مقالات وآراء

قتلوهم أحياءً وقتلناهم أمواتاً

مسمار السقيد

يقول رايت بتلر في عنوان كتابه (قصة معركة : معارك أمدرمان التي غيرت العالم) ذلك بإعتبارها أخر المعارك التي واجهت فيها امة ضعيفة متحدية ، ليس لها من سلاح يذكر إلا من الإيمان، أقوى الإمبراطوريات في زمانها
إذن لماذا الإهتمام الخاص بكرري؟ .
وقعت المعركة في الباحة الخلفية لضاحية العجيجة -وهي موطن أجدادي لمئات السنين- وقد كنا منذ الصبا الباكر نغدو ونروح بين البحر والجبل ، نلهو احياناً ونرعى أغنامنا. وفي طريقنا إلى الجبل -جبل سرغام أو ضرغام على رواية بابكر بدري التى أميل إليها لأن الجبل في شموخه وانفراده كالأسد الذي يحمي عشيرته التي من خلفه- تتلتقيك الكثيبات الرملية الحصوية ومن ثم المدافن المنتشرة على مساحات شاسعة من سفح الجبل يعتريها النسيان والإهمال.
تلك إذن مراقد شهداء موقعة كرري : رجال وقفوا أمام آليات الدمار الشامل، لم يتخاذلوا ، ولم يتراجعوا بل كانوا يندفعون إلى الأمام إلى الموت كلما سقطت راية حملها آخرون
قمت والصديقان الزميلان صلاح صباح الخير موجه اللغة الإنقليزية من مواطني العجيجة والذي يفصل بينه وبين مقابر الشهداء شارع الظلط؛ والأستاذ محمد إدريس المعلم بالمدارس الثانوية؛ قمنا بتحريك مبادرة للإعتناء بالمدافن بترميمها وتزيينها وبناء صرح كبير يحمل اسماء الشهداء . كانت الخطوة الأولى زيارة المقابر التي أصبحت داخل اسوار القوات المسلحة والتي لا يمكن الدخول إليها إلا بإذن مسبق، لذلك فقد اتخذنا الطريق الخلفي من الناحية الغربية الخلفية تحت إرشاد الأستاذ صلاح الذي كان مرشداً للكثير من الخواجات الذين أرادوا رؤية ارض المعركة التي سمعوا عنها كثيراً .
كان الطريق مزدحماً بالفريشة واكوام النفيات؛ وعند دخولنا راينا شباناً يتخذون من بعض مساحة المقابر ملعباً للكرة ،ذلك إلى جانب مئات بل آلاف المقابر- تغطيها أكوام من الحجارة بعضها تبدو لأفراد وبعضها كبير يبدو أنها لمجموعة- لم نتبين من تلك الأحجار إلا مقبرة السيد محمد المهدي التي أقيم حولها سور من حديد متآكل.
لنستعرض بعض ما قاله الأعداء عن هؤلاء المنسيين:
كابتن أميرون عندما شاهد مقتل ابراهيم الخليل : كانوا أعظم من الكلمات؛ كنت أرى القذيفة تسقط فى جموعهم الكثيفة وتقتل منهم الكثير ولكنهم لا يزالون يتقدمون.

تشرشل مذهولاً” انفجارات في الهواء وفي وجووهم كلما سقطت راية حالما ارتفعت وتقدموا بها إلى الأمام للموت في سبيل شأن الله المقدس … إنه مشهد رهيب برغم أنهم لم يؤذوننا ،ويبدو أن تلك ميزة غير عادلة” .
أحد الجنود عندما رأى شيخاً كبيراً يسقط على الأرض ثم ينهض “ذلك هو الرجل، هؤلاء الشباب السود يعرفون كيف يقاتلون وكيف يموتون”
أحد الضباط :”لم تكن لديهم فرصة لتغيير نتيجة الحرب، أعظم ما رأيت أنه لم يتردد أحدهم،كل واحد منهمم مندفع نحو موته,وصل بعضهم الى صفوفنا حتى اضطر الضباط لإخراج مسدساتهم” .
دُهِش الرقيب فرانكس وهو يضرب بالمكسيم على الخيّالة” لديهم فروسية عظيمة متقنة .. لا يمكن أن تشاهد مثل هذا العنفوان والشجاعة المتهورة .. هؤلاء الأعراب المتوحشون يتسابقون لملاقات الموت .. إنهم يأتون جماعات .. جماعات حتى يبدو أنهم قد ذابوا ثم أخيراً يسقطون أشلاءً .
هنتر أحد قوات الحملة : “قناعتي حتى الموت أنه إذا كان هجومهم قد تم قبل الفجر بنفس الشجاعة التي أظهروها في اليوم التالي لكان قد تم طعننا وتشتيتنا وإلقائنا في النهر … كان القمر مكتملاً في تلك الليلة”.
الشاعر المشهور روديارد كبلنق في قصيدة له مشهورة بعنوان “فزي وزي”
في إشارة إلى قبائل البجة :  لقد قاتلنا الكثير من الرجال عبر البحار؛ بعضهم كان شجاعاً وبعضهم لم يكن كذلك -البيتان الزولو والبورميين- إلا أن الفزي كان افضلهم جميعاً .
دبليو ستيفنز مراسل الديلي ميل : “لقد جاءوامباشرة نحونا بسرعة شديدة ثم توقفوا للحظة .. على اليمين راية الخليفة يعقوب السوداء وعلى اليسار عثمان شيخ الين يتوجهون نحو الموت بسرعة شديدة .. لم يكن لدى الدراويش فرصة، لكنهم أثاروا إعجاب الذين شهدوا المعركة .. كان انهمار الرصاص يسقطهم في مجموعات كبيرة .. ثم الصفوف تجمع نفسها في سرعة مرة بعد مرة .. أحياناً  حتى يمكنك تبيّن وجوههم .. كان آخر وأعظم أيام المهدية .. تلك لم تكن معركة بل تنفيذاً لحكم بالإعدام” .
نختتم هذه المقاطع بوصف معركة الراية السوداء :
“وبعد رؤيته لجسد ابراهيم الخليل قال : شباب مثل ابراهيم قد ذهبوا الى راحتهم الأبدية ، إرفعواراياتكم عالية ودعو الخيل تتقدم ، ثم تقدم برايته .. قتل يعقوب ومحمد المهدي في التاسعة والنصف برشقات من المكسيم .. نزل شبان من الخيل لاسترداد جسديهما لا أنهم قتلوا في الحال .. إنتهى هجوم راية يعقوب في العاشرة صباحا وانتهت بذلك المعركة في كرري” .
خلّفت المعركة في كرري آلاف الشهداء والخبر المتواتر والمنطقي عند اهلنا أن نسائنا هن اللائي قمن بدفن الشهداء..

أما بعد :
اختلف السوادنيون -كعادتهم- في رؤاهم حول كرري؛ البعض يعتبرها هزيمة حتى أن بعض الأنصار يزوَر عن ذكرها؛ويفترض آخرون أن الخليفة لو استمع إلى رأي عثمان دقنة لكان قد تغيّر الوضع .
والحقيقة أنّ شعوب وقبائل السودان تجمعهم الجفرافية  في رباط لا فكاك منه ويفرقهم التاريخ فالكل يقرأ التاريخ على هواه . وقد تعلمنا أن القراءة الصحيحة لا تأتي إلا عبر ما يعرف بالتفكير النقدي وهو الذي يتماشى مع مفهوم الآية الكريمة “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولا تسألون عما كانوا يعملون” ومن العيب والجهل أن ننصب من أنفسنا قضاة نجرّم هذا ونبرئ ذاك..
قراءتي المتواضعة : أن كرري كانت معركة في حرب طويلة قد سبقتها وهي ممتدة حتى يومنا هذا ؛ فالشباب الذين يجوبون الشوارع بلا تردد او إنكسار هم بلا شك حملة لجينات الشجاعة التي ورثوها من هنالك. الحرب هي -في حقيقتها- بين عقليتين ، بين ثقافين ، بين الحقيقة والخرافة، بين العلم والجهل.. نحن متوكلون دون أن نعقلها.. لا نتعلم من الماضي فالتاريخ لدينا مجموعة بطولات زائفة، والمستقبل غيب لا قدرة لنا في الإستعداد له، برغم أن المستقبل هو الحاضر أيضاً ، نحن ننظر فقط تحت أقدامنا -رزق اليوم باليوم- ولذلك فأن أقدامنا غائرة فى الوحل وعجلات التاريخ لا ترحم.
إن طريقة الإعداد بين الجيش الغازي والجيش السوداني توضح بجلاء الفرق بين العقليتين ؛ويبدو أن الإستعداد لهزيمة المهدية قد بدأ بتهيئت الشعب البريطاني فى أعقاب مقتل غردون .. قام ريغنالد ونقيت ضابط المخابرات بتكوين فرق الجيش من الفلاحين الذين كانوا في جيش عرابي ومن السودانيين الهاربين من حكم المهدية والأسرى بعد معركة توشكي وكوّن منهم الكتيبة السوداء والتي كانت أشرس المقاتلين في كرري؛ ومن العاطلين البريطانيين الذين لفظتهم المصانع -وصفهم أحد الضباط بأنهم حثالة الأرض- ومن الهند والبنغال واستراليا وأوروبا – وصف تيشرشل تجمعهم في حلفا كأنهم في بابل. وكان تعيين هوراشيو هربرت كشنر ضابط سلاح المهندسين ملائماً للمهمة فعقليته الرياضية الهندسية ساعدته في الإهتمام بالتفاصيل فقد كان يشرف على الرواتب وعلى المؤونات الغذايئية جنباً الى جنب مع الإشراف على خط السكة الحديد ووسائل الإمداد الأخرى وخطوط المواصلات .. كما كانت مخابراته تمده بتفاصيل دقيقة عن الأحوال في السودان.
في الجانب الآخر كان الجيش أوالجيوش كبيرة العدد وفي تراتبية واضحة وقد استفادت المهدية من المقاتلين الذين كانوا مع الزبير والذين كانوا على دراية باستخدام الأسلحة النارية وبما أن البلاد كانت في أعقاب مجاعة فقد كانت الحكومة تعتمد في حملاتها على مايجده الجنود في طريقهم . الأمر المهم أن الخليفة لم تكن لديه فكرة واضحة عن العدو ..
تعتببر هذه الكلمة ضربة البداية لتكوين جسم وطني -لا حزبي- تكون مهمته إستنفار كل الشعب السوداني لتكريم شهداء كرري وإعلاء القيم التي استشهدوا من أجلها : قيم التضحية والتضامن والبذل في سبيل االوطن؛ وتحصين تلك القيم النادرة بالعلم :تفكيراً وتخطيطاً وتنفيذاً ومتابعةً.
سنعمل على قيام ندوة عن موقعة كرري أحداثها ومآلاتها في وقت لاحق سنعلن عنه في وسائل الإعلام -زمانه ومكانه-.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..