زوجة أبي

كنت في الحادية عشر من عمري عندما توفيت أمي، وكان شقيقي حسن في السادسة، ما زالت هذه الأحداث حاضرة في ذهني بكل تفاصيلها، أمي المريضة، التي تزداد وهنا وتعبا في كل يوم، وينخلع قلبي الصغير من صدري عندما تضمني إلى صدرها وأجدها تلتهب من الحمى، حمى غريبة احتار فيها طبيب قريتنا الصغيرة في الجزيرة، ما زال صوت أمي في أذني وهي توصيني على أخي (محمد، أبقى عشرة على أخوك يا ولدي، إنت الكبير)، كنت أبكي وأزداد التصاقا بها وأخبرها أنها ستشفى وتكون بخير،
والدي كان يعمل معلما بالسعودية، وكان يتصل يوميا للسؤال عن صحة أمي، والتي تتجلد وتتماسك وتخبره انها بخير، سمعته يوما يحادث خالي بأن ينقلوها إلى الخرطوم للعلاج، ويصر خالي على أن طبيب القرية أحسن من أطباء العاصمة، حتى جاء ذلك اليوم، اشتدت الحمى وأسلمت أمي الروح،
ما زال طعم الدموع شديدة الملوحة التي زرفتها في ذلك اليوم يملأ فمي، احتضنت حسن الذي اخذ يبكي معي ويسألني (هل ماتت أمي ولن تعود)، وبرغم طفولتي حاولت احتواء ضياعه وأخبرته أننا سنلتقيها في الجنة،
حضر والدي بعد ثلاثة ايام من السعودية منهيا عمله هناك ،
وسمعته وهو يلوم خالي على عدم نقل أمي للخرطوم، تسبب هذا الأمر في إحساسي بأن أهل أمي قد أهملوا علاجها وتركوها لكي تموت،
انتقلنا مع والدي للخرطوم ومكثنا معه في منزل جدي، واجتهدت جدتي في رعايتنا وتعويضنا عن التيتم المبكر، ولكنها كانت مريضة ومسنة، ومن الصعب عليها تلبية احتيجاتنا الكثيرة،
ومنذ يوم وفاة أمي، أخذت عهدا على نفسي بأن أكون مسؤولا عن شقيقي كما أوصتني، خاصة وأن والدي كان غائبا أغلب الوقت لعمله لدوامين في المدرسة صباحا ومساء، بعد أن تخلى عن وظيفته في الاغتراب، حتى يستطيع مجابهة متطلباتنا ومتطلبات والديه وهو العائل الوحيد لهما،
سمعت أكثر من مرة جدتي تطلب من والدي أن يتزوج ويحضر من تقوم بخدمتنا خاصة وهي تتقدم في السن وتفقد طاقتها، وكان رده رافضا،
إلى أن كان يوم حضر والدي من دوامه المسائي، فناداني وأخبرني أنه سيتزوج، ويريدنا أن نتعرف أنا وحسن على من ستكون بمثابة والدتنا،
لم أتقبل الأمر بتاتا، وبحسب تعلقي بأمي وأنا على أعتاب المراهقة، أحسست بأن زواجه خيانة كبيرة لأمي، ولا شك أنه قرأ مشاعري في تعابير وجهي، كيف لا وهو المعلم والمربي الذي ظل يتعامل مع الكثير من الاولاد في سني لسنوات طويلة، أخبرني أننا بحوجة لمن يرعانا وخاصة حسن لأنه في سن صغير، لم يعجبني كلامه، فقد كنت أحرص على رعاية شقيقي،
حتى جاء يوم اللقاء وأخذنا والدي انا وحسن إلى أحد الأماكن العامة، وفي ذلك اليوم تعرفنا على (ماجدة) التي أصبحت زوجة والدي، ما لفت انتباهي أنها تعاملت معنا بطريقة بسيطة وطبيعية، لم تحاول أن تفرط في إبداء الود أو اللطف الزائد والاهتمام، حدثتنا قليلا عن نفسها، وأسرتها وعملها، وسألتنا عن مستوانا الدراسي،
في نهاية اللقاء أخبرتنا بأنها ستعاملنا كأولادها وصرحت لنا أنها ليست صغيرة في العمر وفرصتها في الإنجاب قد تكون ضئيلة وأنها ممتنة لوجودنا،
كانت إنسانة تبدو عليها الطيبة والبساطة، ولكني كنت سلفا قد قررت مناصبتها العداء وربما تكون قد أحست بذلك، وحدثتني نفسي ألا أجعل حياتها معنا سهلة، وعندما رجعنا إلى المنزل حاولت استقطاب حسن الصغير لينضم معي في مخططي وبقدر استطاعتي بذرت كراهيتها في قلبه،
تم زواج والدي وماجدة وانتقلنا من منزل جدي إلى منزل والدي الذي يملكه في ذلك الحي البعيد في امدرمان،
لاحظت ماجدة سلوكي العدواني تجاهها منذ الوهلة الأولى ولكنها لم تصدر اية ردة فعل، اجتهدت في تنظيم المنزل الصغير وأولت اهتماما خاصا لغرفتي أنا وحسن، فجددت الجير وأحضرت لنا من مرتبها اسرة جديدة وأحضرت لي درجا للمذاكرة، لم أقل لها ولا كلمة شكرا، وركزت أن أظهر سلوكي العدواني معها في تجاهلها وعدم إعطائها أي اعتبار، حتى لا يكون لديها أي دليل تنقله لوالدي،
وقد نجحت باهتمامها الحقيقي غير المتصنع في ان تكسب حسن، وبالرغم من أنني واظبت على أن أجعله يعاديها، فقد ظهر عليه أنه يعيش تنازعا بين تحريضي له وما تقدمه له من الحب والاهتمام، وأصبح يناديها أمي وعندما سألته إذا كان ذلك بناء على طلبها فهز رأسه نفيا،،
ويبدو أن ماجدة بعد أن طال صبرها واستغرابها لموقفي قررت ان تتخذ موقفا إيجابيا، فنادتني وسألتني (ما هي مشكلتي معها)، فأخبرتها صراحة أنني لا أر.يدها في حياتنا، سألتني (لماذا)، فأجبتها لأنها لن تستطيع أن تحل محل أمي، وأنني غير مقتنع بها،
حافظت على رباطة جأشها ولم تنفعل وبلهجة حاسمة وهادئة أخبرتني أن زواجها من والدي هو أمر واقع وأنني كرجل، يجب ألا تكون آرائي في البشر انفعالية، بل يجب أن تكون مبنية على ذخيرة من المواقف والتعامل. الغريب في الأمر أنها لم تشكوني إلى والدي ولا مرة، بل على العكس كانت تحرص تماما على عكس صورة طيبة عن علاقتنا،
وفي أحد أيام الخميس سافر والدي لإحدى المدن لتقديم واجب للعزاء، وداهمت شقيقي حسن الحمى، احمرت عيناه وارتفعت انفاسه، رأيت جزعا وقلقا كبيرا في عيني زوجة أبي وسارعت بطلب سيارة أجرة وأخذناه إلى الطبيب، وأظهرت الفحوصات إصابته بالتهاب اللوزتين، في تلك الليلة ظلت زوجة أبي مستيقظة حتى الصباح وهي تعمل على إنزال الحمى من حسن بالكمادات وإعطائه جرعة المضاد في ميعادها حتى تحسنت حالته إلى حد كبير مع الشروق، لا أدري كيف أعاد هذا الأمر إلى ذاكرتي وفاة والدتي نتيجة الإهمال وعدم نقلها للعاصمة للعلاج،
الموقف الثاني، كان عندما حدثت لي مشكلة كبيرة في المدرسة مع أحد الزملاء وتطاول علي بالشتائم، وتحول الأمر إلى اشتباك بالأيدي نتجت عنه جروح وكدمات لدى كل منا وطلب منا الإثنين استدعاء أولياء أمورنا أو الرفد من المدرسة، حضرت في ذلك اليوم بوجه حزين ملئ بالكدمات، ويملؤني الهم، فوالدي الأستاذ المربي لن يقبل ما فعلته وسيكون رد فعله بالتأكيد أعنف من كل توقعاتي، عندما دخلت إلى البيت قابلت زوجة أبى، فنظرت إلي باهتمام وقلق وسألتني ماذا بي؟ ، وجدت نفسي أروي لها ما حدث وأخبرتها عن خوفي من ردة فعل والدي، أخبرتني أنها هي التي ستذهب معي للمدرسة، ولن تحكي لوالدي ما حدث، صراحة كان عرضها بمثابة طوق النجاة من غضب والدي،
قابلنا مدير المدرسة أنا وهي وزميلي طرف المشكلة الثاني الذي حضر معه والده، خلال النقاش مع المدير أبدت فهما عميقا وعاليا واستطاعت بكل مهارة ولباقة أن تلطف الجو لدى كل الأطراف، وأقنعت المدير أن الأمر عادي في مثل أعمارنا وتحدثت مع والد زميلي أنه شجار بين الأخوان وفي نهاية اللقاء جعلتنا أنا وزميلي نتصافى وأن هذه ستكون بداية صداقة قوية بيننا،
تركتني في المدرسة وذهبت إلى عملها، وعندما وصلت إلى البيت في ذلك اليوم كنت في انتظارها في الباب، وقلت لها (شكرا أمي)، فابتسمت واحتضنتني وهي تقول لي الحمد لله أخيرا سمعتها منك يا بني،
مرت سبع سنوات على دخول ماجدة إلى حياتنا، وأنا حاليا طالب بكلية الطب وحسن كان الثاني في إمتحان شهادة مرحلة الأساس على مستوى الولاية بفضل اهتمامها ورعايتها،
نسيت أن أخبركم أننا الآن خمسة أفراد في الأسرة فقد رزقتا قبل ثلاث سنوات بأختي أمنية وهي تشبه والدي تماما ولكنها لطيفة وجميلة مثل أمي (ماجدة)،،
في مقال “أشبه أبي” فرحت بالنهاية السعيدة لانك يا نهى تستحقين كل خير كدت ابكي لو ان قصتك لم تنته بالافراح . يبقى ان أسألك الم يصدم والدك عندما وجد انك تشبيهينه ام ان الصدمة كانت فقط من جانبك ؟
وفي مقالك الجديد “زوجة أبي ” ابلغك اني لن أقرأه لخوفي من مصائب ومتاعب قد حلت عليك بسبب هذا الزواج فانا حنون جدا انصحك الذهاب الى عراف او قارئ بخت عله يفك لك السحر وتعيشين حياة هادئة ومستقرة لان وضع أسرتك محزن لنا جميعا.
انتي يا نهى طالبة وتعاركتي مع أحد زملائك أم زميلاتك؟