رواية “في مكان ما”…. الكاتبة والكتاب! (2)

(هذه رواية مكتملة الجوانب من حيث الحبكة واللغة وسرد الأحداث والموضوع.)
“الأستاذة عائشة موسى”
تناولت الحلقة الماضية جانباً من سيرة الكاتبة ملكة الفاضل، وبعض العوامل التي أثرت في تكوينها الفكري والأدبي. وما لم نقله فيما سبق هو أن الأستاذة ملكة الفاضل لها ارتباط خاص بكيان الأنصار وحزب الأمة بحكم الصلات المكانية والأسرية؛ وهذا ما جعل رواياتها تأخذ منحى سياسياً بشكل واضح المعالم، بيد أنها لا تفتعل ذلك وإنما تعبر عن مشكلات واقعية، مما يجعل قصصها تنبض بالحياة والحيوية والحركة. وعلى سبيل التوضيح لما ذكر، تدور أحداث روايتها الأولى (الجدران القاسية) لتحكي تجربة محامي، لم يكن له نشاط سياسي يستوجب اعتقاله، ولكنه مع ذلك أُخِذ من بيته ليلاً، ليقضى فترة من الزمن، في غياهب السجون، بينما لم يكن ذوه يعلمون عن مكانه شيئاً. وباسترجاع حياة ذلك المحامي وطفولته، عبر التحريات والتحقيقات، تتكشف حقائق مذهلة كثيرة، حتى تنتهي الرواية ببراءة المحامي ومن ثم إطلاق سراحه. وروايتها الثانية، التي هي قيد التدارس، تتناول أيضاً موضوعات ذات صلة بالأحداث السياسية والتحول الاجتماعي في السودان، بأسلوب سردي ماتع. وقد صدرت رواية (في مكان ما…) في هذا العام 2016 ونشرتها دار “مدارك” للطباعة والنشر بالخرطوم. وكما هو واضح فإن هذا العنوان يشوبه شيء من الغموض؛ ولكنه يتناسب تماماً مع مضمون القصة، وتحركات أشخاصها ما بين مكتب صغير في الخرطوم وأطراف السودان النائية، حيث توجد معسكرات النازحين الذين شردتهم الحروب والصراعات المسلحة. وقد يبدو العنوان مستفزاً للقارئ، وكذلك الغلاف برسوماته المبهمة ولونه الأزرق الذي له دلالات معروفة عند دارسي الأدب وعلم النفس؛ إذ إنه يرمز لعمق الفكرة والهدوء وبرود الأعصاب وربما أشياء أخرى تتعلق بالجوانب النفسية غير الواضحة! وهو يدل أيضاً على الشخصية الهادئة والمتحفظة، ذات القيم والطموح، التي تنسجم مع كل مكان هادئ، مثل شخصية الكاتبة نفسها، التي تترجم الحياة ترجمة مثالية راقية وتعكسها بأسلوب قصصي حديث ومعبر، مقارنة مع بعض الكتابات التي صدرت لكثير من كتاب الراوية من السودانيين. وباختصار نستطيع القول بأن هذا العنوان غير نمطي، ويرتبط مع محتوى الرواية بدرجة كبيرة؛ لأن أحداث الرواية لا تستقر في مكان واحد بل هي في حركة انتقال دائم. ليست هنالك إشارة لتاريخ محدد ولكن من الواضح أن الرواية تتعلق بواقع الحياة في السودان الآن في جوانبها كافة؛ خاصة السياسية والاجتماعية والأسرية إلى حد ما. وقد أهدت ملكة الفاضل الرواية إلى أمها بديعة يوسف هباني. أما من حيث أسلوب السرد فقد استطاعت الكاتبة أن تختفي وراء عملها وتركت المجال فسيحاً لحركة الأشخاص بحرية ضمن علاقات تربطها الأفعال في حركة نامية وزمن متحرك بين الماضي والحاضر والمستقبل مستخدمة تقنية الاسترجاع والاستباق. ويعد الاسترجاع من أكثر التقنيات السردية تجلياً في الرواية، ويتضح من علاقة نوال مع وجدي شفيق، زميلها في الجامعة، الذي ارتبطت به عاطفياً، ولكنه تزوج غيرها، وظلت صورته وهيئته تتبدى لها، من حين إلى آخر، كأنها في حالة صدمة عاطفية جارفة، وتتأتى أهمية الاسترجاع هنا من كونه تقنية تتمحور حول تجربة الذات. في واقع الأمر تمثل رواية ملكة الفاضل “في مكان ما” قيمة مضافة للرواية السودانية لأنها تنتقل بالعمل الروائي من تناول ومناقشة قضايا محلية تقليدية تخص مناطق بعينها إلى مناقشة قضية تهدد أمن السودان واستقراره؛ وهي تحديداً قضية النزاعات المسلحة وما ارتبط بها من دعاوى التهميش وتمرد بعض المناطق الطرفية ضد الدولة والمركز، وما تبع ذلك من تداعيات تمثلت في التدخل الأجنبي السافر في الشأن الوطني عبر وجود المنظمات الدولية التي تخدم أجندة معقدة جداً وخفية تتعارض بالضرورة مع المصلحة العليا للبلاد، كما تهدد النسيج الاجتماعي وتلقي بظلال كثيفة ومخيفة على استقرار المجتمع وتماسك كيانه. هذه المنظمات، مثل “إنتتي” تمارس أعمالاً لا يقرها القانون لأنها تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان وكل ذلك يتم تحت ذريعة العون الإنساني المزعوم. من حيث اللغة استخدمت الكاتبة اللغة العربية الفصحى حتى في الحوار بين الشخصيات، وحسب رأي لو أنها عمدت إلى العامية في الحوار لأعطت الرواية نهكة سودانية خالصة ولكانت أكثر واقعية؛ لأن الناس عادة يتحدثون بالعامية في الحياة اليومية. ومما يلاحظ على الرواية أن المؤلفة تميل إلى ذكر أدق التفاصيل دون أن يسبب ذلك الملل لدى القارئ لأنها تفاصيل تمليها الضرورة السردية حتى تكون الأحداث أكثر ترابطاً. وبجانب الأفكار الرئيسة للرواية تتناول الكاتبة بعض جوانب التحول الاجتماعي في السودان مثل وجود الأجانب من غربيين وعمالة وافدة من دول الجوار، والزواج السري الذي يمارسه بعض كبار الشخصيات، وتشير أيضاً إلى بعض المفاهيم مثل الشفافية وتغول المؤسسات المالية على ممتلكات العملاء المعسرين. هذه الرواية تعد تجديداً لدماء الرواية السودانية، نظراً لوعي الكاتبة بفن الرواية، الأمر الذي يضمن لملكة الفاضل مكانة مرموقة في تاريخ الرواية في السودان.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..