الجدار العظيم – قصة قصيرة

الجدار العظيم-قصة قصيرةبعد الطوفان اﻷول العظيم ؛ كانت اﻷرض طازجة ، عذراء ، تنمو اﻷعشاب تحت سيقان اﻷشجار المرتفعة الضخمة ، والتﻼل الصخرية ترسم لﻸنهار قدرها الصعب عبر الوديان ، وتضيِّق الخضرة حيز الصحاري وتخنقها ، وفي السهم الشمالي ، يتمرغ الماموث في الثلوج ، والبطاريق التي كانت آنئذٍ تطير تحتل قﻼع الفقمات وتناوشها على اﻷسماك . كان هناك جنس متطور وحيد هو اﻷوسترالوبيثيكوس ، الجنس اﻷذكى واﻷضعف في نفس الوقت في مواجهة الطبيعة. هذا الجنس الذي تعلم بسبب الطوفان كيف يتجمع لمواجهة مخاوفه ومخاطره ، فكوَّن التجمعات اﻷولى له ، والتي تمركزت حول اﻷنهار ، تجمعت لتتمكن من مجابهة المخاطر ، أي أن الخوف هو الذي جمعها ، لكنها لم تستند إلى بنية ثقافية مشتركة ، لذلك ﻻ يمكن أن نطلق عليها مسمى “القبيلة” ، كانت لغتهم هي الهمهمة ، وكانت الرموز قليلة كافية بحد ذاتها ﻹشباع رغباتهم البسيطة ، اﻷكل والشرب ، النوم واﻻستيقاظ ، الصعود والهبوط ، الوقوف والجلوس ، السكون والحركة ، وبعض المتضادات اﻷخرى باﻹضافة إلى الجنس واللعب. كان الزمان متسعاً أكثر من المكان ، حيث ﻻ وقت إﻻ ما تحدده الساعة البيولوجية لﻸكل والشرب والنوم ، وكان عملهم هو صيد اﻷسماك وقليل من الحيوانات البرية اﻷخرى. ولم يكن يطلقون على أنفسهم أسماء كانوا محدَّدين جداً. لم تكن هناك صراعات ، وﻻ حروب ، فالطبيعة غنية ، الماء ممتلئ بالسمك ، واﻷشجار بالثمار ، وكان الجنس مشاعاً بﻼ استحواذ . وكل شيء يسير على مايرام .*وحينما كانت الحشود تنطلق لصيد اﻷسماك وقطف الثمار ، كان أحدهم ?ولنطلق عليه رقم واحد- كان يتخلف عنهم ، هارباً منهم إلى كهف صغير ، كان يحمل في يمناه حجراً حاد الذؤابة وفي يسراه حجراً مسطحاً ، ثم يضع الحجر الحاد على جدار الكهف ، ويطرق بالحجر المسطح على رأس الحجر الحاد ، وكان يمارس عمله في نحت جدران الكهف يوماً بعد يوم ، إلى أن مرَّت سنة كاملة ، حينها وقف على أطراف أصابعه والنشوة تكتم أنفاسه ، فلقد أنهى جداريته تماماً كما كان يرغب فيها ويتصورها ، كان فناناً قديراً ، وكم تاقت نفسه إلى جذب انتباه أنثى لهذا الفن. حينها هرع إلى مجموعته وأخذ يصيح بصوت أجش ، منادياً عليهم ، فنظروا إليه ببطء وهمهموا ، ولم يحركوا ساكناً ، أخذ يصيح مرة أخرى ، فوقف أحدهم وحرك جسده ببطء وسار خلف رقم واحد سير مجاملة وقنوط ، وكان يهمهم ممتعضاً ، حتى بلغا الكهف ، حينها أخذ رقم واحد يهمهم همهمات متقطعة ثم دخل إلى الكهف ، إﻻ أن اﻵخر توقف في مكانه وهو خائف من ولوج كهف ﻻ يعرف ما يخبئه في داخله ، فخرج رقم واحد وأخذ يهمهم بإصرار ، فتردد اﻵخر وأخذ يخطو خطوات قصيرة ، إلى أن دلف إلى الكهف ، ثم توقف وهو ينظر إلى رقم واحد منتظراً المفاجأة ، فأشار إليه رقم واحد نحو جدار الكهف ، حرك اﻵخر رأسه وأخذ يرمق الرسومات بعينين ضيقتين. ثم همهم بصوت خافت ، ودار على عقبيه وخرج .كان رد فعله قاسياً على رقم واحد ، فقد شعر اﻷخير بإحباط شديد من عدم اكتراث اﻵخر لفنِّه، فخرج إلى البراري وأخذ يعدو بأقصى سرعة ممكنة ، إلى أن بلغ الدغل فتراجع خوفاً من الضياع في متاهته ، ثم كرَّ عائداً إلى مجموعته ، متمنياً أن يدعو المزيد إلى زيارة كهفه إﻻ أن الشمس كانت على وشك الغروب ، فانزوى تحت شجرة بلوط ونام والكوابيس المزعجة تمخر عباب منامه.*كان استيقاظه عند الفجر بصيحة أيقظت المجموعة ، ثم أخذ يهمهم بغضب شديد وهو يدعوهم ﻻقتفاء أثره ، فتبعته مجموعة ببطء . ولما دخلوا إلى الكهف ورأوا الرسومات ، انقلبوا على أدراجهم غير مكترثين . فازداد احباط الرقم واحد . وكرر ما فعله في اليوم السابق من الجري بعنف وسرعة حتى بلغ الدغل فدخله غير مكترث إلى متاهاته ، وسار بين اﻷشجار باكياً ، حتى بلغ نهيراً صغيراً فجلس على شاطئه ، وهو يندب حظه وتبلد مشاعر مجموعته . وإذ هو كذلك ، سمع همهمة أنثى بقربه فالتفت نحوها بجزع ، فنظرت هي إليه بحنو وشفقة ، ثم مدت راحتها إلى كتفه ولمسته ، حينها ألقى برأسه في أحضانها وانفجر باكياً ، لم تكن قادرة على فهم سبب بكائه ، ولم تسمح لغة الهمهمات البسيطة بأكثر منها لتبادل الفهم ، فمارسا الجنس بصمت.حل المساء ، وأظلمت اﻷرض والدغل واسود لون النهر ، ومرَّ الليل فوق النجوم كالحلم الرائق الجميل ، وفي الفجر قاد رقم واحد تلك اﻷنثى عائداً بها إلى الكهف ولم ينس أن يقطف بعض الثمار أثناء عودته ، وهناك داخل الكهف ، وقفت اﻷنثى بدهشة بالغة وهي تشاهد النحت الجداري ، وهكذا وجد رقم واحد ﻷول مرة نصيراً له مما شجعه على أن يدعو مجموعات أخرى لمشاهدة النقش الجداري العظيم. فانطلق والفتاة إلى غربي النهر ، ليبشر بالفن الجديد عند مجموعة أخرى ، وهناك تلقت الجموع قدومه باﻻستحسان ولم ينبذوه ، بل ذهبوا معه إلى الكهف وشاهدوا الرسومات وانبهروا بها ، بل وأصبح رقم واحد زعيماً عليهم ، يأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، وساعدوه في بناء جدار ضخم ، أخذ يعلمهم فيه أصول الرسم ، والنحت ، ولما وجد صعوبة التفاهم معهم أخذ ينقش رسومات صغيرة تمثل كل حركاتهم ، فهناك حركة الجري وهناك حركة الوقوف ، وهناك حركة القفز ، فتعلموا الكتابة قبل النطق بها ، فرأى أن يحول الرسومات إلى كلمات ، فكلمة (شاه) تعني الوقوف ، وكلمة (ناه) تعني الرفض ، وكلمة (ساه) تعني القبول ، وهكذا بدأت الجموع تتفاهم فيما بينها ، وازدادت قدرةً على التعبير عن ذاتها ، وعن بيئتها ، وكونها ، وازدادت أواصر التقارب فيما بينها ، وقويت عزيمتها ، حينئذ ، محا رقم واحد النحت الذي على الجدار الضخم ، ونحت بدﻻً عنه رسومات أخرى غير مفهومة ، ثم خاطبهم قائﻼً :- لن تفهموا هذه الرسومات إﻻ حينما يتسع أفقكم ، وتزدادون علماً على علم.ولما بلغ هذا الشأو من الزعامة والقوة ، قرر أن يغزو مجموعته اﻷولى التي نبذته وأن ينتقم منها ، فأعد جيشه ، وخاض أول معركة في تاريخ الكوكب. كانت معركة دامية ، ﻻ رحمة فيها ، وانتصر رقم واحد ، واستعبد اﻷنثيات والذكور من المجموعة المنهزمة . ثم أخذ يجول بجيشه العرمرم فاتحاً لكل المجموعات اﻷخرى ، وكان كلما انتصر قام بمضاعفة طول الجدار وارتفاعه وقام بنحت مزيد من الرسومات غير المفهومة عليه.*ومضت السنين بالزعيم رقم واحد ، حتى بلغ من الكبر عتياً ، فجمع الناس يوم احتضاره ، وصاح بهم:-لقد علمتكم سرَّ الكلمة .. لقد علمتكم سرَّ الكلمة … منها بدأتم وإليها تعودون .. إنها بيت الوجود.ثم لفظ أنفاسه اﻷخيرة. فحرقوا جثته على سطح الجدار ، وبكوا عليه بكاءً مريراً .****بعد ذلك؛ عرف اﻻوسترالوبيثيكوس الغزو والحرب ، واستعباد الضعيف ، فآمنوا بمنطق القوة ، وقدسوا جدارهم بمنحوتاتهم المرسومة ، ثم مضي قرن من الزمان ـ اختلفت فيه تأويﻼتهم لمفهوم هذه الرسومات ، فانقسموا إلى مجموعات كل مجموعة تقدس تأويلها لمنحوتات الجدار الغامضة وتقاتلوا فيما بينهم قتاﻻً عنيفاً ، ثم جاء مدعون فبنى كل واحد منهم جداره الخاص ، في كل منطقة نهر ، حتى لم يعد الجدار اﻷصلي مميزاً عن غيره من الجدران ،وهكذا ضعفت حضارة اﻷوسترالوبيثيكوس نتيجة اﻹنقسام والتشرذم حتى جاءت حضارات أخرى ، كانت أكثر قوة وتماسكاً ، فهجمت على كافة الجدران ودمرتها تدميرا ، فانتهى عصر الجدران العظيمة.
(تمت)
[email][email protected][/email]