أستاذ نُقُد.. حضرنا ولم نجدكم!!

لكن المفروض

أستاذ نُقُد.. حضرنا ولم نجدكم!!

محجوب فضل بدري

٭ أكثر ما كان يشدّني إلى الراحل الكبير الأستاذ محمَّد ابراهيم نقد هو التشابه الكبير بينه وبين خالي الرجل العصامي المثقف المناضل الجسور التقي النقي حسن عثمان محمد فضل النقابي بالسكة الحديد والشيوعي الملتزم.. والسوداني المسلم.. والوطني الغيور.. فمن حيث الشكل والقامة القصيرة نسبياً واللحم الخفيف والعمر والزهد في المتاع الزائل.. وعفة اليد وطهارة اللسان.. والفصل الواضح ما بين نظام الحكم القائم «أياً كان» وبين سلامة الدولة أرضاً وإنساناً.. ولفة العمة وغزو الشيب وبساطة المفردة.. والصلابة في النضال والثبات على المبادئ وتنزيه الخالق العظيم عن الشريك واجتناب الكبائر.. ومخالطة البسطاء.. وتقدير المشاعر.. وحب فن الغناء.. غناءً واستماعاً.. و»نقد» يحب ترديد أغاني الأستاذ حسن عطية.. والأستاذ محمد وردي.. لتطريب نفسه وهو «تحت الدُّش».
٭ قبل ما ينيف على العشر سنوات كتبت مقالاً بعنوان «شرَّك مَقسَّم فوق الدَّقشم» ناشدت فيها الدولة تبنِّي علاج الأستاذ محمد ابراهيم نقد مما أثار عليَّ حفيظة بعض المتشددين.. وكنت موقناً بأن الأستاذ نقد في إختفائه الطوعي يمارس حياة طبيعية ويقوم بواجباته التنظيمية كأحسن ما يكون ويعارض النظام ولا يساوم على سلامة الوطن.. وكنت أفهم «على طريقتي الخاصة» ان اتقانه للاختفاء إنما مردَّه إلى كراهيته للمعتقلات وقناعته بأنها ليست نضالاً ولا كفاحاً.. إنما النضال والكفاح في ممارسة الحياة السياسية بالمبادئ التي يؤمن بها ولا يتأتى ذلك وهو قابع بين أربعة جدران يحرسها رجال غلاظ شداد يقترون عليه في الاطلاع والاستماع والكتابة والتواصل وإن حافظوا على حياته فلا تعذيب ولا تجويع ولا حرمان من الدواء ولكن هل هذه هي الحياة؟؟ من قال إن «السجن حق الرجال؟» متى كان تقييد الحرية «رجالة؟».. وعندما عرفت سلطات الأمن تحت قيادة مديرها السابق صلاح قوش مخبأ نقد لم تفعل سوى إبلاغه عملياً بأننا نعرف مكانك كان ذلك بعد أكثر من عقد من الزمان واكتفى مدير جهاز الأمن بزيارة ودية لنقد في منزله والتقاط الصور التذكارية معه وكان بإمكان جهاز الأمن بسلطاته القانونية اعتقال الأستاذ نقد واصدار بيان «مكرَّب» يقول «تمكنت سلطات الأمن من إلقاء القبض على «الهارب»…» وتوجيه عدة اتهامات ليس أقلها العمل على تقويض النظام والدستور وإثارة الكراهية والحرب ضد الدولة …الخ. ولكن الأمر ليس انتصارات وهمية ضد عدو متوهم.. الأستاذ نقد معارض صعب المراس.. صلب المواقف.. عالم بدهاليز السياسة والقوانين لم يكن ليسجل في دفتر وطنيته الصادقة نكتة سوداء بالتآمر على أمن الوطن وسلامة أبنائه.. ولم يكن قائد في حنكة صلاح قوش وقدراته الأمنية الفذة وإيمانه وصدقه أن «يفبرك» الاتهامات لقائد سياسي متفرد مثل الأستاذ محمد ابراهيم نقد.. ولو أراد لما أعيته الحيلة.. في ليلة الثلاثين من يونيو 1989م قال الأستاذ نقد للضابط المكلف باعتقاله «دقيقة بس ألبس جلابيتي».. وكان يرتدي عراقي وسروال وطاقية.. فقال له الضابط وهو يبتسم في وجهه «يا أستاذ بيوتكم دي ما مضمونة هسع تدخل بي هنا وتمرق من تحت الأرض بي غادي.. أمشي معانا كده.. بعدين الدايرو كلو بنجيبو ليك» وضحك نقد وامتثل للأمر والفجر يوشك على البزوغ وكان واثقاً وهادئاً وترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة تقول ما معناه «حتعملوا شنو يعني؟» فقد كانت قناعته التي لم تتبدل «مافي عسكري بيحكم البلد دي براهو» فالعساكر يتميزون بالصدق والانضباط.. ولا يعرفون المكر والمؤامرات.. ومصيبة العساكر.. دائماً هم الملكية.. من السياسيين الذين يستسهلون الوصول إلى كراسي الحكم على ظهر دبابة وعسكري حتى إذا قضوا وطرهم لفظوهم لفظ النواة.. وقد تكرر ذات السيناريو الراسخ في عقل الأستاذ الراحل.. في الانقلابات الثلاثة الناجحة.. الفريق ابراهيم عبود في 1958/11/17 بتآمر حزب الأمة.. والعقيد جعفر محمد نميري بتآمر الحزب الشيوعي.. والعميد عمر حسن أحمد البشير بتآمر الجبهة الإسلامية.. ومهما كانت المبررات أو التنصل من التبعات فإن نسبة الانقلابات الثلاثة للأحزاب الثلاثة عالية جداً وتكاد تكون ثابتة بالدليل القاطع.
٭ لم يكن الأستاذ نقد يرى خيراً في تجربة الأحزاب في الحكم وهي ملتصقة كالتوأم السيامي بالطائفة.. وحتى تجربة التنظيم الإسلامي تحولت بمرور الوقت ومع تجربة الحكم إلى «طائفة» لا تعصى لشيخها أمراً وتلتزم بالاشارة.. ويسعى مثقفوها إلى تفسير وتبرير مقولات «الشيخ» الذي تنازلوا له عن وظيفة «التفكير» فأصبح لا يريهم إلا مايرى!! وكان الأستاذ نقد ينافح عن مبادئه حتى إذا ما تكاثر عليه نواب البرلمان خَلَد إلى النوم العميق أثناء الجلسات الصاخبة.. ولعل صورته في الجمعية التأسيسية وهو نائم تماثل في دلالتها الخطبة العصماء التي ارتجت لها منابر الجمعية عندما قال المرحوم زين العابدين الهندي «والله ديمقراطيتكم دي لو شالها كلب مافي زول يقول ليهو جَرْ».
٭ توالت الأحزان على الحزب الشيوعي السوداني ففقد «محمد ومحمد ومحمد».. وردي.. وحميّد.. ونقد.. على التوالي وثلاثتهم كان خسارة على الوطن لا الحزب.. ولعل في انتقال الأستاذ محمد ابراهيم نقد عبرة «لأترابه وأنداده» في الأحزاب الأخرى بأن ساعة الرحيل آتية لا ريب فيها.. والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.. والجاهل من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.. اللهم أرحم محمداً فقد كان انساناً يملك قلباً ينبض بحب الناس وعمل الخير.. وكان يشهد بأنك أنت الله لا إله إلا أنت.. ونحن على ذلك من الشاهدين.
وهذا هو المفروض

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..