ضرورات الحذر الإقليمي العربي في التعاطي مع الأزمة السودانية

مع التوقيع بين المدنيين والجيش على اتفاق سياسي كان يقر دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية في الجيش كشرط للعودة إلى مسار التحول الديمقراطي، اندلع صراع الجنرالات في السودان، حيث لم يتمكن كل من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف ب حميدتي من الاتفاق على شروط هذا التكامل، إذ تخوف حميدتي من خطر فقدان استقلاله وقوته أمام البرهان، فاتهمه برعاية الإسلاميين، وبدأ هجومه على مواقع الجيش في الخرطوم، ليبدو أن اتحادهما منذ انقلابهما على البشير كان أشبه بـ “زواج بلا حب”.
على الرغم من أننا لم نر حتى اللحظة دولا تدعم طرفي الصراع في السودان بشكل مباشر يمكن ملاحظته، إلا أن الدول التي لها مصالح في ثالث أكبر دول افريقيا مساحة كثيرة: فتربة السودان خصبة ومناخه مناسبا تماما للزراعة، ويمر عبره نهر النيل الذي يمثل قضية أمن قومي لمصر، وبالإضافة إلى أنه من أكبر الدول المصدرة للذهب فهو يمتلك شاطئا طويلا على البحر الأحمر حيث من الضرورات القصوى الحفاظ على استقرار الملاحة العالمية، فضلا عن كونه بوابة لعدد من دول جنوب الصحراء، وطريقا يمكن أن يزدهر كمحطة عبور جديدة للمهاجرين، تزدهر فيها تجارة البشر والإرهاب والفوضى.
إذا كان عدم استقرار السودان يشكل هاجسا لدول بعينها فإن استقراره بدون حكومة كما هو حاصل منذ تولى الجيش السلطة في 25 أكتوبر 2021 يشكل هاجسا أكبر، كما كان عليه الوضع في فترات معينة من حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي احتضن في فترات معينة رجال تنظيم القاعدة وقيادات الحركات الجهادية بمن فيهم أسامة بن لادن.
إذ كان يتشارك السودان حدودا مع جنوب السودان واريتريا واثيوبيا وافريقيا الوسطى وليبيا ومصر، ويمتلك حدودا بحرية مع دول الخليج العربي، فإن ما
مصالح استراتيجية لمصر
يجري في السودان لا يبقى في السودان، وخصوصا مصر التي تمتلك ألفا ومئتي كيلو متر من الحدود المشتركة معه، ومرور نهر النيل عبره، ووجود خمسة ملايين سوداني في مصر من قبل بدء القتال الأخير، كما أن أي اضطرابات ملاحة في البحر الأحمر ستقضي على الحركة في قناة السويس والمردود الاقتصادي الكبير الذي تجنيه مصر من عبور السفن، ناهيك عن مخاوف القاهرة المتعلقة من تسرب الجهاديين من دول تنشط فيها هذه الجماعات عبر الحدود.
المؤسسة العسكرية في مصر فضلت ومنذ تنحية البشير التعامل مع نظيرتها في السودان بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان على قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو الواصل من خارج المؤسسة العسكرية، والذي يمتلك علاقات ممتازة مع رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد فلم تنقطع الزيارات والاتصالات بينهما، إضافة الى اعلان حميدتي موقفا يعتبر إيجابيا من حق أديس ابابا بملأ سد النهضة وقناعته بأنها لن تضر بقية دول حوض النيل.
كما رفضت مصر مرارا -بضغط غربي أو بدونه- أن تقبض روسيا على حلم إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر حين داعبت الكرملين فكرة إنشاء موطئ قدم إستراتيجي روسي على طول البحر الأحمر للمرة الاولى منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، من خلال قاعدة مقترحة في بورتسودان قام بوتين بنفسه برسم تفاصيلها وأعلن أن البحرية الروسية ستضع فيها 300 فردا وأربع سفن حربية تعمل بالطاقة النووية ورغم إبرام اتفاق بين البلدين عام 2020 مدته 25 عاما يقضي بإنشاء القاعدة تحت مسمى “مركز للدعم اللوجيستي”، طُوي الحديث عن الأمر، وسط حديث عن طلب البرهان من موسكو إخلاء معداتها من بورتسودان بداعي بقاء بعض الأخطاء التي يجب معالجتها، قبل أن يعود الحديث عنها يوم قام “حميدتي” في آذار العام الماضي بزيارة إلى موسكو أثارت عاصفة من التساؤلات حول أهدافها وتوقيتها، ومخاوف غربية من إمكانية أن ينتج عنها تمدد موسكو على سواحل البحر الأحمر تحديدا.
جاء نشر قوات الدعم السريع فيديو “استسلام جنود مصريين” في قاعدة مروي شمال السودان ظهر فيه عدد من الجنود المصريين وهم جالسون على الأرض وقد أحاط بهم عناصر من قوات الدعم السريع، بمثابة القشة التي دفعت مصر لحسم موقفها المرتاب من قوات “الدعم السريع” وقائدها محمد حمدان دقلو.
موقف دول الخليج
أما بالنسبة للإمارات فقد أستأجرت أو اشترت من السودان مساحات شاسعة قامت بزراعتها بالمحاصيل الاستراتيجية لضمان أمنها الغذائي من جانب، وتصدير الفائض كما بات يحصل اليوم مع بعض السلع الزراعية المنتجة في السودان، كما أن الإمارات تمتلك الاستثمارات الأكبر في موانئ السودان ونجحت بالفعل قبل أشهر بالحصول على امتياز استثمار إدارة ميناء ابو عمامه باستثمارات بلغت حوالي ستة مليارات دولار، كما أن أبو ظبي تستثمر في ذهب السودان بعد أن أصبحت من أهم مراكز الذهب في العالم بأكثر من 8 بالمئة من صادرات العالم، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على العدد الأكبر من مناجم الذهب، وأهمها منجم جبل عامر.
يبقى أن المملكة العربية السعودية وهي حليفة وثيقة لكل من الإمارات العربية المتحدة ومصر وهي تمتلك أيضا مصالحها مع السودان، وتتمثل باستثمارات بمليارات الدولارات، كما تحرص الرياض على استقرار الملاحة بالبحر الأحمر وعدم عودة القرصنة، وتربطها علاقات جيدة مع طرفي الصراع فكلاهما حارب إلى جانبها في اليمن، وهي تبحث اليوم عن استقرار في المنطقة يعتبر ضروريا لتحقيق رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2030، وهي انفتحت على مدار الأشهر الأخيرة بعلاقاتها على دول كتركيا وإيران والعراق وسوريا، وتحاول اليوم استباق قمة عربية تستضيفها بالتوسط للوصول إلى تهدئة في السودان.
بيل شوفان – مونتي كارلو