لا تؤجل حب اليوم إلى الغد!

غادة السمان

يوم 5 آب/أغسطس صدر في «القدس العربي» عمودي المألوف «لحظة حرية» بعنوان: ابنة القدس رندة الخالدي: امرأة لا تنضب.
ولم أكن أدري أنها لن تطالع سطوري ويسرها أن روايتها أعجبتني كما أعجبتُ بها دائما أستاذة لي في الجامعة السورية وأول امرأة أستاذة فيها..
فقد أرسلت لها المقال بعد صدوره عبر مكتب منشوراتي و«دار الطليعة» في بيروت إلى الصديقة المثقفة حنيفة الداعوق سلام (ابنة عم زوجي) لتتكرم بإيصاله إلى رنده التي التقيتها قبل نحو عامين في وليمة نسائية للغداء في فيللا العزيزة حنيفة في بيروت. وتوقعت أن تتصل بي رندة الخالدي إثر قراءتها للمقال، لكن التي اتصلت بي هاتفيا هي العزيزة حنيفة وسألتها بلهفة: هل أعجبك المقال؟ هل أرسلتِه إلى رندة.
قالت حنيفة بحزن: عندي خبر لن يسرك عن رندة..

لن تدري أنها كانت روائية رائعة!

توهمت أن رندة مريضة لكن نبرة صوت حنيفة كانت تقول بلا صوت: لقد ماتت..
قلت لحنيفة: لا.. لا تقولي إنها رحلت.. همست حنيفة: نعم..
ودعتها وختمنا المخابرة في لحظة حزن مشتركة، لكنها مشوبة بالندم الكبير عندي. لقد أهدتني أستاذتي رندة روايتها بعنوانها غير العادي: «سيرة غير بطولية» منذ أشهر ووصلتني من بيروت مع إهداء أخجلني فيه تواضعها إذ كتبت: «إلى ملكة الرواية العربية، بتواضع»!
هذه رندة الخالدي أستاذتي تعلمني حتى بعد رحيلها «درس التواضع» بعد درس الشجاعة إذ لا أخفي أنني شعرت بالخوف في اليوم الأول الذي دخلت فيه إلى الصف أستاذة جامعية لا تلميذة، وتذكرت وقفة رندة الرائدة على المنبر في مواجهة تلاميذها (وكنت منهم) وتشجعت وأقدمت. هذه رندة التي حدثتني في الوليمة عند العزيزة المشتركة حنيفة داعوق سلام عن رواية «سيرة غير بطولية» التي تكاد تنجزها وقلت لنفسي: هل بوسع كاتبة/كاتب تجاوز الثمانين من العمر أن يبدع في رواية كبيرة أولى؟؟

تلك الفلسطينية/اللبنانية/السورية سنفتقدها

رندة أثبتت حتى بعد موتها أنها امرأة لا تنضب! وأنا نادمة لأنني تركت روايتها على طاولتي شهورا ولم أجرؤ على قراءتها. أعترف أنني توقعت ألا تكون كما أشتهي وقد وعدت رندة بالكتابة عنها، لكنني مع الأبجدية النقدية أعجز عن السقوط في «فخ المجاملة» أو كتابة ثرثرة لا تعني شيئا حقا نطالعها في الكثير من المقالات النقدية.
خفت من الرواية شهرا بعد آخر. ثم قررت حسم الأمر، وطالعتها وبالأحرى التهمتها وأدهشتني موهبة رندة الثمانينية وريادتها، فبطلتها في التاسعة والسبعين وليست «لوليتا» عربية وكانت رندة «رائدة» في اختيار بطلة عربية مسنّة، أما السلك الديبلوماسي فقد عرته من الداخل ووجدناه (السيرك الديبلوماسي). وكانت رائدة في ذلك أيضا.

مقبرة النوايا الحسنة!

توقعت أن تصلها مقالتي. ولم يخطر ببالي أنها سترحل في اليوم ذاته الذي بدأت فيه في كتابة مقالي عنها!.. لقد اقترفت غلطتي الأبدية الدائمة التي يشاركني فيها الكثير من الناس وهي نسيان أن من نحبهم قد يختفون في ومضة عين.. إنها غلطة نسيان السيد الموت: موتهم وموتنا. وعلينا أن نعلن عليهم حبنا قبل أن يرحلوا ونندم.. أو نرحل!
أنا كعادتي الخاطئة أتوهم أن ثمة وقتا.. وأقصر.. وأتوهم أنني سأرمم تقصيري غدا.. وأنسى.. ويموتون للأسف قبلي.. وأندم.. وأقسم ألا أكرر هذه الغلطة ثانية لكنني أكررها كما يفعل البشر جميعا في مقبرة النوايا الحسنة.. وليس ثمة من لم يندم لرحيل عزيز (أم ـ أب ـ أصدقاء) ولم يقل لهم كم كان يحبهم حتى بعد فتور لشجار عابر مثلا..

الآن، أجراس الحب فلنقرع!

لقد كتبت في مقالتي عن رندة (التي لن تطالعها) الحد الأدنى من إعجابي بها.. فلما نتوهم أن كبت العواطف الإيجابية ميزة؟ لما لا نقول للذين نحبهم كم نحبهم وكم نعجب بهم وتعلمنا منها واشتد عودنا بمحبتهم؟ لما لا نقول لهم ذلك الآن، الآن وليس غدا، أجراس الحب فلنقرع؟ لما نؤجل حب اليوم إلى الغد؟ أعترف أن الندم على الخطأ في التوقيت مع إعلان حبي لأستاذتي رندة لن تغسله عن قلبي بحار العالم، نقلا عن شكسبير في مسرحية ما كبث: وأتذكر أيضا صرخات الملك لير الملتاعة: ابكوا.. يا لكم من رجال من حجارة ويبكي قلبي في صمت فقد كانت رندة الخالدي أستاذتي هي التي عرفتني كطالبة ماكبث.. وبالملك لير!! وأتذكر الآن قول صديق زوجي خلدون ساطع الحصري في «ديوك أوف ولنغتون» في بيروت وكان يرافقه باستمرار كلبه الوفي، قوله وبلهجته العراقية: «مينو أبو باشر» أي: من هو والد الغد؟.. وأتذكر الآن القول بأن ضربات القلب هي قرعات الطبل الذي يقودنا إلى.. المقبرة، وأكرر إن حياتنا كلها جلسة في المقهى المجاور للمقبرة. يبقى أن نتذكر ذلك ولا نؤجل قول كلمة «حب» إلى الغد.. كالبشر جميعا نسيت زيارات السيد الموت، وهو الذي لا يترك بابا إلا ويقرعه!..

«إجازة» ولكنها كتابية أيضا!

سيغيب عمودي «لحظة حرية» عن قراء «القدس العربي» في شهر أيلول/سبتمبر لأنني سأعمل على إنجاز كتابي الجديد وتسليمه للمطبعة، وسأعود ـ بإذن الله ـ مع مطلع شهر أكتوبر/ تشرين أول.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..