إدوارد لينو .. رحيل علم من أعلام الأدب

برحيله يوم الأربعاء الموافق 15 أبريل 2020م، فقدت البلاد مثقفاً من مثقفيها الأفذاذ. كان ذكياً وحكيماً ودبلومسياً ومتحدثاً لبقاً ومحباً لوطنه وأهله. كان أيضاً سياسياً ساهم في الحراك السياسي وناشطاً في الحركة السياسية السودانية، ومناضلاً من مناضلي السودان، الذين قدموا أفكارهم وطاقاتهم لخدمة قضية الشعب السوداني في حرب التحرير الطويلة منذ بدايتها حتى نهايتها. كان رجلاً اتفقت أفكاره مع المُثل والقيم العالمية التي هي الحرية .. العدالة .. المساواة .. والكرامة لجميع أبناء الشعب السوداني خلال السودان الموحد السابق.
لستُ بصدد كتابة سيرته هنا، لكني أكْتُبُ الَّذِي أعرِفه عنه من مآثر. عمل مرة واحدة كرئيس لإدارية منطقته، منطقة أبيي في العام 2008 و2009، عندما وضعت الحرب أوزارها. ولم يشغل مُنْذُ ذلك الحين أي منصب سياسي حتى لحظة وفاته، لكنه كان صريحاً تجاه كل الممارسات غير السلمية التي مارسها رفاقه ولا يزالون يمارسونها داخل الإدارة السياسية الجديدة التي هي ثمرة نضالهم المشترك في الجمهورية الجديدة.
رحل إدوارد لينو نظيف اليد والسيرة، وخلف سجلاً مثالياً في البطولة والسياسة، وهو إنسان عُرِفَ بشجاعته وصدقه وجرأته في قول الحقيقة، دون تردد وخوف. وهكذا مضى الرَّجُلُ إلى الأبدية دون لومة اللائم أو مَذَمَّة، وسيخلده التاريخ كعضو نشط في حركة سياسية قوية جلبت الحرية والاستقلال لشعب السودان الجنوبي، لكنها اعتراها علة سياسية أرسلتها إلى متاهة سياسية ودوامة من فقدان الرؤية والمسار وغياب برنامج ومشروع بناء الدولة واستفحال الفساد وافتعال حروب عبثية، الحركة الشعبية لتحرير السودان. وإن وصفنا إدوارد لينو بكلمات، نقول إنه إنسان جليلٌ شريفٌ، عزيزٌ، عظيمٌ، محتَرَمٌ، مَثْنِيٌّ عليه، مَقْبُولٌ، مُبَجَّلٌ، مُثْبَتٌ، مُعَظَّمٌ، مُقَرَّبٌ، مُقَرِّظٌ، مُكَرَّمٌ، مُمْتَدحٌ، وهو المَحْمود المَمدوح، له الرحمة.
بوفاته في مدينة بانغلور الهندية، لم تنتهِ حياته كما يبدو حرفياً. في واقع الأمر، ذهب جسدياً، لكنه لايزال باقياً روحياً. إلى جانب كونه مقاتلاً مشهوراً من أجل الحرية، كان مثقفاً عميقاً. كان كاتباً وصحافياً وشاعراً جليلاً. كتب ثلاثة كتب، وستبقيه تلك الكتب على الاتصال الدائم بنا لطالما لانزال نستمتع بأعظم نعم الله، الحياة. ومن هذا المنطلق نقتبس قولٌ مأثورٌ لأحد الكُتَّاب. يقول ذلك الكاتب: “عندما أرحل، أعثروا عليَّ حيث كتبتُ When I am gone, find me where I wrote”. ولطالما أن كاتبنا قد رحل ليرقد في تراب أرضنا الطاهرة بسلام وفي رحمة الله، سنعثر عليه في ما كتبه، وسنتلاقى معه فكرياً من خلال كتاباته. سيأتي أطفال كثيرين لم يُولدوا بعد، سيأتون وسيتفاعلون مع عقله الإبداعي في ما كتبه في كتبه. سيقرأون القصة الجميلة للكفاح والنضال في قصائده.
صدر له ثلاثة كتب باللغة الإنجليزية: الأول تحت العنوان (تحيا القردة) Long Live the Monkeys وهو عبارة عن ديوان شعر، والثاني (جون قرنق دي مبيور أتيم .. رَّجُلٌ عرفته)John Garang de Mabior Atem: A Man to Know ، ويسرد الكتاب قصة تأسيس الحركة الشعبية وسيرة الزعيم الراحل جون قرنق دي مبيور والقضايا الداخلية بالحركة الشعبية طوال سني النضال في الأدغال، والثالث (دينكا نقوك في مواجهة قبيلة المسيرية)، Ngok People Versus Missiriya وهو كتاب يستعرض فيه قضية الصراع على الأرض والموارد بين دينكا نقوك في وقبيلة المسيرية.
مثلما حارب إدوارد لينو ببندقيته، حارب أيضاً بقلمه، فكتب قصائداً في مواجهة صقور الحركة الإسلامية وجبهتها في السودان. في ختام هذا المقال، واحدة من قصائده من ديوانه الموسوم بـ”تحيا القردة”. أترك لكم الفرصة لقراءتها أدناه، بعد الترجمة، تحت عنوان: (عيونٌ ما قبل التاريخ) Pre-historic Eyes والقصيدة إهداء إلى (أولئك الذين يُحَدَّقُون وَلَا يرون). كتب عن السودان في عهد حكومة الجبهة الإسلامية يقول:
عزيزي ..
يَا لَهَا مِنْ فكرةٍ شَيْطَانِيَّةٍ أَشَل!
وَطَنٌ يَبِيعُ نَفْسَهُ بِنَفْسَهُ
وَطَنٌ يَسْلِبُ نَفْسُهُ بِنَفْسَهُ
وَطَنٌ يَنْهَبُ نَفْسَهُ بِنَفْسهُ
وَطَنٌ يَغْتَصِبُ ويَظْلِمُ نَفْسَهُ بنفسهُ ..
قُطْرٌ يَطْعَنُ نَفْسهُ بِنَفْسهُ
قُطْرٌ يَنْحَرُ نفسهُ بِنَفْسَهُ
قُطْرٌ يَسْلُخُ نَفْسَهُ بِنَفْسَهُ ..
دَّوْلَةٌ تَقْتُلُ نَفْسِهَا بِنَفْسِهَا
دَّوْلَةٌ تَشْنُقُ نَفْسِهَا بِنَفْسِهَا
دَّوْلَةٌ تُفَكِّكُ وَتُشَّتِتُ نَفْسِهَا بِنَفْسِهَا
دَّوْلَةٌ تُفَجِّرُ وَتَنْسِفُ نَفْسِهَا بِنَفْسِهَا
بَلَدٌ عِمْلَاقٌ وَضَخْمٌ يَتَحَرَشُ بِهِ الأَقْزَام ..
امْضُوا قُدُّمَاً بِالاصْرَارِ المُتَعَنِّتِ وَالحَمَاقَة
فَقَد عَزَمْتُم تَجَاهُل الحَقِيْقَة!
امْضُوا قُدُّماً فَحْسَب، تَتَصَنَّعُون الضَجَر وَالغَبَاء
لِطالَمَا تُسْرِعُونَ الخُطَى نَهَاراً عُرَاةً بلا حياء
وَعَاجِزِينَ عَنْ قِرَّاءة خُطُوط كِتَابَتِكُم !
هَيَا، أَخْبِرُوا النَّاس..
مَتَّى سَتَخْضَّعُون لِجُرْمُكُم؟
أَقُولُ: مَتَّى سَتَطْلُبُون العَفْوُ
مِمَّن أَلْحَقْتُم بِهِم الوَقِيْعَة
بِخَنَاجِرِ الفِتْنَةِ والكَرَاهيَّة ؟
فَضْلَاً، قُولُوا لِي ذَلِكَ…
أَيُّ درجةٍ مِنْ العُبُودِيَّة نَقْبَلُ بِإِغْتِبَاطٍ ؟
أَنْتُم سِيَّادَةٌ حَمْقَاء …
مَتَّى سَتَعَرِفُون ظِلَّكُم تَحْتَ الشَّمْسِ ؟!
اللَّعْنَةُ عَلَيْكُم أيُّهَا الجُبَنَاء …
تَابِعُوا تَلْفِيق التَبْرِيرَات الدِّعَائِيَّة الكَاذِبَة
فَضْلَاً، تَابِعُوا تِلَاوة أَغَانِيكُم القَدِيمَة
لِتَكْسَبُوا الخُبْز المَسْرُوق
مِنْ “المُجَاهِدِين” الموبوؤون بداء الكلب
وَبِحُكْم الحُقُوقِ غير المُفْتَرَضة
مِنْ المِيرَاث وَالتَفَوُّقِ الزَائِف ..
أَيُّهَا الضِبَاع وبَنَات آوى وَالثَعَالِب:
تَابِعُوا تَلْفِيَقاتِكُم الكَاذِبَة
تَابِعُوا قَتْل أَبْنَاء شعبكم عبثاً باسم الدين !
اذهبوا .. اندفعوا ..
ارتدوا الصَّنَادِل الشَائِكَة
اِجْلِسُوا فِي الخِزِي وَالعَار
امْزِقُوا سَرَاوِيلِكُم
اخْسِرُوا ثَقَافَة احْتِضَان الأَغْنِيَاء
وَعَلَى أَكْتَاف شَّعبِكُم أَخْطُوا قُدًّمَاً..
اذْهَبُوا لِإِرْوَاء ظَمْكُم بِدِمَاء الأَبْرِيَاءِ
المُعَلَّبِة فِي زُجَاجَاتِ الجَشِع والأُصُوْلِيَّة
سَارِعُوا .. وَتَسَارِعُوا .. وَغُوصُوا !
اخْدَعُوا أَتْبَاعِكُم بِقَبْضَةِ الغُبَار
الَّذِي تَحْصِدُونُهُ دَوْمَاً مِنْ الصَّنَادِل البَالِيّة
وَأَحْذِية مَنْ أُصِيبُوا بِقُصْرِ النَظَرِ مِنْ
أَرْبَابِكُم فِي العُصُورٍ الَّتِي سَبَقَتْ التَّارِيخ ..
اذْهَبُوا وَفُوزُوا بِوِعَاءِ الخُبْز المَسْرُوق
تَمْلَؤُهَا قَطْرَةٌ مِنْ النِعَمِ الزائفة
بعد ماراثونات عُرْس الشَهِيد ..
أَيُّهَا الضِبَاع وَبَنَات آوى والثعالب،
هَلْ تَلِدُ البغال السناجب والفئران
فِي مَوَاكِب الصَّدَقَاتِ الهَائِجَة؟
وَقُصْر عُيُونِكمُ مُنْذُ حُقُوب قبل التاريخ …
تَابِعُوا فِي إِسَاءةٍ تَقْدِير عَزْمِنَا
فِي زَّمَانِ سَذَاجَةٍ عَالِقَة فِي طِيْنِ العَار بَلَا أَسْنَان..
سَيُبَوقُون بِصوتٍ عالٍ مُرَدِدَين
شِعَارَات مُلَفَقَة غَرِيْبَة وَهُم يَرْتَجِفُون
خَلْفَ سَادَتِهِم المَدْفُونِين فِي غاباتٍ رثّةٍ
مِنْ ذوي اللحى الشُوفِيْنِيَّة الاصْطناعية الصغيرة:
وَقِحُون كالمَاعِز الشائك الصغير
“دعني أعيش”، هَكَذا يُوسَمُون
فِي مَوسَوعَة الرِيَاء والتَحَيُّن ..
إِنَهُم بِحقٍ وَسْمٌ جَدِيدٌ لِزَوَالٍ وَهَلَاكٍ جَسِيمَين
عَلَى عَجَلٍ أَنْتَجَتَهُم انْتِهَازِيَّةٌ تَخَللتَهَا الأُصُولِيَّة..!
يناير 1995م القاهرة
ترجمة: دينقديت أيوك
جون قرنق دي مابيور، رجل لو تعرفونه
جون قرنق دي مابيور، رجل يستحق التعريف
جون قرنق دي مابيور، رجل تجب معرفته
جون قرنق دي مابيور، ماذا تعرف عن الرجل
جون قرنق دي مابيور ما يجب أن يعرف عنه،
إلخ، إلا رجل عرفته، فقد كان يمكنه القول:
A Man I’ve known, or I knew
شكراً للمترجم دينقديت أيوك