الفكر العربي الإسلامي والأزمة السودانية (الأخيرة)

الهوية والتحولات الاجتماعية:
إن خروج أي مجتمع من مرحلة التحولات العشائرية وهي مرحلة الانتماء إلى أب أو جد واحد إلى مراحل التحولات الأخرى يمثل خروج من مرحلة الانتماء الجيني ذو الخط الأحادي إلى انتماء دائري تختلف فيه الانتماءات، فكل المراحل الاجتماعية التي جاءت بعد تلك المرحلة إذا كان انتماء قبلي أو ثقافي كان عليها أن تتجاوز الخط الأحادي في الانتماء نتيجة للتعدد الذي يصاحب ذلك التحول، فلا يمكن حدوث ذلك التحول من مجتمع ذو خط أبوي وأموي واحد إلى مجتمع متعدد دون ان يكون هنالك تمازج بين مجتمعات مختلفة. فدخول خط دموي واحد من جانب الأب أو الأم يلغي فكرة الانتماء الاحادي تماما، ولكن مثل ذلك الخروج أزمة عند كثير من المجتمعات نتيجة لعدم إمكانية تعريف الحد الإنساني أو الهوية خارج الإطار الجيني السهل، فالحد الإنساني في ذلك الإطار يبني على ذات الفرد فقط فكل من ينتمي إلى عشيرة ما هو أو قبيلة أو غيره هو الإنسان بغض النظر عن فعله وكل من هو خارجها هو خارج الحد الإنساني. اما الهوية أو الحد الإنساني في المراحل الأخرى فيبني على مظلة فكرية إذا تم تسمية تلك المظلة بالقبيلة أو الثقافة وعلى القيم الاجتماعية التي تمثل مجموع الإنسانية في اللحظة التاريخية لذلك المجتمع، ولذلك كانت المجتمعات منذ اللحظة التاريخية الأولى للتحولات تحتاج إلى النخب الفكرية من اجل تعريف ذلك الحد الإنساني والإشارة إليه، ولكن كان هنالك عجز مستمر لدي النخب الفكرية من اجل قيادة تلك التحولات من اجل ان يتوازى الفكر مع الواقع، وذلك القصور لدي النخب ترك المجتمعات تعيد التعريف الجيني بطرق أخرى داخل كل المراحل التي قطعتها رغم عدم تعريفه الحقيقي لمراحل التحولات تلك. فلم يتم اعادة استيعاب القيم المجتمعية الإنسانية داخل التعريف بل ترك التعريف للمظلة الفكرية فقط وأصبح كل من ينتمي إلى قبيلة أو عشيرة أو ثقافة حسب المجتمع هو الإنسان، وهو تعريف جيني لا يساعد المجتمعات في التكامل مع بعضها البعض. فعدم وجود القيم الحدية لمفهوم الإنسانية ترك تلك المجتمعات تقف عند الحد الجيني وتدافع عنه.

والمجتمعات العربية هي واحدة من تلك المجتمعات التي عجزت نخبها عن إيجاد فكر يوازى مراحل التحولات التي تسيرها، ولذلك تمسكت المجتمعات العربية بانتمائها الأولى القبلي العشائري الذي يقول بالانتماء الجيني ذو الخط الأحادي وهو الانتماء إلى أب أو جد محدد، تمسكت بذلك الانتماء كمظلة فكرية ولو متخيلة نتيجة لعدم وجود مظلة قيمية إنسانية لها علاقة بالواقع. وحتى لا يتم الافتراض ان ذلك الفكر خاص بالواقع العربي نجد ان الفلسفة الغربية رغم تبشيرها الكثير بالإنسانية إلا ان في جوفها ملامح الإنسان الغربي، فالاختلاف فقط ان الفلسفة الغربية عندما قامت وجدت ان مجتمعاتها تجاوزت مرحلة العشائرية والقبلية ولذلك بنت تلك الفلسفة على الإنسان الغربي والثقافة الغربية التي وجدتها، فالفلسفة الغربية إذا فلسفة جينية ثقافية اما الفلسفة العربية “الفكر العربي الإسلامي” عبارة عن فلسفة عشائرية قبلية جينية، ويوجد كثير من التباينات بين الفلسفتين ولكن عند النظر إليهم من زاوية التحولات الاجتماعية فهما عبارة عن فلسفات جينية لا تستطيع ان ترى الا من خلال منحى جيني، فالأقرب إلى الذات الإنسانية المفترضة هو الإنسان بغض النظر عن فعله إذا تمثل في العرق الأبيض أو تمثل في القبائل العربية، وكذلك لا تستطيع ان ترى الآخر إلا من داخل الذات ولا تمنحه الحق الكامل في الإنسانية، فهو اما متخلف أو ضد ففي الحالتين هو ليس إنسان كامل.
فالمظلة الجينية إذا كانت ثقافية أو عشائرية قبلية هي مظلة تلاشت مع التاريخ، وهي مظلة تقوم على أساس تراتبي جيني داخل المجتمع الواحد، فالأقرب إلى النموذج الجيني هو الأقرب ليمثل الإنسان الكامل في نظر تلك المظلة. ولكن المظلة التي نراها هي مظلة الاختلاف التي لا يوجد بها الإنسان النموذج أو القبيلة النموذجية الاقرب إلى الإنسانية من ناحية الجين فقط، أي ان المجتمع يكمل بعضه بعضا وكل فرد يحتاج إلى الآخرين حتى يدرك ذاته الإنسانية الكاملة وما يفقده فرد نتيجة لمرحلة تحولاته يجده في الآخر وهكذا. اما الآخر المختلف ثقافيا فهو آخر إنساني كامل الإنسانية يختلف فقط في تحولاته الاجتماعية وقيمه التي تحقق له الإنسانية، ويجب عدم النظر إليه من داخل تحولات الذات ولكن ينظر إليه فقط من خلال تحولاته الذاتية وطريقة تحقيقه لإنسانيته.

نرجع لما يهمنا وهو الفكر العربي الإسلامي “الفلسفة العربية” نتيجة لتأثيره الأكبر على الواقع السوداني تاريخيا وآنيا. فقد عمل ذلك الفكر على تغيير معني الإنسانية لدي المجتمعات السودانية من خلال الدفع بتلك الهويات التي جاء بها، واستغل خلو الفضاء الفكري السوداني من وجود رؤية توازي تحولات المجتمعات السودانية. ولم يتم الدفع بتلك الهويات وقيمها التي تحملها مرة واحدة إلى الداخل السوداني، بل تسللت إلى داخل الواقع مع الزمن نتيجة لعدم قيام النخب الفكرية طوال المراحل التاريخية التي بدأت منذ احتكاك ذلك الفكر بالثقافة السودانية، بمحاولة للدفاع عن الحضارة السودانية في مقابل الفلسفة العربية الاقصائية. فعند بداية احتكاك الهويات الجينية المتخيلة للفكر العربي الإسلامي كانت المجتمعات السودانية قد تخطت مرحلة الهوية الجينية وأصبحت تضع في أسس القيم الاجتماعية ويتم قياس الإنسانية بناء على تلك القيم، وبالتالي أنتجت الكثير من القيم الاجتماعية المتقاربة في كل المجتمعات السودانية. فكانت تلك حالة المجتمعات السودانية التي لا يوجد بها مظلة فكرية ولكن يوجد بها قيم اجتماعية تستوعب إنسانية المجتمعات السودانية وتمنح مساحة لوجود الآخر، ونتيجة لذلك لم يجد الفكر العربي الإسلامي كثير عناء في الدفع بمظلته الفكرية إلى الداخل السوداني ولكنه واجه مقاومة حقيقية عندما حاول جلب القيم المرادفة لتلك الهويات. وانقسم الواقع السوداني نتيجة لذلك إلى ثنائية الفكر والقيم، ففي مجال الفكر بدأت تنتشر هويات الفكر العربي الإسلامي ولكنه لم يمارسها بمنحي قيمي اقصائي كما تمارسها الثقافة العربية، فمفهوم القبلية ورفض الآخر وغيره ظل داخل الواقع السوداني في شكل فكر متعالي على الواقع “مع بعض الشذوذ” اما على مستوى القيم والممارسة الإنسانية فقد استمرت المجتمعات السودانية في التحول والتمازج بين بعضها البعض.

ونتيجة لوجود المظلة الفكرية العربية يجد الدارس للتاريخ ان كثير من المجتمعات السودانية في كل بقاع السودان تقول بالانتماء إلى هويات الفكر العربي وتحديدا هوية القبلية التي هي الأساس في ذلك الفكر، فكل فرد أو اثنية من الشمال أو الغرب أو الشرق أو حتى الوسط نجدها ترتبط بواحدة من القبائل العربية، وذلك الانتماء ليس لتلك القبائل في ذاتها ولكن لمفهوم الحد الإنساني الذي جاء مع الفكر العربي الإسلامي والذي يعلي من شان العروبة والقبائل العربية ويجعلها تراتبية في انتمائها للإنسانية، فكان الانتماء للقبائل العربية هو محاولة للانتماء للإنسانية كما وجدته المجتمعات السودانية، ولم تجد ما يخالفه من فكر سوداني يحررها من ذلك الفكر الاقصائي.
وكما ذكرنا ان المجتمعات السودانية لم تستسلم للمظلة الفكرية مرة واحدة، بل كانت تلك المظلة تتسرب من خلال النخب السودانية التي كان يجب ان تدافع عن الثقافة والحضارة السودانية ولكنها تجنبت دورها الأساسي في الحياة وأصبحت تتماهي مع ما هو موجود دون ادني محاولة من نقده وإدراك أبعاده الاجتماعية، وأصبح يوجد من تلك النخب من يدافع عن الهوية القبلية وغيرها من يدافع عن الهوية العربية وآخرون يدافعون عن الهوية الإسلامية، دون إدراك ان كل تلك الهويات هي هوية واحدة ممثلة في القبيلة العربية أو العروبة عند المجتمعات التي تجاوزت مرحلة التحولات القبلية، فذلك هو الحد الإنساني اما الإسلام فهو ثوب ترتديه تلك الهوية من اجل ايجاد موطئ قدم لذاتها دون ان تجتهد، بل تجعل من غيرها أسلحة في صالحها.

ونجد ان المجتمعات السودانية في مجال المظلة الفكرية بعد استسلامها لذلك الفكر الذي خدعها بثوب الإله الذي يرتديه، أصبح مجتمع الوسط يقول بالانتماء إلى مركز الإنسانية أي بالانتماء إلى الرسول قبليا، وكان ذلك انتماء لجوهر الإنسانية حسب الفكر العربي المتمثل في قبيلة الرسول، ونتيجة لتلك المركزية الإنسانية الجينية نجد الارتباط المفرط بين المجتمعات السودانية و “أبو فاطمة” وهي كنية للرسول خاصة بالمجتمع السوداني عكس ما يكني به عند الثقافة العربية “أبو القاسم” ويرجع ذلك إلى الاختلاف في التحولات وإدراك الحياة في الثقافتين، فيوجد أزمة لإدراك دور ومكانة المرأة في الحياة عند الثقافة العربية نتيجة لعدم استمرار التحولات في طبيعتها وتوقفها عند مراحل سابقة، فلا يوجد في الثقافة العربية احد يكني بالبنت ولا يتم الاعتراف بانها إنسان كامل كما يوجد في الثقافة السودانية. وذلك الارتباط المفرط بالرسول جاء من الفكر العربي الإسلامي بعد تحريفه للإرشاد الإلهي والقول بان الرسول هو اقرب البشر وأفضل البشر إلى الله عن غيره وانه أول من خلق وغيرها من المقولات التي لا علاقة لها بالإرشاد الإلهي ولا كذلك ببديهية الوعي. فالقول بان هنالك تفضيل على أساس جيني هو قول الفكر القاصر عن إدراك التحولات الإنسانية ولكن ان يسير به إلى ان الله أيضا يفاضل بين البشر على أساس جيني وان العرب أفضل من غيرهم وان قريش أفضل وغيرها، كل ذلك على أسس جينية هو زيادة في التحريف الذي لم يجد من يتصدي له. فكل تلك المقولات هي في الأصل مجاراة لوعي المجتمع العربي في معني الإنسانية الذي يقف عنده وعند قبائله ليس إلا. وكما انتمي مجتمع التحولات إلى مركز الإنسانية انتمت بقية المجتمعات السودانية إلى احدي القبائل العربية حتى تكون ضمن الحد الإنساني للمظلة الفكرية.

وكانت هويات الفكر العربي الإسلامي أو الحد الإنساني التي يرى من خلاله الفرد والمجتمع معني الإنسانية، كانت بمثابة أزمة نتيجة لثنائية عدم شمول المظلة الفكرية المسمية بالإسلام لكل المجتمع السوداني ولو شكليا وثانيا لاختلاف القيم السودانية عن القيم الآتية مع تلك الهويات نتيجة لاختلاف التحولات بين الثقافة السودانية والثقافة العربية. فتلك الهويات المنقسمة بين العروبة والإسلام ذي القيم العربية لم تكن تشمل كل المجتمعات مما نتج عنه وجود مجتمعات خارج الحد الإنساني وأصبحت تمثل آخر ضد رغم انها جزء من الذات الكلية، وكذلك القيم التي حاول الفكر العربي فرضها مع الزمن مما أوجدت أزمة داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات السودانية.
وادي ذلك الانتماء إلى تلك الهويات إلى انقطاع تاريخي بين فترة ما قبل احتكاك ذلك الفكر مع المجتمعات السودانية وما بعده، لذلك نجد محاولة ربط قسرية للتاريخ السوداني والمجتمعات السودانية بالتاريخ العربي، ويوجد تمجيد ودراسة لما بعد فترة الفكر العربي اما ما قبلها فلا توجد الا عند المتخصصين في التاريخ، فقليلين من يدركون سمامون ودوره في التاريخ السوداني المدون فما بالك بالتاريخ البعيد الذي نجهل ابسطه.
ولم يأخذ المجتمع المظلة الفكرية بأبعادها القيمية ولكنه لجا إلى فلسفة التصوف التي وجدها الأقرب إلى واقعه وتحولاته الاجتماعية واستيعابا لقيمه ورافضا في ذات الوقت للقيم المضمنة داخل تلك الهويات والتي ترمز إلى معنى الإنسانية لدي الإنسان العربي. واستمرت القيم السودانية التاريخية في تحولاتها مع المجتمع السوداني تحاول ان تحقق له الإنسانية، مع شد وجذب من قبل النخب التي تدافع عن هويات الفكر العربي الإسلامي وتحاول كل ما تجد فرصة ان تمرر تلك القيم باعتبارها قيم إلهية أو باعتبارهم القائمين على الأمر الإلهي في الأرض، دون إدراك لأبسط أسس الإرشاد وهي ان الإنسان في الآخرة يحاسب على اختياراته وليس على الاختيارات التي فرضت عليه ولو كانت صحيحة. ونتيجة لذلك الشد والجذب بين المجتمعات والنخب وصلنا إلى ما هو واقع الآن من حالة شد وجذب بين كل أجزاء المجتمع السوداني وقيمه في محاولة من جانب النخب السودانية المدافعة عن الفكر العربي الإسلامي لهدم الحضارة السودانية تماما.
فالفكر العربي الإسلامي إذا هو السبب المباشر لكل أزمات السودان التاريخية والآنية، وهو عبارة عن فكر أو فلسفة تلتحف ثوب الإله، فعلينا فقط نزع ذلك الثوب عنه حتى ندرك خلاصته المتمثلة في هوية اقصائية وقيم تاريخية لمجتمع يختلف عن المجتمع السوداني وتحولاته.

خالد يس
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..