المحارب.. رواية.. الحلقة السابعة

– نعيما سيد اشرف.. ها انت تخطو اولى خطواتك للانضمام لقوات الشعب المسلحة السودانية، وغدا سنراك فارسا لا يشق له غبار يجندل الاعداء يمنة ويسرة فى ميادين القتال، قالها صلاح بمرحه المعهود والذى لمسه اشرف منذ لحظة تعرفه عليه.
– شكرا صلاح.. سعدت جدا بمعرفتك وارجو ان تدوم العلاقة بيننا.
– ارجو ان تحاول التكيف مع الواقع الجديد حتى تستطيع التغلب على ما تعانيه من هم وحزن.
– ليتنى استطيع ذلك.. قالها اشرف بنبرة يائسة ثم انصرف مستأذنا صاحبه، وتوجه الى المستودع لصرف ملابس التدريب.
– لنا لقاء.. بل لقاءات ولقاءات، قالها صلاح ضاحكا ثم انصرف هو الآخر.
يقع المعسكر الذى سيتدرب فيه صاحبنا فى المنطقة الصحراوية شمال غرب مدينة ام درمان، ويحتل مساحة شاسعة اهلته لان يكون المعسكر رقم واحد فى استقبال المجندين الجدد سواء كانوا من النظاميين، او طلاب الشهادة الثانوية، او اولائك الذين يتم القبض عليهم من الشوارع والاسواق والاماكن العامة ويجبرون على دخول الجيش عنوة ويساقون له بصورة تعسفية، بحجة الزود عن الدين والعرض، فالبلاد مستهدفة من قبل دول البغى والاستكبار، أو كما كان يحلو لولاة الامر ترديده على الدوام، لذا كان المعسكر يفيض على سعته بالمجندين من الشباب الذين جيئ بهم من مختلف الاعمار، ولما كانت المبانى التى شُيدت قبل عقود خلت قد ضاقت مساحتها على الاعداد الكبيرة من المجندين الذين تزايدت اعدادهم بصورة لم يسبق لها مثيل منذ اعلان الجهاد على ابناء الوطن الواحد، كان لا بد من التفكير فى ايجاد حلول سريعة وغير مكلفة لاستيعاب اكبر كمية من المستجدين، فنُصبت الخيام فى وسط واطراف المعسكر، علاوة على ضم بعض الثكنات التى كان يسكنها الجنود العاملون بالمعسكر.
فى حياة المرء- اى امرء- لحظات فاصلة قد تغير مجرى حياته تغييرا جوهريا، فيتبدل واقعه من النقيض الى النقيض، وتتحول حياته من الاحسن الى الاسوأ او العكس، فتتأثر بذلك مفاهيمه وافكاره ورؤاه واحاسيسه .. فالحياة مهما تبرجت بمفاتنها، او تزينت بمباهجها لابد ان يعكر صفوها شئ من حدثان الدهر .. والنوائب عادة ما تسير مع الانسان حذوا بحذو، فالسعادة والشقاء، والفرح والحزن، والطمأنينة والخوف، والسكينة والالم، والراحة والنصب، كلها اضداد يأخذ منها كل شخص نصيبه بالقدر الذى تفرضه عليه المشيئة والاقدار.. والحياة فى عمومها لا تستقر على حال، فأشرف الذى نشأ وترعرع فى جو الريف الوادع، وينام ويصحو على روعته وهدوئه وسلامه وطمأنينته، ما كان يتخيل ان حياته التى الفها ? على بساطتها ? سيغيرها طارئ، وما تخيل يوما نفسه داخل الملابس العسكرية، فهو لم يسمع فى حياته صوت طلق نارى الا عبر البرامج التى يبثها التلفزيون صورا حية من سوح المعارك التى يدور رحاها فى الجنوب زهاء العقدين من الزمان.. فهو المزارع البسيط ابن المزارع الذى يحيا حياة الريف بكل تفاصيلها البسيطة، ويمضى جل يومه فى حقله مع الخضرة وجداول الماء الرقراقة التى تنساب فى دعة لتروى شبق الارض الظمأى، فتنبت خيرا ونماء وتزدهى خضرة وبهاء.
مالت الشمس الى المغيب وتلاشت الظلال، وتأبط الافق الحزين كآبة رسمت معالمها بشاعة الشفق الدامى، واشرف الحزين الذى كان يمتع ناظريه بلوحة الغروب عندما يحتضن الافق الشمس مقبلا جبينها فى شوق ولهفة، وهو بمزرعته وسط الخضرة ورقة النسيم، ها هو ينظر الى الغروب بمنظار اسود حجب عنه روعة مشهد الكثبان الذهبية وهى تبتلع قرص الشمس كوحش جائع يلتهم فريسته.
حمل اشرف ملابسه الجديدة وتوجه نحو مكان اقامته وقد احس بالم فى راسه واعياء لم يحسه من قبل، فهو ومنذ ليلة البارحة لم يذق طعما للراحة فوصل الى هناك ووجد صلاح قد سبقه، وضع بطانيته التى حملت رقمه، ثم فرشها على الارض ووضع عليها ملابسه الجديدة ثم ذهب بصحبة رفيقه الى مكان الوضوء، توضآ وصليا المغرب جماعة ومن ثم ذهبا وتوجها الى حيث جلست المجوعة التى سيتناولون معها الطعام كما رُتب لهما، كانت المجموعة قد تحلقت فى حلقة دائرية، وبدأ افرادها فى برنامج التعارف، ذكر كل واحد منهم اسمه وبلدته، وجاء الدور على اشرف، فعرف نفسه وهو يمسك براسه إذِ اشتد به الالم، لم ينتظر حتى يتعرف على بقية الرفاق، فنهض وذهب الى العنبر بعد ان اعتذر عن مواصلة الحديث.
والعنبر الذى سيضم اشرف ورفيقه صلاح هو فى الحقيقة عبارة عن خيمة واسعة نصبت قريبا من حدود المعسكر الشمالية فى مساحة تزيد على المائة متر.. وصل اشرف الى هناك ثم استلقى على ظهره وقد احس بان الصداع قد ازداد حدة فاغمض عينيه من شدة الالم ووضع يده على جبينه وبقى على هذه الحال الى ان عاد رفيقه صلاح.
هيا يا اشرف قم لتناول العشاء.. قالها صلاح، ثم وضع الصحن على الارض..
– ليس الآن، اشعر بان راسى سينفجر من شدة الالم، لا استطيع ان اتناول شيئا الان..
– سأذهب الى المتجر لاجلب لك مسكن.
خرج صلاح مسرعا حاثا خطاه، وتوجه صوب الدكان الذى يقع فى ركن قصى من اركان المعسكر وفى بضع دقائق كان هناك فطلب من البائع اسبرين او اى من الاقراص المسكنة فناوله قرصين من (البنادول ) اخذها ثم قفل راجعا الى حيث يرقد اشرف.
وصل عند اشرف الذى كان يتألم بصمت، ووجد معه اثنان آخران جلسا بجانبه، فناوله البنادول مع قليل من الماء .
نهض اشرف متثاقلا وأخذ البنادول والقى به فى فمه واتبعه بجرعة من الماء ثم استلقى مرة ثانية وقد بدت على وجهه الشاحب آثار الاعياء، والارهاق.
لا يعلم اشرف كم مر عليه من الوقت وهو نائم، فقد هب من نومه على صافرة النداء عند التاسعة مساء وهو موعد الطابور المسائى، فأفاق والعرق يتصبب من جسمه كله تقريبا، واحس ان الالم قد سكن قليلا، ففتح عينيه ووجد صلاح بجانبه فهب واقفا ومن ثم تحرك الى خارج الخيمة بصحبة صلاح ثم توجها الى حيث اصطف المجندون.
كانت هذه اول ليلة فى المعسكر لاشرف وهى بداية لليال اخر سيمضيها هنا، فشعر بتعاسة شديدة وهو يفكر فى ذلك، فقال لصلاح: الديك فكرة عن فترة التدريب؟ رد صلاح ضاحكا شهر او خمسة واربعون يوما لمثل حالاتنا هذه، واستطرد: اما فى الحالات الطبيعية فلا تقل عن الثلاثة اشهر.
– ان لم يكن الا ليلتنا هذى لكفانا.. همس بها اشرف فى ضيق وتبرم وهو ينتظم الصف الذى انتصب افراده فى خط مستقيم انتظارا لمحاضرة (التعلمجى ) التى لا توجد فيها ولا كلمة واحدة ذات فائدة.
أوتدرون لماذا انتم هنا؟ لا اريد إجابة من احد.. انا هنا الذى يسأل ويجيب.. قالها المعلم، وهو المتعارف عليه فى عرف العسكرية بـ (التعلمجى ) ومنذ الآن سندعوه بتلك الكنية، قالها وهو يتلاعب بعصاة كان يحملها فى يده . انتم هنا لانكم اصبحتم عالة على المجتمع يا رعاع..
صفا.. ايينتباه.
الى اليمين در.
صفا ايينتباه.
الى الشمال در.
انتباه.. أوتدرون؟ جزمتى هذه خير منكم يا اشباه البشر!.. استمر التعلمجى فى الاستخفاف والقاء مثل هذا الكلام والاسئلة السخيفة التى لا تمت الى الواقع باى صلة، ويجاوب اجابات اكثر سخافة.
ما يقارب الثلاثة ساعات تبادل فيها التعلمجية الادوار بذات الكلام (الفارغ ) مع قليل من (البيادة ) – وهى حركات رياضية ذات طابع عسكرى محض – طوال هذه الفترة والتى عدها شهورا كان اشرف يفكر فى حنان وحالتها التى تركها عليها . وما ان كان احد من اخوته قد وفد اليها ام لا ، لم يكف عن التفكير الا حينما سمع كلمة انصراف حال نطق بها التعلمجى عند منتصف الليل.
انصرف برفقة صلاح وعادا الى مكان نومهما وهو يحس بان ساقيه لا تستطيعان حمله، وما ان وصل الى فراشه حتى ارتمى عليه فى تهالك، ولم تمر دقيقة او دقيقتان حتى راح فى سبات عميق.
نهض على صوت الصافرة عند الخامسة فجرا وكانت امامه ساعة من الزمان على موعد الطابور الصباحى فذهب واخذ حماما دافئا اعاد اليه نشاطه ومن ثم توجه الى المسجد ليؤدى صلاة الفجر.
خرج من المسجد بعد ان صلى مع الجماعة ووجد صلاح بانتظاره فسارا الى حيث يجتمع الرفاق بجانب البوفيه لشرب الشاى.
رشف رشفة من الشاى ولكنه لم يستسغ طعمه الا انه كان مضطرا الى شربه فقد كان جائعا إذ بات ليلته دون ان يتناول شئ من الطعام فقال لصلاح: لقد فارقنا حياة الدعة ، فالاكل هنا جشب لا يستساغ، والشرب من مياه تلك الصهاريج، والتى تكون شديدة الحرارة عند منتصف النهار.
– سنعتاد على ذلك فى غضون يومين او ثلاث عليك بالصبر، قالها صلاح وهو يرشف آخر رشفة من كوبه.
– الى ان يحين ذلك علينا ان نتحلى بالصبر، وما أمر الصبر على امرء فى مثل حال اشرف.
حان موعد الطابور الصباحى والذى (يُرفعُ فيه التمام ) ? فيتم حصر المتدربين وبعد ان يتم ذلك يقومون بتأدية الحركات الرياضية (البيادة ) ومن ثم القيام برياضة الجرى التى لاتقل مسافتها عن خمسة او ستة كيلومترات ذهابا وايابا.
الساعة السادسة صباحا.. الثالث والعشرون من يوليو 2002، صافرة النداء يملأ زعيقها المكان، فيتردد صداها داخل اسوار المعسكر الكبير.. خرج عند سماعها المتدربون من عنابرهم زرافات ووحدانا فى زيهم البيجى الموحد، والذى اختيرت قماشته من البفتة، وزى التدريب عادة ما يكون عبارة عن قميص قصير الاكمام حيك بدون ياقات ويتدلى الى ما فوق الركبة بقليل، وسروال من ذات القماش واللون.
جاء جنود المستقبل من كل ارجاء المعسكر بعضهم جاء نشيطا، وبعضهم تبدو عليه سور الارهاق والضجر.. جاءت جموعهم وشغلت مساحة كبيرة، ولم تمض دقائق حتى اعتدلت الصفوف فى خطوط مستقيمة استعدادا لتلقى اشارة المعلم بالبدء فى برنامج التدريب.
نظر اشرف الى صلاح فى زيه الجديد الذى زاده وسامة على وسامة، فصلاح فارع الطول، مفتول عضلات اليدين تبدو على وجهه آيات الطيبة والنبل والاصالة، فقال اشرف مداعبا رفيقه: تبدو وسيما فى زيك الجديد، رد صلاح
ضاحكا: وماذا تفيد الوسامة فى مثل حالنا هذى .. غدا ستذوى حرارة الشمس هذه النضارة التى اكتسبها الجسم من حياة الدعة فى السعودية.
ايييينتباه.
انتبه الجميع لهذا الصوت الذى خبروه جيدا.. فبدأ التعلمجى حديثه كالعادة بالقاء بعض الاسئلة والاجابة عليها بنفسه، وازدراء المستجدين والاستخفاف بهم، ثم بعد ان شبع سخرية منهم، امرهم بالركض بعد ان حدد لهم الوجهة والمسافة التى سيركضونها.
انطلقت الصفوف وهى تردد فى (الجلالات ) والتى جاءت مفرداتها من ادب البيئة العسكرية فهى بمثابة الحداء الذى يرفد المجندين بالدافع المعنوى، فتحفزهم على الجرى، وتمدهم بالقوة فلا يشعرون بالتعب او الملل عند ترديدها، منها الطريف المضحك، ومنها الجاد الذى يدعو لدك العدو، ومنها الذى يخدش الحياء، وكلها بمختلف كلماتها ومعانيها والحانها انما تمنح قائليها دافعا قويا لاجتياز المسافات الطويلة دون ان يشعروا بالتعب.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..