بريق العيون، هل يكون حبا؟!

جابر حسين
* أحدوثة عن حديث العيون، ولكن، غرائبية الحكاية لاتنفي واقعيتها، فقد حدثت بالفعل، وراويتها صديقة موثوق بها.
( جرب الآن الحياة،
لكي تدربك الحياة علي الحياة
وخفف الذكري عن الأنثي،
وأنزل ها هنا والآن عن كتفيك
وأكتب،
أكتب الحلم/ العيون! )!
السيدة التي في ملكوتها تضوع، جميلة الجميلات، ربيبة السلالات النبيلة في النساء. جلست في مواجهتي، في بهاء الوردة وعبير الياسمين، شاردة النظرات، والعيون لها البريق، والبريق له جرس وناي، تحدق ملء قلبها في الغمام البعيد، كأنها تتقافز – كزغب العصافير – عبر السنين…، قالت: كنت في السنة الدراسية الثانية في الجامعة الأهلية بأمدرمان، وكان علي أن أركب أكثر من حافلة حتي أصل الجامعة… ركبت – إذن – أحدي الحافلات من شارع الأربعين*، الحافلة بدت لي مكتظة براكبيها، لكن المقعد الذي كان خلف السائق مباشرة كان خاليا، فجلست عليه! تحركت الحافلة، وأنشغل الناس بداخلها كل بشئونه وهمومه، ومن آلة التسجيل كان أبو عركي يغني ( عن حبيبتي بقولكم )، والموسيقي تظلل فضاء الحافلة كشلال فرح صباحي مزهر…! فجأة في بياض بريق اللحظة الخاطفة تقول: إلتقت عيناي بعيني السائق، في المرآة المثبة في مواجهة وجهه! طوال رحلة الحافلة، وحتي لحظة وصولي للمحطة ومغادرتي الحافلة، ظلت عيناي وعيناه معلقتان – كل الوقت – علي المرآة، نتبادل البريق والمتعة الخاطفة! وفي اليوم التالي، أنتظرت الحافلة، والحافلات تمتلئ وتذهب، حتي أتت لدورها (حافلتي )، دخلتها، كان نفس المقعد خلف السائق خاليا فجلست فرحة عليه! ولست أدري من منا أبتدأ النظر إلي المرآة، ولكن عينانا كانتا معلقتان، كأنجم متألقات وفرحات، علي سطحها الناعم. و… يلمع البريق، يلمع ويلمع، فيسطع، في بهاء العيون الوسيعات ولحاظها المترفات حتي محطة وصولي، فينقطع البريق حين أغادر الحافلة، فتغادر العيون، هي الأخري، سطح المرآة! في اليوم الثالث، أنتظرت حتي أتت ( حافلتي ) التي بدأت أحبها…، دخلت إليها، كان المقعد خاليا، وكأنه يؤمي إلي، فجلست عليه… ثم، كإيماض بريق خفيف شفيف، بدأ البريق يلمع في العيون، ثم بدأ حديث العيون، حديث البريق، وللعيون لغة لها في القلوب رنين وجرس! ظل الأمر يجري هكذا طوال أشهر ثلاث، علي ذات النسق من البهاء والصمت! كان هو رجلا عاديا في الناس، بلا أية ملامح لافتة أو وسيمة، رجلا من غمار الناس…، وكنت – وقتذاك – أنا طالبة للدرس في الجامعة، صبية ونافرة، أتقافز كما الأرانب علي عتبات الحياة، بفرح ونشوة راقصة، وبعواطف ذات فيوض عطرية وموسيقي يتراقص لها جسدي بخفة وألفة…! أبدا لم نتبادل الكلام أو التحايا العابرات، لاصدرت منه كلمة ولا مني طلعت كلمة، الصمت وحده كان سيد الحالة وظلالها! ظللنا نمارس تلك المتعة اللذيذة الخاطفة في صمت مريب، ونتذوق رحيق بريقها لحظة تلتقي عيوننا علي سطح المرآة، فيمتد البريق بيننا، كشعاع ضوء شفيف أو برهة برق لاهث خفيف… يسطع كومضة، ويتلألأ كحبيبات المطر علي زجاج نافذة وحيدة… يضئ كونا صغيرا شفيفا ورهيفا كأجنحة الفراشات، ثم يمضي، يمضي إلي ما لست أعرف! سكتت لبرهة، السيدة الجميلة التي في الملكوت، لترشف جرعة ماء باردة، وتطرد عنها زفير صدرها وتواصل سرد خكايتها. قالت مسترسلة: في يوم ما، بعد أنقضاء تلك الشهور الثلاثة، كان يوما عاديا يشبه كل الأيام، رتيبا لكنه لا يثير الضجر ولا الإنتباه… في ذلك الصباح أعلنت أدارة الجامعة إستئناف برنامج الترحيل الجماعي للطالبات بدءا من الغد! وفي الصباح كنت أستغل باص الترحيل الجماعي… ضاعت (حافلتي) في الزحام، وضاع – من يومذاك – البريق أيضا في زحام الحياة! مارأيتهما من بعد أبدا، لا العيون ولا صاحبهما ولا البريق! أخذتني إليها الحياة في دروبها، الداكنات تارة، المضيئات تارة أخري! ضحكت السيدة صاحبة الحكاية من تحت تنهيدة وادعة وأردفت: هذا السائق العجيب كان – في تواطء صامت – يحجز الكرسي لي… كان يضع عليه جريدة، فيحجزه! حتي السلام العادي لم يحدث بيننا أبدا! والمضحك، علي هامش حكايتي ياعزيزي، أن ( الكمساري ) كان لايقبل أن يأخذ مني أجرة الترحيل، أبدا ما أخذها مني، كان يكتفي بأن يغمز لي بأحدي عينيه ويبتسم، فأفهم أنا! عادت إلي رواية ما تبقي من حكايتها، عادت، كأميرة علي عرشها، حين عدلت من جلستها وتركت لخصلات شعرها يعبث بها نسيم المساء الجميل، وبعد جرعة آخري قالت: الغريب – أيضا – أن هذه الحادثة / الحالة، ظلت عالقة في ذاكرتي وقلبي كل هذه السنين الطوال، لماذا، لست أدري…؟ و لماذا قفذت أمامي الآن – كضوء قداحة – فرويتها عليك، بزخمها الكثير وحيويتها النضيرة، مجلوة، كعروس، وكأنها قد حدثت بالأمس أو هذا الصباح؟ أيضا، لست أدري؟! ثم، لماذا أحكيها، بلمعان توجهها، إليك أنت بالذات، وفي هذه اللحظة بالذات، أيضا، لست أدري؟؟ كان عليها أن تغادر، وكان علي أن أذهب أيضا لشأني، فأفترقنا … ذهبت عني، لكنها كانت قد تركت هذه الجوهرة، معلقة – كعقد من الفضة – علي عنقي، أما بريقها الساحر ذاك، فقد تركته في قلبي لينام، يهدهده لأحكيها عليكم، وأسأل: هل كان، بريق العيون ذاك، حبا ؟!.
Gabir Hussein <[email protected]
* مسرح الحكاية مدينة أمدرمان العاصمة القومية للسودان، و (شارع الأربعين) أحد أهم شوارعها!