تأشيرة الرئيس وخوف امريكا

لساعات طوال تداولت وسائل الإعلام العالمية . قنوات الببي سي والعربية وال24 الفرنسية وغيرها. خبر رفض واشنطن منح الرئيس السوداني تاشيرة دخول امريكا. بينما لم تورد وسائل الإعلام في السودان الخبر المهم . هذا الأمر يتكرر كثيرا في السودان. تنتظر وسائل الإعلام السودانية طويلا قبل ان تورد خبر يخص أهل السودان. رغم ان الخبر يكون قد تردد عالميا كثيرا. هذا يؤكد عدم استقلالية هذه الأجهزة. هذا يعني أنها تنتظر أوامرا رسمية من مسؤل ما ببث خبر ما أو التعليق عليه.ردود افعال متأخرة وليس سبقا كما يفعل الأخرون.
الغرض من طلب التأشيرة هو حضور اجتماعات الجمعية العمومية في نيويورك. لن نخوض في الجدل القانوني حول رفض الإدارة الأمريكية ذلك من عدمه.لكن كان يمكن لأمريكا منح الرئيس السوداني تأشيرة الدخول لأراضيها وتحديد أميال تجوله في أمريكا .مثلا في حدود25 ميلا. فعلت امريكا ذلك قبلا . مع من ؟ مع بعض مسؤلي الإنقاذ الذين فرضوا حظر التجول على كل الشعب السوداني لسنوات . اللهم لا شماته.
لكن كيف وقعت الإنقاذ بكل رجالاتها في هذا الخطأ الفادح. لماذا عرضت صورة السودان ورئيس السودان لهذا الرفض غير الكريم؟ المثل السوداني يقول . (التسوي كريت في القرض تلقاه في جليدها).كريت ماعز والقرض هو بذور شجر الطلح. فإذا أكلت القرض دبغ لها جلدها .وعند ذبحها وسلخا يدبغ جلدها بالقرض .
الأمر برمته نتيجة طبيعية لسياسات الإنقاذ منذ استيلاؤها على السلطة. لقرابة ربع قرن ظل قادة الإنقاذ تفرغ الدولة من الكوادر والخبرات المؤهلة.فصلت ذوي الكفاءت الذين درسوا وعززوا ذلك بالتدريب وصقلوه بالخبرة ..واعلنت الدولة سياسة عامة تقوم على الولاء قبل الكفاءة في العمل العام. الولاء يخدم التنظيم والكفاءة تخدم البلد. هجم الإسلاميون على الخدمة المدنية وكل أجهزة الدولة . النتيجة تدهور مريع في كل مناحي الخدمة المدنية. هذا الجهاز وضع فيه البريطانيون أفضل خبراتهم. وهي خبرات استقوها من بلدهم وجربوها في بلاد العالم التي استعمروها زمانا. ثم اتاحوا المزيج للجميع . حتى حقبة نميرى ظلت الخدمة المدنية في عظمها قوية متماسكة فعالة. لكن الإنقاذيون بمجرد أن انتهوا من ترديد هتافاتهم التي تدعو للزهد في الدنيا ( لا لدنيا قد عملنا) اسرعوا إلى حيث الوظائف المدعمة بالإمتيازات . تكالبوا على كل ضرع حلوب .تدافعوا على وظائف الخارجية. ففيها الصرف بالدولار وفيها تزاكر سفر مجانية لكل الأسرة وفيها السكن المريح ودراسة الأبناء في الخارج والكثير من البدلات . فعلوا مثل ذلك مع كل الوزارات و المؤسسات حتى ترهلت وتكلست. من له من لم يجد مكانا أنشأوا لهم من مال الشعب المجالس والصناديق والمراكز والشركات . مجلس كذا وصندوق دعم كذا .وشركات الإستحواذ على عطاءات الحكومة واموال الشعب بمختلف الطرق.لهذا تتخبط سلطة الإنقاذ في سياساتها. الكثير من قرارتها عشوائية.يمكن معرفة بمراجعة مواقفها الخارجية وتحالفاتها غير الرشيدة.قراراتها التي تقوم على مواقف شخصية ولا تراعى مصالح الدولة العليا . التردي الكبير في الجوانب السياسية والإقتصادية والثقافية والرياضية. كل هذا نتيجة مباشرة لتشريد الخبرات. الموظفون الاكفاء الذين يسيرون دولاب العمل في الدولة بالقرارات المدروسة المستمدة من التجارب ومن مراكر البحوث. ومن الخبرات المتناقلة عبر أجيال في الخدمة.
إذن لا يستغرب المرء إذا لم تجد وزارة الخارجية وكل الحكومة السودانية موظف صغير يجنب السودان الحرج. لم تجد الدبلوماسية الإنقاذية موظف صغير يتصل بالسفارة الأمريكية . يستفسرعن إمكانية منح رئيس الدولة تأشيرة دخول . كان ذلك كفيل بتجنيب الرئيس وكل شعب السودان وأصدقاء السودان الحرج.ألا يوجد في الخارجية رجل رشيد يقرأ مواقف الإدارة الأمريكية الأخيرة قبيل التسرع بطلب تأشيرة للرئيس؟ لقد أحرج الإنقاذيون السودان افريقيا وعربيا وعالميا . افريقيا في قمة أفريقية أنعقدت في الخرطوم رفضت تنصيب السودان رئيسا لدورة فقط. وعربيا طائرة الرئيس لا يسمح لها بالعبور وتعود ادراجها . وعالميا وأمريكا ترفض منح رئيسه تأشيرة دخول لأراضيها.
لكن السؤال المهم هو لماذا تريد أمريكا (ان تشيل حال الرئيس والسودان). لماذا تعلن رفضها على لسان ناطقة رسمية في مؤتمر صحفي تتناقله كل وسائل الإعلام؟ كان يمك للإدارة الأمريكية أن تفعل ذلك عبر القنوات الدبلوماسية فلماذا تعلن ذلك على الملأ؟ ليس هذا فحسب بل وزادت عليه بان على الرئيس السوداني تسليم نفسه للمحكمة الجنائية !.أمريكا ليست عضوا في الجنائية .وطوال لقاءات عديدة لم تطرح موضوع كهذا أو تصرح به فما الجديد؟ ولماذا الآن؟
هل تريد الإدارة الأمريكية بذلك عدم تكرار موقفها المتردد من ثورة الشعب في مصر؟ هل للأمر علاقة بالضربة المتوقعة على سوريا؟ أم الأمر أخطر من ذلك؟ نظام الإنقاذ ورغم جهرة بالعداوة لأمريكا منذ قدومه إلا انه يتعاون معها ولا يرفض لها طلبا. يتعاون معها فيما يخص الإرهاب وينفذ ما تقوله في مجال حقوق الإنسان و فيما يخص العلاقة من بعضه. (العلاقة مع جنوب السودان). بعد وافق بتقرير المصيرإتفاقا وتنفيذا.وفي الكثير من الشئون.إذن لماذا ترفض امريكا منح الرئيس التاشيرة و تجهر الآن بموضوع الجنائية؟
كما ان للأمور دائما جوانب أخرى. فإن عدم منح التأشيرة يعني إن أمريكا لا تزال متمسكة به. وانه لا يزال الافضل في خيارات عن الذي يحكم السودان. كيف ذلك؟
لا تريد أمريكا من الرئيس مغادر البلاد وهي تغلي بسبب الظروف الحالية . وهي ظروف إقتصادية ضاغطة. والحكومة بدل التخفيف عنها تريد زيادتها برفع الدعم عن السلع الضروية . تخاف أمريكا من تفاقم الوضع. فربما قاد الغضب الشعبي لأنتفاضة تنجح بسفر الرئيس لأمريكا.
خافت أمريكا من أنتفاضة شعبية لا تعرف نتائجها . أو بالتحديد لا تعرف من الذي سيتولي الحكم في السودان في حال نجاحها. سافر الرئيس نميري في ظروف مماثلة فغادر كرسي الحكم للأبد. خلعه الشعب بأنتفاضة ابريل 1985م. لم يعد للسودان و بقي في مصر سنينا عددا.قبل ان يعود ويقضي باقي أيامه في السودان .
المثل السوداني يقول (الضايق قرصة الدبيب يخاف من مجرد حبل) .يعني إن الذي جرب لدغة الثعبان يخاف من حبل صغير.إذن أمركا تخشى ألا يعود الرئيس من سفرته.لكن مصر هذه المرة يحكمها ثوريون حقيقيون.أما الإنتفاضة الشعبية فعندما يهب الشعب فلن يوقفه رئيس ولا أمريكا. يشهد على ذلك اكتوبر1964 وابريل 1985وغيرها من التواريخ.لكن لا يبدو حتى الآن ان سبتمبر هذا يمكن ان يحمل اسم ثورة شعبية سودانية. لكن من يدري؟
الفينا مشهودة