مقالات وآراء سياسية

نموذج عثمان ميرغني في وزارة الخارجية: تطبيق عملي

ناصر السر ناصر

ظلت وزارة الخارجية منذ تاسيسها قبيل استقلال السودان فى خمسينيات القرن الماضي حكراً خالصاً لابناء الذوات واصحاب الحظوة من المقربين وذوى الولاء السياسي للنظم السياسية المتعاقبة على حكم البلاد، مع استثناء القليل جداً من الحالات التى يتم فيها اختيار الكوادر الدبلوماسية وفق معايير علمية ومهنية محكمة. ومن عجب فإن ما حدث على فترات متباعدة من طفرات و”فلتات” فى استقطاب كوادر مؤهلة لرفد الدبلوماسية السودانية بكفاءات فاعلة للدفع بعلاقات السودان الخارجية الى الأمام وتحقيق المصالح الوطنية بالخارج انما حدثت فى فترات حكم النظم العسكرية الثلاث التى تعاقبت على حكم البلاد. بينما فى فترات الحكم المدني منذ الاستقلال والى يومنا هذا كانت الوظيفة الدبلوماسية ولا تزال هى إما مكافاة لشخص مرضي عنه، أو إبعاد وتغريب سياسي لشخص مزعج للسلطة، أو وسيلة ل”التمكين”، والاخيرة يشترك فيها العسكر والمدنيين. وهذا يفسر بوضوح ما وصل اليه حال البلاد من عزلة دولية حقيقية، وتراجع دور السودان فى المحيط الدولى الى درجة أن المواطن السودانى أصبح لا يُنظر اليه الا كمشروع ارتزاق أو وعاء مستقبل للاغاثة بغية اعلاء شأن بعض دول المنطقة على المستوى الدولى. ودونكم قضية الساعة، مجموعة من الشباب السودانيين يتم خداعهم بواسطة شركة أجنبية للزج بهم فى أتون معارك لا شأن لهم ولا لدولتهم بها، مقابل دراهم فانية. ألم يسأل أحد قادة الحكومة المدنية نفسه: لماذا لم يحدث هذا مع مواطني الشقيقة مصر مثلاً مع أنها على علاقة طيبة مع دولة الامارات العربية المتحدة؟ الاجابة بكل بساطة لأن الأجهزة الرسمية هناك يقظة ومتناغمة وتحترم مشاعر مواطنيها.

ومواطن الخزى بالنسبة للدبلوماسية السودانية كثيرة جداً ويعلمها الجميع، لكن وللحقيقة، فإن مظاهر البؤس والضعف والهشاشة التى تتسم بها الدبلوماسية السودانية هى بالتأكيد ليست بمعزل عن الحال العام للبلد، حيث ان الدبلوماسية تستمد قوتها من قوة النظام الحاكم المدعوم بسند شعبى داخلى، المتمتع بعناصر القوة المادية والمعنوية والتى تمنحه نفوذاً خارجياً. لكن طالما أن الحديث عن وزارة الخارجية وسبل اصلاحها فى عهد ثورة ديسمبر الظافرة، يغدو من المخيب للآمال أن تصطدم محاولات التغيير فى هذا الجهاز الحساس بحائط البيروقراطية العقيمة، ومن وراءها جيوب الدولة العميقة ذات شبكة المصالح الغائرة فى أعماق نهج النظام السابق في ظل عجز وفشل حكومة الثورة، بل وتعمدها لانتهاج ذات أساليب النظام السابق فى كثير من القضايا.

على سبيل المثال، ومن المفارقات الغريبة فى نهج وزارة الخارجية السودانية فى عهد الثورة، تعاملها مع ملف قضية كوادر الخبرات الوسيطة الذين تداعوا من كل حدب وصوب ممنيين أنفسهم بالعمل بوزارة الخارجية كدبلوماسيين “كوادر وسيطة”، وذلك بعد اعلان مفوضية الاختيار للخدمة العامة رسمياً فى العام 2017م عن حاجة الوزارة لهذه الخبرات، ثم انتظموا فى سلسلة طويلة من المراحل أكملوا خلالها كل الاجراءات التنظيمية لاختيار العاملين بالسلك الدبلوماسي وفقاً للضوابط العلمية والمهنية كما شهد بذلك كل المراقبين ووسائل الاعلام. وبعد أن تمت التصفيات النهائية ولم يتبق الا الاستدعاء لمباشرة العمل قام الرئيس المعزول فجأة بايقاف هذه الاجراءات ضمن مجموعة قرارات وصفت بانها تهدف الى تقليص الانفاق لكن الأمر لم يخل وقتها من توترات بين الرئيس السابق ووزير خارجيته البروفيسور ابراهيم غندور كما هو معلوم.

وبعد انبلاج فجر الحرية والتغييركان من البديهى أن يحدو الأمل هؤلاء الشباب بأن طموحاتهم التى طالما تبعثرت أمام دولة الفساد السابقة لا بد أن تجد طريقها الى التحقق فى عهد المدنية “الفاضلة”، فكانت البداية بتنظيم انفسهم واختيار ممثلين لهم ثم مخاطبة رأس الدولة المدنية السيد رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية بتفاصيل القضية طالبين انصافهم وصيانة حقوقهم فى التوظيف مقابل الذين نالوا هذه الوظائف بالمحسوبية والولاء الحزبي. وهذا مبدأ أصيل من مبادىء العدالة والشفافية التى ترفعها الثورة كشعار. الا ان خيبة الأمل بدأت تعلو الوجوه عندما تبينت ردة فعل الوزارة والجهات الرسمية فى الدولة. وهى فى الحقيقة ليست ردة فعل بالمعنى المعروف بل يمكن أن نصفها بانها التجاهل والاستنكار. فالموقف الرسمى للوزارة باختصار كما جاء على لسان الناطق الرسمى السفير “بولاد”  كالآتى:

1-      قرار ايقاف هذه الاجراءات قرار صحيح لانه صدر من جهة ذات اختصاص وقتها، ويقصد الرئيس المعزول.

2-      قال أنهم يسعون الى تاسيس وزارة قوية قائمة على أسس مهنية .. الخ، وخلاصة هذه النقطة أن سيادته يرى أن هذه الدفعة

معظمهم من تخصصات غير التخصص التقليدى للعمل الدبلوماسي وهو العلوم السياسية. وفيما يلى نناقش هذه النقاط بهدوء:

أولاً: قبل أن نجيب على النقطة الأولى، يجب التنبيه الى أننا لا نستند الى بطلان القرار من ناحية قانونية، والجميع يعلم بأن القانون لم يكن يوماً له أثر فى بلادنا أمام السلطة السياسية ولا يزال، اذ ان كل القرارات تفصل على ما يطلبه الساسة بل “شلليات الساسة” وليست الأجهزة السياسية. وعليه فإن مطلبنا بأن وزارة الخارجية محتاجة الى هذه الكوادر ومطالبة بتطبيق قانون ازالة التمكين بان يحل صاحب الحق مكان الحائز على الوظيفة بغير حق. ثم انه اذا كان سيادته يعتبر أن قرارات الرئيس السابق كلها صحيحة لانها صدرت من جهة ذات اختصاص فى وقتها فلماذا قانون ازالة التمكين، واعفاءات وتعيينات جديدة فى كل مؤسسات الدولة على مدار اليوم؟ وهنا لا بد أن نذكر سيادة الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية بأن الرئيس المعزول كان قد قام بتعيين عدد من قادة حزب المؤتمر الوطنى كسفراء بالخارجية عقب حل حكومة ما قبل الطوارئ في سياق محاولات النظام لامتصاص غضب الشارع، فضلاً عن أنها جاءت في سياق الترضيات، فتم تعيين رئيس الوزراء السابق معتز موسى، ووالي الشمالية السابق ياسر يوسف، والأمين العام لجهاز المغتربين السابق كرار التهامي، ومطرف صديق، ليقوم المجلس العسكرى بعزلهم جميعاً بعد سقوط النظام. فلماذا لم ترفضوا عزلهم بحجة أن تعييينهم صدر من جهة ذات اختصاص؟؟ وهذه واحدة من مواقف نجاح العسكر حيث فشل المدنيين فى ازالة التشوهات المهنية بالوزارة نسبة لعدم وجود بدائل لعناصر النظام السابق.

ثانياً: مسالة أن الوزارة تسعى لاختيار عناصر بمؤهلات العلوم السياسية فقط هذه ليست الا محاولة لفتح الباب لتمكين جديد بالوزارة، ومدخل للمحسوبية والولاء الحزبي الذي ذكرناه فى بداية المقال. وليس من المنطق ابداً أن تنحصر مؤهلات جميع منسوبي وزارة فى تخصص واحد مهما كان، هذا يتنافى مع العلمية والمهنية وحتى المنطق لا يقبله. فالتنوع هو سمة العصر والحداثة خصوصاً العمل الدبلوماسي فانه يتطلب قدر كبير من المهارات والقدرات والمهن حتى وهذه معلومة ليست بخافية على أحد. أما بالنسبة للكفاءة فانك لن تجد أفضل من اشخاص تم اختيارهم بالطريقة التى تم ذكرها آنفاً وشهدت على ذلك لجنة من أبرز الخبراء فى كافة المجالات.

ثالثاً: بعيداً عن كل ما ذكر، فان مسالة “التجاهل” من حكومة مدنية أتت بعد تضحيات جسام ونالت كل الآمال والتطلعات بانها بداية فجر السودان الجديد هي مسالة محبطة ومخيبة للآمال حقيقة. ماذا كان يضير السيد رئيس الوزراء بان يقابل ممثلى هؤلاء الشباب ويشرح لهم وجهة نظره حتى ولو كانت موافقة لقول الناطق الرسمي للوزارة؟؟ وكذلك ماذا يضير وزيرة الخارجية ان فعلت نفس الشي؟ هل هو استهانة بهذه المطالب ام استتعلاء؟؟ اذا كان قد تم حجب المراسلات ومنع توصيلها لسيادتهم فهذه مصيبة لم يفعلها حتى مدراء مكاتب قادة النظام السابق، واذا كان التجاهل بقرار من سيادتهم فإن المصيبة اعظم، وخيبة الامل لن تتوقف عند هذا الحد وبالتاكيد سيكون لها ما بعدها ان لم يكون فى هذه القضية ففى قضايا أخرى.

أخيراً: الأستاذ عثمان ميرغنى، رئيس تحرير صحيفة التيار الغراء، وبطريقته المميزة فى طرح آراءه، ومناقشة القضايا العامة، وضع تصوراً لكيفية اختيار الكفاءات الوطنية ومدي تأثير ذلك على نهضة وتقدم البلاد، وباسلوب سلس اختار حاجة البلاد لسفراء مؤهلين لتمثيل البلاد فى عدد من المحطات الخارجية، فتخيل أن تطرح الدولة هذه الوظائف للعامة، ثم تجري عليهم اختبارات لقياس الكفاءة فى مسابقات مفتوحة للجمهور ومن ثم فإن من يقع عليهم الاختيار بهذه الطريقة هم الأجدر بالتكليف. وتساءل: لماذا لا نستخدم مثل هذه الشفافية والمهنية العالية لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب؟ ثم أجاب معدداً المكاسب من مثل هذا النهج قائلاً:أولاً: سنحصل على أفضل الخبرات والكفاءات السودانية في مختلف التخصصات وليس الدبلوماسية وحدها، ثانياً – وهو الأهم – سيشعر كل سوداني بالرضا لأن الفرص متاحة للجميع بلا وساطة أو شلليات أو محاصصات لا ترى بالعين المجردة. ثم أكد الاستاذ عثمان ما ذكرناه آنفاً بقوله: لدينا كوادر رفيعة في كل تخصص، مهما كان نادراً ، لكن للأسف لا تزال الوظائف في مختلف الدرجات توزع بحسابات ضيقة لا تسمح لأهل الخبرة غير أولى الإربة والقربى السياسية أو الشخصية أن ينافسوا فيها.. لماذا لا نفتح كل الوظائف للمنافسة المفتوحة؟ ولماذا لا نرفع مناسيب الشفافية لنسمح لمعاينات مفتوحة في الهواء الطلق من مبدأ (العدالة لا تتحقق، حتى تُرى وهي تتحقق)

وهنا لا يسعنا الا ان نؤكد للاستاذ عثمان ميرغنى بأن هذه الدفعة تعتبر تطبيق عملى لمقترحك هذا، اذ خضعت لاجراءات مشابهة الى حد كبير لما تنادى به من اختبارات قياس الكفاءة، وهي على استعداد بأن تتم اى مقابلات أخرى من قبل جهات الاختصاص، فهل من مجيب ام ان الامر ليست موضوع كفاءة؟؟

ناصر السر ناصر

[email protected]

 

تعليق واحد

  1. نعم …. في كل الفترات ظلت بعض الوظائف المهمة في الدولة حكراً على شرائح بعينها بالذات في الوزارات أو الادارات المهمة التي تسمى السيادية مثل الجيش والشرطة والخارجية وغيرها من الوزارات والمؤسسات المهمة ، ونادراً ما يتم إختيار شخص غير مسنود من جهة ما لهذه الوظائف .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..