النظافة كحالة إنسانية

ان الوعي الجيني عند المجتمعات الأولي كان المحرك الوحيد باعتبار ان العقل لم يكن فاعل ولم يمتلك أدواته في تلك المجتمعات، ورغم ذلك نجد ان تلك المجتمعات قد مارست الإنسانية بصورة أفضل من المجتمعات التي تلتها فقد كانت تلك المجتمعات تمارس الفعل السلوكي كحالة إنسانية داخل كل اجتماعي وليس السلوك كقيمة في ذاته، فلم تكن للنظافة محددات تراتبية داخلها حتى تحولها من نظافة فقط إلى اختلاف وتراتب ومن أنظف من من كما نرى الآن، بل كانت الكيفية الاجتماعية هي التي تقود تلك المجتمعات وتعتبر هي الممارسة الإنسانية الوحيدة لفعل النظافة، فكل سلوك يعتبر سلوك اجتماعي يلبي حالة إنسانية داخل المجتمع وليس داخل الفرد فقط، فالممارسة المجتمعية هي التي كانت تحكم النظافة كما تحكم بقية الأفعال السلوكية من حيث توقيتها وشكلها، فكان الاستحمام ليس لإزالة الشوائب باعتبار ان تلك الشوائب الطبيعية جزء من الفرد، ولكن تلبية للجسد وحاجته للماء من اجل إعادة النشاط أو كممارسة رياضية وضرب من ضروب اللهو كما نجد عند المجتمعات التي تقطن بجانب الأنهار، فلا يعني الاستحمام عند تلك المجتمعات عدم خروج الفرد مرة أخرى إلى الطبيعة وممارسة أنشطته مرة أخرى، فلم تكن هنالك نظافة من ولكن كان هنالك نظافة فقط ولم تكن تلك السلوكيات تأخذ نفس المفاهيم التي تأخذها الآن، ولذلك لا نجد تلك المجتمعات تقف كثيرا عند الطقوس السلوكية لتحليلها بل تمارسها فقط.

تغير كل ذلك عندما بدا العقل يدخل في حياة المجتمعات ويحاول ان يصغ رؤية كلية لماهية الإنسان والحياة الإنسانية وأصبح يسعي خلف كل ما هو ظاهر ويمنحه معني وبالتالي تحولت الحالة الإنسانية إلى قيم في ذاتها تضاهى القيم التي يمنحها الفرد للإنسانية، بل تمددت تلك القيم فأصبحت تحاول ان تعوض القيم الإنسانية الإنسانية، دون إدراك من جانب النخب التي جارت مفهوم العقل والمعقولية ان الممارسات الفردية في عدم وجود مجتمع كلي للفرد تتحول لتكون مجرد حالات فقط لا تحقق المرجو منها على المدى الطويل، فوجودها كبديل تعويضي يمكن ان يسد فرغ لحظي لكنه لا يمكن ان يسد كل الفراغ لكل الأزمان. فاستبدال العقل للإحساس الإنساني الإنساني الذي يتكامل من خلال الحالات مثل الأكل والشرب وغيرها والذي كان تتكامل به الذات مع الكل الجيني أثناء ممارسة حالة ما، استبداله بالحالات والقول بان النظافة في ذاتها قيمة والأكل في ذاته قيمة وتحويل الإنسان إلى ممارس للحالات وليس ممارس للإنسانية من خلال الحالات. كل ذلك جعل من الرؤية الكلية التي حاول العقل صياغتها بعيدة عن الوعي الجيني ولم تمسه من بعيد، بل جعل الإنسانية تعيش في غربة حقيقة عن ذاتها وعن مجتمعاتها الحقيقية.

هذا إذا نظرنا إلى الحالات دون جندرتها ولكن إذا أتينا للوعي الجيني للرجل نجده في استيعابه للحالات الإنسانية نجده يسعي إلى استيعاب كلي فلا يولي الحالة الإنسانية انتباهه الكامل لها، ولذلك عندما بدا يدخل العقل إلى حيز الفعل الإنساني نجد ان عقل الرجل اخذ يسعي إلى إيجاد العلاقات البينية بين الحالات ويحاول إيجاد كلية لها ولم يهتم بتفاصيل معني الحالة، ولذلك كانت الإنسانية طوال تاريخها تترك ماهية الحالة للمرأة ووعيها الاستيعابي الذي يستطيع ان يستوعب الحالة بعيدا عن الكلية ويراها كما هي فقط وليس وفق علاقتها بالكلية، مما يمكنه من إيجاد سلوك إنساني يلبي تلك الحالة. ولكن للأسف لم تتم مراجعة وعي المرأة ذلك حتى تحولت تلك الحالات إلى ماهية وقيم تتداخل وتتقاطع مع القيم الإنسانية، فتحول اللبس مثلا الذي كان في بداية الإنسانية من حالة اجتماعية يتوافق عليها كل المجتمع وفي ذاته كان عبارة عن بسيط ومريح ويرجع إلى الطبيعة، تحولت تلك الحالة إلى قيمة إنسانية فمن يلبس كذا فهو كذا وغيره من المسميات التي تابعنا فيها المرأة فأصبح لا يتم تعريف الإنسان من خلال وعيه الجيني ولا العقل والمعقولية ولكن ما يلبس وما يأكل وغيرها في واقع يضحك حتى الحيوانات علينا.

اما موضوع النظافة فهو يمثل الهاجس الأكبر للمرأة نتيجة لدخول جسدها بما يحمله داخل ثنائية النظافة والوساخة، فرغم معرفة كثيرين بان ما يأكله الإنسان يتسبب في تغير رائحة العرق مثلا إلا اننا نجد الجميع يذهب إلى كيفية التخلص من تلك الرائحة بعد صدورها وليس قبلها، فلماذا لا يذكر أحدا ان الرجوع إلى الأكل الطبيعي والممارسة الطبيعية للحياة والاستحمام بالماء فقط يمكن ان يجنبك كل المشاكل الأخرى، ان تحويل المرأة للنظافة من حالة ضمن الحالات الأخرى التي يمارس بها الفرد إنسانيته ضمن ومن خلال مجتمع محدد إلى قيمة لا علاقة لها بالإنسانية وإنما تتحدد من داخلها فقط، وكذلك أبعدت المرأة نتيجة لذلك الهاجس الإنسانية عن الطبيعة وصورتها كعدو للإنسانية، ولكن السؤال أين كانت المنظفات طوال التاريخ الإنساني؟ ولماذا لم تبيد الطبيعة الإنسانية رغم وجود كل ما يسمي بالجراثيم التي لم تأتي مع التطور المزعوم ولكنها موجودة بوجود الحياة، اذا الذي اختلف هو الإنسان ومحاولته لإنشاء طبيعية صناعية بديلة عن الطبيعة الحقيقية، ورغم ذلك لم يختفي المرض من الفقاعة الصحية التي أنتجتها الإنسانية، بل تسببت الطبيعة الصناعية في إضفاء مزيد من المعاناة للإنسانية مع التلوث الكيميائي الذي انطلق ليغزو الكون.
لا يمثل ذلك دعوة للبعد أو ترك العلم الطبيعي ولكن دعوة لعدم السعي خلف أوهام إنسانية يمكنها ان تدمر الكون والحياة، وكذلك إذا حاولت الإنسانية محاكاة الطبيعة عليها دراسة الطبيعة بكل أجزائها حتى لا تترك ثغرات يمكن ان تأتي برد فعل عكسي، كما نرى في تغير المناخ والفيضانات وغيرها التي أتت نتيجة لأفعال الإنسانية غير المدروسة، فالطبيعة لها طرقها في المحافظة على توازنها ولكن عند الضغط عليها ومحاولة تغييرها سيكون هنالك المزيد من ردود الفعل غير المحسوبة.

ان اكبر أزمة تعانيها الإنسانية في الوقت الراهن هي اعتبار ان الإنسان مجرد مرآة للطبيعة وهو ما نراه في كثير من الدراسات التي تخرج الآن في تلاعب واضح بالإنسانية، فكل ما يسمي بالدراسات الحديثة هو محض أوهام ليس إلا، وهذا يقودنا إلى ما ذكرناه في المقال السابق بان تعرض فردين لنفس الجرثومة فنجد احدهم أصابه المرض والأخر لم يصبه، فهل يكفي تعليل المقاومة وغيره وما هي المقاومة؟ ان ذلك المثال يقودنا أولا ان جسم الإنسان لا يمثل مرآة للطبيعة إذا دخلته جرثومة يمرض مباشرتا، بل الفعل الإنساني يرجع إلى الوعي الجيني فلا يمرض الشخص ما لم تكن هنالك استجابة من الوعي الجيني، وتحدث تلك الاستجابة نتيجة لقصور في إدراك وممارسة ذلك الوعي، فالإنسان هو الذي يتحكم في فعله وليس الطبيعة. وكذلك في الأمراض هنالك الأمراض الوراثية التي تتمثل في التاريخ الطبي للعائلة، فإذا لم يدخل الفرد على ممارسته السلوكية ما هو جديد وظل في تواصل دائم مع البيئة الطبيعية يظل قصور الوعي الجيني يتمثل في أمراض محددة تجد علاجها داخل البيئة الطبيعية، اما تعدد أنماط الفعل الإنساني واختلافه ودخول تحديدا المواد الكيمائية داخل كل الحالات الإنسانية من أكل وشرب وغيرها يقود الإنسانية نحو أمراض لم تكن تتواجد في التاريخ العائلي ولا تستطيع الطبيعة ان تمنحه العلاج اللازم نتيجة لإخلاله بها. فالتكامل الإنساني الطبيعي يجب عدم الاستهانة به فهو يلبي حاجة الإنسان حتى المرضية ويجد داخل البيئة ما يسكن ذلك المرض، ولكن عند التمرد على الطبيعة ومحاولة سد الحالات الإنسانية بطرق أخرى ستضطر إلى البحث عن طرق أخرى لمعالجة الأمراض التي تنتج عن بعدك عن الطبيعة.

اما حديثنا عن الوعي الاستيعابي للمرأة فذلك ليس تقليل من ذلك الوعي أو محاولة إبعاده عن أداء دوره، ولكن علينا استيعاب طريقة عمل ذلك الوعي ومحاولة عدم خروجه من الإطار الكلي للتكامل الإنساني الطبيعي، وليس مساعدته في الخوض معه في منح الحالات الإنسانية من أكل وشرب وغيرها قيم إنسانية تصبح بديل عن الممارسة الإنسانية الإنسانية. فالاستحمام هو لإعادة نشاط جسد الإنسان وإزالة الإرهاق. وكذلك الأكل كل ما كان ينتمي إلى البيئة كل ما كان يلبي حاجة الإنسان أكثر من غيره وكل المجتمعات على مر التاريخ أنتجت مائدتها الكاملة دون الحاجة إلى معرفة نسب البروتينات والفتمينات وغيرها. (فكسرة وسلطة وملاح ويكة وبعدها كباية شاي تمنح الفرد ما تمنحه له الوجبات الأخرى لولا الوعي القيمي للماكولات)
وأخيرا إذا استطاعت الإنسانية استيعاب وعيها الجيني واستخدام عقلها لايجاد كلية إنسانية وليست كلية طبيعية يتم ترتيب الإنسانية من خلالها، اذا فعلت ذلك تستطيع ان ترجع الحالات الإنسانية إلى مكانها الطبيعي كممارسة اجتماعية فقط وليست قيمية وتستطيع ان تعيد استيعاب ذاتها ككل بعيدا عن التغريب الذي تعيشه الإنسانية وكذلك يمكنها ايجاد تعريف مغاير للأمراض والعلاج وغيره.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..