سمية بنت الخياط .. حكاية مدرسة ايلة للسقوط

تحقيق: ثويبة الأمين المهدي
(نحن لا نحلم ببيئة جاذبة، ولا أن تكون مدرستنا هي الأفضل والأجمل في الولاية.. فقط نريد ألا تصاب تلميذاتنا بأذى.. لا نريد أن تسقط سقوف الفصول فوق رؤوسهن.. يا إلهي.. ماذا لو سقط الحمام بواحدة من التلميذات)، بوجع شديد صدمتني إحدى معلمات المدرسة بهذه الكلمات.. والمدرسة المعنية ليست في ولاية طرفية تبعد عن (مركز البلد) آلاف الكيلومترات.. مدرسة على بعد مترات من قلب العاصمة الخرطوم.. هي مدرسة سمية بنت الخياط الأساسية للبنات بمنطقة الصحافة غرب.. مثلها مثل العديد من المدارس القديمة في ولاية الخرطوم.. تنتظر أن يُقرأ خبرها في الصحف.. بأن فصولاً في مدرسة (بضاحية الصحافة غرب) سقطت على رؤوس تلميذاتها أو أن الحمامات المتشققة طمرت تلميذة تحت أنقاضها. قصة مدرسةنهاية عقد الستينيات كانت (الصحافة) ضاحية متناثرة المباني، ويجتهد سكانها الأوائل في تعميرها.. فقد خرجت المنطقة كلها إلى العلن منتصف الستينيات بفضل جريدة الصحافة التي خاضت حرباً ضروساً حتى تم توزيعها للأهالي فاستحقت اسمها.. وفي العام 1971 لم يصدق الأهالي أن حلمهم بتأسيس مدرسة ابتدائية قد تحقق.. وبدأت رحلة العطاء عاماً بعد عام.. وجيلاً بعد جيل حتى غشيها الزمن. لم تتوقف الإدارات المتعاقبة للمدرسة من مخاطبة مسؤولي التعليم بأن (مدرسة سمية بنت الخياط) غشيها الزمن وظهرت التجاعيد على وجهها، وعرفت حيطانها التشققات، وتهرقلت سقوفها، وأعلنت الحمامات عن أنينها، حتى بات الأمر يشكل خطراً على المدرسة بأسرتها.. إدارة ومعلمات وتلميذات.. وحتى الجيران.في العام 2005 اعتبرت السلطات التعليمية في الولاية وبالخط الأحمر، أن المدرسة (آيلة للسقوط).. ولا بد من التداخل الفوري والعاجل.. صدرت الاوامر … أرسلوا فرق الصيانة على جناح السرعة.. تقول إدارة المدرسة لقد جعلنا الخبر ندخل الهواء البارد إلى رئتنا.. أخيراً ستُصان مدرستنا.. أخير تلميذاتنا في أمان.. لكن الفرحة (ما تمت).. مرت حتى الآن (22) سنة دون أن تتدخل فرق الصيانة (الفورية) وحصيلة الرحلة المضنية من العذاب ستة فصول من بين ثمانية انهارت.. بل (خرجت من الخدمة) بشكل نهائي.وعوضاً عن ذلك ابتدعت إدارة المدرسة أفكاراً مدهشة حتى لا تتوقف الدراسة.. من بينها إقامة فصول تحت ظلال الأشجار وتحريك الطالبات مع تحرك الظل شرقا وغربا.. إخلاء مكتب المديرة للتلميذات وتحويلها إلى مكتب (مريح) تحت ظل شجرة، نصب خيام تحت الشجر لكن من دون سقف حتى تحمي التلميذات من عيون المارة.. لأن سور المدرسة هو الآخر (دق الدلجة)، وأخيراً (استلاف) فصول من مدرسة مجاورة لتدريس تلميذات الصف الثامن شريطة أن يأتين من منتصف النهار حتى آخره.فصول منهارةقبل أعوام انهارت عدد من الفصول، وهدمت الأمطار السور، وتشققت الحوائط، وطال انتظار (فرق الصيانة الفورية)، قررت إدارة المدرسة (تحريك) التلميذات من الفصول الأكثر خطورة إلى الأقل خطورة.. وعندما أحست إدارة المدرسة بأن الخطر صار شاملاً، قررت (رص) المقاعد و(التربيزات) على الهواء الطلق تحت ظلال الشجر، وعندما اشتدت حر (الرقراق) نصبت خياماً أعانوها بها آباء التلميذات، وهي تمني النفس بأن (فرق الصيانة الفورية) ستأتي … حتماً ستاتي … إذ لا يمكن ان تترك إدارة التعليم التلميذات هـــــكذا تحت الخطر … لا .. لا.. سياتون وستكون التلميذات في امان…. (عندما رأيت التلميذات وهن منكبات على دروسهن وأصوت المعلمات تختلط بصوت الرياح وجميعهن يتصببن عرقاً، شعرت بالحزن والأسى في آن واحد.. لقد تخيلت التلميذات في المناطق الطرفية، وقلت في نفسي إذا كانت مدارس الخرطوم هكذا فما بال مدارس الأقاليم البعيدة.. لقد تجولت في أنحاء المدرسة، وبوجل دخلت الفصول المتهالكة والمنهارة، الجدران المتهالكة والمتصدعة، ورأيت التلميذات ومعلماتهن تحت ظلال الأشجار غير الظليلة، وتحت المظلات الزنكية المرتفعة الحرارة، وشممت رائحة الشقوق المحفورة في الحوائط والسقوف بفعل المطر.. وأكبرت في إدارة المدرسة عندما استبدلت مكتبها بـ(ضل الشجرة) ليتحول إلى فصل يأوي التلميذات (المشردات).. يا إلهي ما الذي يحدث.. تلميذات يجبرن أنفسهن على الجوع ويتركن الأكل والشرب حتى لا يجبرن على دخول الحمامات، خوفاً على أنفسهن ولتجنب الروائح النتنة المخلوطة مع (موية المطر). قلق أسروعندما هطلت الأمطار هذا العام كشفت سوءات (22) عاماً من الإهمال المتواصل، حيث قررت إدارة المدرسة ترحيل تلميذات الفصول التي تشكل خطراً علىهن ، إلى مدرسة مجاورة ليبدأ يومهن الدراسي من منتصف النهار وحتى آخره.تقول سمية فضل المولى وهي والدة لتلميذتين يدرسن بالمدرسة (مزن وملاذ) لـ(آخر لحظة): حالة المدرسة (ما عاجباني)، لأن بناتي يدرسن في العراء، الشيء الذي دفعني لتكرار الزيارة للمدرسة حتى أطمئن عليهن (لخوفي من انهيار الفصول فوق رؤوسهن فى أي وقت)، أما فاطمة إبراهيم حمدان وهي أم لثلاث طالبات بالمدرسة، تعبر عن إجلالها للدور الذي تقوم به المعلمات وإدارة المدرسة اتجاه الطالبات، وهن يجتهدن لحماية التلميذات وإصرارهن على تعليمهن مهما كانت الظروف، لكنها في المقابل عابت على وزارة التربية والتعليم وإدارة تعليم مرحلة الأساس عدم قيامها بدورها في تأهيل المدرس خاصة أن طالباتها يدرسن تحت الخيام وفي العراء. وقالت فاطمة لـ(آخر لحظة) إن انعدام السور بالمدرسة يعرض الطالبات لكثير من المشاكل الاجتماعية التي تخالف الشرع والقانون، معربة عن قلقها من طالبات الصف الثامن والسابع اللائي أصبحن عرضة (للماشي والغاشي) بالشارع العام. مدرسة بلا سوروتروي الطالبة رانيا معاناتها وزميلاتها لـ(آخر لحظة) بقولها: بعد كل حصة نحمل مقاعدنا ونذهب لنواصل يومنا الدراسي في المكان الذي يخلو من أشعة الشمس، لأننا ندرس داخل صيوان من غير سقف أو في مظلات من الزنك المعروف بامتصاص الحرارة التي تؤثر على التركيز والاستيعاب، ونحن مجبورون أن نقترب من بعض لعدم توفر الكتاب المدرسي، حيث يتم إشراك خمس طالبات في كتاب واحد.زميلتها سماح عطا تقول للصحيفة وعلامات البؤس تبين على وجهها، تم نقلنا لمدرسة الفاروق بنين المجاورة حتى لا يفوتنا العام الدراسي، لكن مشكلتنا أن اليوم الدراسي يبدأ بعد الثانية عشرة ونصف ظهراً، ويستمر حتى الخامسة مساءً، وقبل أن نستقر أرجعونا إلى مدرستنا مرة أخرى، مع العلم أن وجودنا في فصولها وبنيتها يشكل خطراً علينا.ومن داخل الصف الثامن أشارت الطالبة آية عوض إلى عدم توفر الوقت الكافي للمراجعة والمذاكرة بسبب التشتت الذهني وعدم الاستقرار النفسي والمكاني، وأضافت: من أكبر المشاكل التي تواجهنا انعدام دورات المياه، الشيء الذي دفعنا لترك الأكل والشرب حتى نعود لمنازلنا فى نهاية اليوم الدراسي، وشكت آية من تقليل وقت وزمن الحصص، وهذا الأمر يضيع من حظنا في التحصيل الأكاديمي. واتفقت الطالبة فاطمة مع زميلتها آية فيما ذهبت إليه وقالت: نحن غير مستعدين لامتحان شهادة الأساس والفصل ضيق والسبورة غير واضحة (مشققة)، تقول والحسرة ترتسم على وجهها: ما في موجهين ولا جهة مسؤولة تدعمنا معنوياً على الأقل.الطالبة رحيل عبد الحميد تقول: تركيزنا مع المعلمة أصبح ضعيفاً ونتخوف من انهيار الفصل فوق رؤوسنا في أي لحظة، وهاجس الخوف أصبح يسيطر علينا أكثر من النجاح.معلمات في العراءتقول إحدى المعلمات: مكاتبنا تحولت لفصول وأصبحنا نخشى على المدرسة من السرقات الليلية مما يجعلنا نضطر لحمل كراسات التحضير والمراجعة في أكياس لمنازلنا، وقالت بعد أن فضلت عدم الإشارة إلى اسمها: صبرنا على هذا الوضع سنين لكن قلق أمهات الطالبات أصبح متزايداً يوماً بعد يوم. أما فائزة احمد الحسن وكيلة المدرسة فتقول: هذا الوضع يقلل من التحصيل الأكاديمي للطالبات بالرغم من وجود طالبات على مستوى ممتاز، ولكي نحافظ على هؤلاء الطالبات أخلينا مكاتبنا للصف الثامن، وأصبحت مكاتبنا تحت الأشجار، وتضيف لـ(آخر لحظة).. سبق وأن سجلت لنا مديرة التعليم بالمحلية زيارة وتم استقبالها تحت الأشجار ولكن للأسف لم تعكس الصورة التي وجدتها لإدارة التعليم بالمحلية. وقالت تهاني سعيد صالح رئيسة أصدقاء المدرسة: بيئة المدرسة غير صالحة للدراسة وتنعدم فيها أبسط مقومات التعليم، لا حمامات، لا عاملات نظافة ولا حتى أكياس نفايات، وتشققت الجدران من الداخل ومن الخارج، والفصول بعضها انهار والطالبات يدرسن تحت الأشجار وفي الخيام ويتم تحويل الطالبات من ركن لآخر داخل المدرسة، مشيرة لتقدمها بخطاب للمحلية، ولكن قوبل الخطاب بالرفض وطالبوني بخطاب من وزارة التربية والتعليم.إدارة المدرسةتقول الأستاذة إخلاص صديق مصطفى مدير المدرسة: الأمطار الأخيرة تسببت في أضرار جسيمة بسبب قفل المجرى الرئيسي الذي يصرِّف المياه، حاولنا كسر المجرى لكن تخوفنا من إدارة المحلية، ونحن كإدارة مدرسة عملنا كل ما بوسعنا لإنقاذ هذه المدرسة وطالباتها، وناشدنا الجهات المعنية بأمر هذه المدرسة ولكن للأسف (لا تسمع الصم الدعاء)، والآن الطالبات يدرسن في العراء دون تركيز وخوفي على طالبات الصف الثامن من تدهور المستوى الأكاديمي على الرغم من أننا أخلينا مكاتبنا لتلميذات الصف الأول، ومكتبي تحول لعريشة، وعن المدرسة تقول إنها تضم (220) تلميذة، وبها ثمانية فصول، ستة منها آيلة للسقوط. وتختتم حديثها لآخر لحظة بالقول.. الآن لدينا فصلان يدرسان تحت الأشجار، وفصلان آخران داخل مكاتب المعلمات، وهذا الوضع بدون سور خارجي يحمي هؤلاء الطالبات من المارة وحتى سكان الحي لم يحركوا ساكناً بالرغم من وجود (50) تلميذى من الحي يدرسن بهذه المدرسة. اللجنة الشعبية فيصل عبدالعزيز علي خليفة معلم بالمعاش ورئيس اللجنة الشعبية بمربع 18 قال في حديثه لـ(آخر لحظة) نحن كلجان خاطبنا كل الجهات المسؤولة، لأن المدرسة موضوعة ضمن قائمة ميزانية التنمية ولكن لا حياة لمن تنادي، وأشار لزيارة نائب الدائرة للمدرسة وأمّن على أن المدرسة غير آمنة، ونحن كان بوسعنا أن نقوم ببناء السور الخارجي للمدرسة بجهد شعبي ولكن كنا نثق بأن المدرسة داخلياً آيلة للسقوط، ولهذا السبب هاجس الخوف أصبح يتملك بناتنا الطالبات.المعنية. الجهات المعنية وعندما جاء دور الجهات المعنية، أجاب مدير الوحدة التعليمية لمرحلة الأساس الأستاذ مبارك محمد العجب على أسئلتنا، قلنا له ما هو دور وحدة التعليم في مشكلة مدرسة سمية بنت الخياط.. فقال خاطبنا المحلية لأنها الجهة المسؤولة وخاطبنا الوزارة للعلم فقط، وسألناه كيف تمت المخاطبة؟.. فقال تمت عبر ضابط الوحدة الإدارية بالصحافة وهو الذي يرفع الأمر للمدير التنفيذي لمحلية الخرطوم والمحلية بالفعل سجلت زيارة وأقرت بوجود خطر بهذه المدرسة على تلك الطالبات، وطلبنا منها إزالة الفصول التي تشكل خطراً على تلك الأرواح. وفي إجابته على سؤالنا بالصيغة، لماذا لم توفر وحدة التعليم مدارس بديلة؟.. قال عملنا على فكرة دمج مدرسة سمية بنت الخياط مع مدرسة حليمة السعدية.. ولكن وجدناها تشكل خطراً على تلك الطالبات بسبب موقعها الجغرافي وقربها من (الظلط).
آخر لحظة.