حلاقة شعر

بسم الله الرحمن الرحيم
حلاقة شعر
قرأت قبل فترة علي موقع سودانايل الإلكتروني خبر ملخصه ( قيام جنود من الشرطة العسكرية بحلاقة عدد من الشباب (أصحاب الشعر الطويل المنسدل) صلعة بالمقصات والأمواس وماكينات الحلاقة التقليدية بعد إجبارهم على الجلوس في وسط الشارع) انتهي، لسوء حظهم أو مصادفة في ذلك اليوم التعيس والزمن العبوس وتحت أنظار المارة!
والخبر كما سبق ذكره لا يحتاج الي تعليق فهو يعبر عن نفسه وعن المرحلة التي تمر بها البلاد ومكانة المواطن العادي لدي السلطة الحاكمة بأمر الله، وأعتقد أن هذا التصرف هو تصرف فردي من وحي خيال اورغبة او وعي هولاء الجنود للقيام بهذا الفعل العجيب! وليس بتوجيه من الجهات النافذة الحذرة والخائفة علي الدوام، وذلك ليس حبا او عطفا علي المواطنين العزل، ولكنه يمثل تحوط من أن تشعل مثل هذه التصرفات الطائشة براكين الغضب والمرارة الكامنة في النفوس وممتدة بعمر النظام، وتحرق أوراق وأفرع وسيقان شجرة النظام الجافة وعروقها المتيبسة وتقتلعها من فوق الأرض جزاءً وفاقا، وإنما هذا المسلك يرجع في إعتقادي الي العقلية او النفسية الملتبسة التي تتمظهر بوضوح في آلية بناء القرارات المضطربة والمشوشة التي أصبحت تسم وتتحكم في قطاع عريض من المنتمين لهذا التنظيم الخرافي(من الخرافة والدجل) كأفراد ومجموعات مهما كانت الدرجة التي يشغلها الفرد او المجموعة في هذا التنظيم بكل تقسيماته وتنويعاته او مدي قربه او بعده منه، وبتعبير آخر أن مزاج ونفسية هولاء الجنود أصبحت تمثل القِيَّم والشروط التي يجب ان تتبع من قبل الآخر (المواطن غير المنتمي لهم) أي مقاييسهم الذاتية(وهي بالتأكيد تعبر عن مصالحهم بوعي منهم او بغيره) تصبح هي المعيار الذي يقاس او يعاير به سلوك الشعب وطريقة عيشه ولبسه ومظهره…الخ وبالتالي يصبح ذوقهم ودرجة وعيهم وسلوكهم مهما كانت درجة عقمها ومفارقتها للواقع هي المرجعية العليا، وببداهة الامور يصبح ضيق مصالحهم ورغباتهم هو المسيطر والسائد علي إتساع حوجة وإحتياجات وحقوق أفراد الشعب، ولتحقيق هذه الغاية المفارقة والصورة الكاريكتورية المبكية يستدعي ذلك تقزيم وتجريم وتنجيس أفراد الشعب ومعاملتهم بوصفهم في حالة طفولة أبدية تحتاج الي رعايتم وحمايتهم من شر أنفسهم أو أن يسببوا لغيرهم الأذي الذي لا يقدرون حجم الأضرار المترتبة عليه، والأبعد من ذلك والأكثر أسف أن كل عاهاتهم وعقدهم النفسية تصبح هي المحرك الفعلي لأنشطة ادمغتهم ورغباتهم النفسية المشوهه وبما يملكونه من سلطة شبه مطلقة يحاولوا فرضه علي واقع شديد التباين والمفارق لتصورهم الأعمي، وعند حدوث الممانعة او إستحالة المطابقة بين التصور والواقع كما هو متوقع، يبدأ تحريك غرائز العنف والقهر لتنفيذ هذه المهام الرسالية أو إسقاطها عنوة علي ارض الواقع الذي يتخذ في ذهنهم حالة واحدة وعدائية تستحق السحق والتربية أو إعادة الصياغة بتعبيرهم الخاص ليتفق مع فكرتهم المسبقة وقوالبهم الجاهزة عنه.
وهذا الموقف(عملية الحلاقة) لا يختلف كثير عن حادثة جلد فتاة الفديو(اليوتيوب) الشهيرة السابقة، بصورة إنتقامية ومهينة تحت مرأي ومسمع حشد من الجماهير يعشق حب الإستطلاع وتستهويه الدراما والفانتازيا واللامعقول ليشغل بها فراغه العريض وهو مسلوب الوعي والإرادة، ويتعاطف مع الجلاد ضد الضحية التي تصبح موضوع للفرجة وقضاء الوقت والقيل والقال من غير اي تفحص واستكناه لكل ملابسات القضية والظروف المحيطة، لوضع الامور في نصابها الصحيح وسياقها المعقول بيعدا عن التشنج وإصدار الاحكام المسبقة والتهم الجزافية و لا نقول إحقاق العدالة لغياب هذا اللفظ أو المصطلح عن واقع شديد الجور والظلم علي الضحايا الذين لا يعلم عددهم إلا الله، والمفجع والمبكي في آن ان يتم تنفيذ ما يتوهمونه حدا شرعيا وهم يصورون ويستعجلون الضحية (إمرأة للركوز) حتي لا تضيع زمنهم الغالي وعلي إيقاع من السخرية والضحكات في إهدار مهين لحقوقها حتي لو سلمنا جدلا بصحة أحكامهم (وذلك يعود لتجريدها من كونها إمرأة سودانية تربت في حضن أسرة ومجتمع سوداني يميل الي إحترامها و حمايتها علي الأقل جسديا، ويستنكر إهانتها أو ضربها خاصة أمام الأغراب اي بعيدا عن دائرة الاسرة، ولم يضع في حسبانه الأثر النفسي السيئ الذي يطال اسرة الضحية في مجتمع محافظ يتعامل مع الخطأ كعيب لا يسمح بعلاجه بل ببتره بصورة عنيفة جسديا ومعنويا اذا عجزت الأسرة عن علاجه خفية وظهر للعلن وذلك بعد تلبيس كل الاخطاء شبهة الجنس، بالطبع هذا الحديث يحمل تناقض يعبر بدوره عن تناقض المجتمع). وبعد تمزيق جسد الضحية تحت لسعات سياط وأنياب هذه الذئاب البشرية وإلتهام هذه الوجبة الهنية وإسدال الستار علي هذه المسرحية العبثية الهزلية، وظهور هذه الجريمة الكاملة علي موقع اليوتيوب وإستنكار قطاع عريض من كرام المواطنين في الداخل والخارج لأحداث هذه الجريمة النكراء، تباري رئيس النظام وإركان حربه ودعمه في الفارغة والفارغة( لا يوجد مليانة) الي تبرير هذا الصنيع الوحشي، هنا بالذات تحدث المفارقة العجيبة التي تسكن رؤوس أفراد هذا التنظيم وتتلبسهم حالة من الوصاية الجبرية علي الشعب القاصر وهزيان الرسالة المقدسة التي يحملونها والمناط بهم تبليغها الي هذا الشعب الضال، لتعليمه وتهذيبه وقيادته الي طريق الهدايه وتطبيق الشريعة عليه، وتاليا هم أعلي من تلك الشريعة أي لا تنطبق عليهم، وبقول آخر سلوكهم وتصرفاتهم خارج الشريعة وهم فقط وكلاء او تنظيم الله المختار لتطبيقها علي الشعب، في تماهٍ خطير مع مصدر الشريعة أو علي الأقل أعلم بمقاصد الشريعة ومعرفة مدلولات النصوص المقدسة علم يقين لا ياتيه الباطل من بين يديه، والنتيجة كل عمليات النهب والظلم والكذب والإرهاب والقتل والإغتصاب وغيرها من الموبقات يتم إعادة تفسيرها وإنتاجها بصورة مغايرة لحقائقها بإعتبارها وسائل تمكن من تثبيت شرع الله، وهذا لوحده كافٍ في إعتقادهم ليس لتبريرها فقط ولكن إكسابها بعد ديني إجتهادي ينزع عنها ما رسخ ووقر في الضمير الإنساني الحي عبر خبرته الطويلة من مساوئها وسلبياتها وإنعكاسها التدميري علي الواقع الذي يتحول في ظلها الي خرابة ينعق فيها البوم ويبيض ويفرخ فيها البؤس والشقاء والخوف والقلق وتتحول حياة البشر الي جحيم لا يطاق في ظل هذا الإنقلاب المفاهيمي والخلقي.
وعندما يصل الدمار الي درجات يصعب إغفالها او التغاضي عنها وبدلا عن مراجعة هذه العقليات والنفسيات المشوهة العصابية الشيطانية و إعادة النظر في البرامج المعطوبة الوهمية الرغبوية المجافية للعقل والمنطق والعلمية، يصور لهم شيطان الغواية والتملك والغرور أن ما يحدث عبارة عن مؤامرة من الخارج الكافر وأذياله المخربين في الداخل، وعند هذه النقطة يصاب النظام بالفصام او الإنقطاع عن الواقع او يعيش بطريقة مزدوجة ويتحول العالم والقضايا لديه الي ثنائيات عدو صديق معنا ضدنا كافر مسلم تعمير (في خيالهم) دمار (في الواقع) وهي ثنائية تجعل رؤية أبعاد أخري أو إعطاء النظام نفسه الفرصة لإلتقاط الأنفاس وإعادة التفكير بهدوء في مجمل الأوضاع في حكم المستحيل، أي دخول النظام في طور الأزمة الخانقة التي تعطل وتعيق مجال التفكير وتحد مدي الرؤية وتجعل النظام مفتقد للقدرة علي المبادرة وطرح حلول عملية تنقذ البلاد من الضياع، وهو علي الدوام في حالة دفاع عن النفس وعالي الحساسية والرفض والإنقباض عند سماع كلمات مثل الحوار أو الحرية أو الحديث عن حلول او مشاركة او محاسبة، ويعتبر هذا الطرح وحامليه عبارة عن سباع تسعي لنهش لحمه او تنال من غير وجه حق جزء من إمتيازته التي جناها عبر تعبه وكده وشجاعته وتضحياته عبر عشرات السنين وقدم خلالها أرتال من الشهداء، وهذه في حقيقتها مكنزمات دفاعية تستبطن حالة من الهلع والخوف والإحساس بالذنب وبحجم الأخطاء التي أرتكبت والتي لا يقوي الإنكار و التبرير علي نفيها، وفي نفس الوقت ذهاب السلطة يعني إنكشاف كلي لحالة العري القيمي والتنموي، وبالتالي ضياع كل هذا الرصيد الرمزي والوهمي الذي يمنح لهم، من قبل مجتمع منهك تم تجريده من معظم فضائله وتحويله في أتجاه واحد أكل العيش الصعب، بكل الوسائل وبذل أقصي درجات النفاق لصاحب العمل او الجهة المخدمة وهي غالبا جزء من النظام، أي بقدر درجات المعاناة وإنعدام فرص العمل الشريف تتضخم أهمية أفراد النظام المالكين لوسائل الإنتاج، وتتعاظم أرباحهم كشئ طبيعي لضعف المرتبات وانعدام البدائل والمنافسة وحرمان العمال والموظفين من حق الإضراب والتظاهر واي وسائل ضغط لتحسين أوضاعهم البائسة، والخلاصة تحول النظام وأفراده الي غيلان وأباطرة يحكمون ويتحكمون في شعب تائه محروم مرهق وجائع، وترتفع اهميتهم ومكانتهم وإحترمهم المصنوع من القهر والخوف والنفاق والكره والغبن في ظل هذه الاوضاع المجحفة. لكل ذلك ولغيره أصبح النظام غير قابل للإصلاح وذلك ليس لإفتقاره فضيلة الصدق مع النفس وإعترافه بحجم التدهور وأفتقاده إرادة الإصلاح فقط! ولكن لإنعدام إمكانية إصلاحه بسبب الغائه او تغيبه للدولة بوصفها جهاز حيادي خدمي موجه الي الجميع وتحويلها الي جهاز إنحيازي موجه حصريا لخدمة أفراد النظام وأسرهم ومحاسيبهم وجهاز حمايتهم وبشكل اقل تجاه أصحاب المواقف المتلونة، أي تمت إستباحة جهاز الدولة وإخصاء لقدرته وفاعليته وتحويله الي خيال مآتة ينتظر هبة حقيقية تكشف مدي ضعفه وخوائه وهلاميته. لذلك تمثل أي محاولة لتفكيك هذه المنظومة عبارة عن خط أحمر يقود بقية الحلقات الي الإنهيار وذهاب ريح هذا النظام، وكل ذلك يفاقم من حالة الرهاب والخوف التي تنتاب أفراد هذا النظام الذين يعيشون داخل قصور من الوساوس وكهوف من الرعب، لذلك فهذا النظام يبذل أقصي طاقاته لعكس صورة مخالفة لهذا الواقع القلق الذي يعيش فيه عن طريق إظهار نوع من التماسك بين أفراد النظام من جهة، وإطلاق يد أجهزة حمايته من الجهة الأخري للقيام بما تراه مناسبا بما فيه بث الرعب في قلوب الجماهير وإظهار أقصي درجات الإهانة والوحشية إذا دعت الامور، وذلك بعد تربيتهم علي الفصل الكامل بينهم كذوات متعالية ووصية ومحترمة ومهمة وبين بقية أبناء الشعب المخربين والأقل مرتبة وأهمية, وما يستتبع ذلك من إعادة تأديبهم وتهذيبهم وترجليهم(من الرجولة المحتكرة لديهم) بسبب الوعي الذكوري والفحولي الذي يسيطر عليهم وينعكس ذلك بصورة كبيرة في كرههم للنساء وحطهم من قدرهن وكل ما يمت بصلة اليهن في وعيهم، مثل إطالة الشعر او مضغ اللبان او لبس السلاسل او ليونة الكلام او نعومة الملمس او جمال المظهر او غيرها مما يثير جنونهم اوغيرتهم اوحرمانهم لا نعلم! ويعود ذلك أيضا لسبب غياب مسألة الحريات الشخصية عن ذهنية القطيع التي تحركهم، ومعلوم سلفا أن أي ظاهرة او سلوك في المجتمع طارئ مستجد او قديم مقبول او مرفوض له دوافعه وطريقة تفسيره وعلاجه إذا إحتاج الي علاج، و ذلك عبر الوسائل المتحضرة وعن طريق إخصائين أو أصحاب الشأن اللصيقين بتلك الظواهر ويملكون المعارف التي تؤهلهم للقيام بهذا الدور بعد التنسيق مع كل من له صلة به، بعيدا عن تدخل الأيدي الأمنية الخشنة والعاجزة حسب تكوينها عن قراءة الظواهر او المظاهر قراءة دقيقة وذلك لأسباب عديدة أولاً لأنه غير مجالها و لا واجبها وثانيا لا تمتلك أدوات تحليلها او علاجها وثالثا تفتقد القدرة والكفاءة علي التعامل مع المجتمع المدني من خلال أرضية الندية وبعيدا عن العدوانية والمسارعة بإستخدام ادوات العنف ورابعا التفسير الذاتي للقوانين والسلطات الممنوحة لها أي تلعب دور القاضي والجلاد في نفس الوقت، وتمتلك سلطة تقدير الامور بصورة مطلقة غير قابلة للمراجعة او المجادلة او النقاش مما تستدعيه أي حياة مدنية سليمة وطبيعية، ويساعدها في ذلك سلسلة من الحصانات غير القابلة بدورها للطعن او الإنتقاص! وكل ذلك حول بدوره هذه الأجهزة بمختلف مسمياتها الي دولة داخل دولة وسلطة داخل سلطة أي دولة مركبة وسلطة معقدة تنعد فيهما الفواصل والحدود وتاليا تهدر دماء المسؤولية في هذا التركيب الاخطبوطي الغامض، والخلاصة تمت عملية تغييب كامل للشعب وحقوقه ليس علي مستوي الواقع العملي فقط ولكن علي مستوي عقليات ونفسيات ووعي قادة وجنود تلك الأجهزة المسيطرة اي اصبحت ثقافة تعاملها مع الآخر المواطن، وظهر ذلك بصورة جلية في هذا الفعل الهمجي الإستفزازي المسيطر عليهم وهو فعل حلاقة الشباب في منتصف الطريق نهارا، وهم مدججون بالأسلحة والمقصات لإرسال رسالة تحذيرية وتأدبية لبقية المارة أن تحسسوا شعوركم ورؤوسكم وأرواحكم أن حاولتم الإبتعاد عن الخط المرسوم وهو خط يحددونه لوحدهم وينفذونه لوحدهم، في إعادة مملة لحور الذات الذي يعاد بثه يوميا لأكثر من عقدين من الزمان ويفرض نفسه بقوة في أي طاولة نقاش لحل المشكل الوطني الي يزداد تعقيدا مع مرور الأيام. مما يستدعي إنتباهة جيدة ليس علي مستوي تغيير النظام فقط كأفراد ورموز ولكن الأهم من ذلك تغيير الأطر والهياكل والعقليات التي تنتج مثل هذا السلوك وتبرره نظريا وعمليا، وتجبر بقوة السلطة بقية الشعب، علي القبول والتعايش مع هكذا حالات شاذة باي مقاييس حتي لو رجعية وتجاوزها الزمان! أي التغيير يجب ان يطال القمة والجهاز التنفيذي الذي سيحكم، بأن يتعهد بإلتزامه بالقوانين واللوائح والمؤسسية وأن تحدد الآليات التي تجبره علي إنزال التزامه علي أرض الواقع وطريقة التخلص منه إذا ما اخل بهذا الإلتزام، وعلي القاعدة الجماهيرية ان تتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن حكمها الشرعي ضد أي إنقلابات او تغول علي حقها في حرية التعبير و التظاهر سلميا والمطالبة بحقوها في المشاركة والرقابة والمحاسبة لمجمل العملية السياسية، التي تدل علي نضجها وتحد من حالات الفرعنة والإستبداد التي تنتاب الحكام ورغبتهم الدائمة للبقاء في السلطة مدي الحياة، مما يتيح فرصة اكبر للإستقرار والإنطلاق الي الأمام بعد تجاوز سؤال كيفية الحكم؟ والتوجه بكل الطاقات نحو البناء والتعمير والتنمية والسلام.
عبدالله مكاوي
[email][email protected][/email]