـو ســـودان جـديــد
وإذا لم تكن هذه القصيدة أجندة لثورة الشباب في ديسمبر فماذا تكون؟
هذا غيض من فيض ..
وتركنا مضيفنا وهو يستعد للسفر بعد أيام نحو –
.. ”دفء الحياة في العشيرة“ مغادرا البلاد التي ”تموت من البرد حيتانها“ ..

د. الفاتح إبراهيم
واشنطن
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..