اللغة المتوحشة .. قد تجعلك بلطجيًا بمحض الصدفة!

بقلم: حازم خالد
لكل لغة شعاع ثقافي مصاحب، تتوطد به العلاقه بينها وبين الفكر بشكل وثيق، فكما يقول أستاذ اللسانيات أبوزيد المقرئ الإدريسي: “اللغه ليست أداة محايدة وليست عاكسًا أو وعاء لوضع الشيء، بل هي منظور حضاري وصورة ثقافيه وخزان ذاكرة تاريخيه، وهي إبداع وانتماء وهويه”.
إننا نعيش في زمن تبلور فيه الكلمات المشهد الراهن في أعين الناس. كما تزداد وسائل الإعلام من حولنا وتتشعب من خلالها الأقوال والآراء. ونجد المشاهد والمستمع يقع في حير وقد تتخبط به اللغة يمينًا ويسارًا، فيقف مؤيدًا لطرف دون آخر حينًا، ليعاود بعدها الوقوف في الجهة النقيض.
عن أهمية اللغه في عالم الاتصال ودورها في تشكيل الأفكار ظهر هذا الكتاب الذي أنتج بتعاون مشترك بين الكاتبين الأميركيين جون كولنز وروس غلوفر، ويعمل كولنز في مجال الدراسات الكونية في جامعة سانت لورانس، وله اهتمام خاص بقضايا الشرق الأوسط ووسائل الإعلام. أما غلوفر فهو مختص في علم الاجتماع في ذات الجامعة، ويعمل في تحرير مجلتين أميركيتين.
لقد وُعي بأهمية ما يناقشه هذا الكتاب مترجمه د. أحمد بن سعيد، فحمل عناء ترجمته بدقة على مدى خمس سنوات. ويعمل المترجم أستاذًا مشاركًا في قسم الإعلام في جامعة الملك سعود، وحاصل على الدكتوراه في “الاتصال الخطابي” من جامعة ويلز الأميركية. وعمل رئيسًا لتحرير مجلة “الأسرة”، وكاتب عمود صحفي، وله العديد من المؤلفات والمنشورات.
يترجم عنوان الكتاب حرفيًا من (Collateral Language) إلى “اللغة الرديفة” وهي كما يعرفها المترجم: “لغة بديلة يجرى استخدامها لا تحمل خصائص اللغه، فهي لا تهتم بالتغيير المعرفي أو نقل الحقائق، بل تسعى إلى دعم مصالح معينة، لذا فهي لغة ملتبسة يتم تحويرها قصدًا لطمس المعاني الحقيقية”.
وبما أن مصطلح “اللغه الرديفة” غير متداول، انتقى المترجم مرادفًا وهو “اللغة المتوحشة”، وقام بتغيير ما يلزم حتى يناسب ذائقة القارئ العربي. يحتوي الكتاب على أربعة عشر مقالًا متنوعًا، كتب كولنز وغلوفر منهما اثنين وقاما بإضافة ومراجعة مقالات لكتاب آخرين. ركز كاتب كل مقال على منهجية طرح تقوم على خمس طرق رئيسة يمكن للقارئ من خلالها فهم أثر اللغة عليه وهي: “القبول، الإدراك، الآثار الحقيقية، التاريخ، والإمكانية”.
وحملت المقدمة شرحًا تفصيليًا لكل من هذه الطرق الخمس، لتأتي بعدها المقالات بمواضيع متنوعة تضفي شمولًا وعمقًا، ومنها: الوحدة، العدالة، الشر، والأهداف وغيرها.
رغم أن هذا الكتاب يذخر بالمصطلحات التخصصية، إلا أن هذا الجانب قد روعي، فكل ما يمكن أن يشكل على القارئ تم التنويه إلى معناه. وبهذا أصبح الكتاب في متناول الجميع بمختلف ثقافتهم، وخصوصًا الصحفيين والإعلاميين واللغويين. ويكمن ثراء الكتاب وتنوعه في أنه لا يستهدف شريحة بعينها. فاللغة هي الأصل في الطبيعة البشرية، فعلى الصغير والكبير أن يلتفت لما يتلقى في وسائل الإعلام بشكل يومي عبر الإنترنت والصحف. على المتلقي أن يكون واعيًا وناقدًا لما يقرأ ويسمع لا كالإسفنج يمتص فقط.
لا شيء يذهل أذهاننا كالحديث بطريقة جديدة عن أمور اعتياديه تشربناها منذ الصغر. بين جنبات ما يقارب ثلاثمائة صفحه، يقوم الكاتب باستفزاز القارئ فكرياً ليعيد النظر في اللغة المقروءة والمسموعة المحيطة به. ورغم أن الكاتب يصب تركيزه على علاقة الدول بشعوبها، إلا أنه يوسع البصيرة لتبلغ جميع عوالم اللغة، وينشئ لدى القارئ العديد من التساؤلات، التي تحث على التعمق في اللغة بشكل أكبر، وبهذا يصبح القارئ أكثر وعيا وذكاء.
يسلط الكاتب الضوء على استخدام اللغة “آلة للدعاية”، ووسيلة لتحقيق أهداف النخب، بغض النظر عن المصالح الحقيقية للمواطنين لأن اللغة تشكل حياتنا دائما، لكن عندما تشتد الأزمات يكون لها تأثير مضاعف.
وتكمن أهمية اللغة في أن لها مواسم تزدهر فيها، فكلما اشتد التعقيد في الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ازدادت أهمية وحساسية المفردات والتعبيرات المنتقاة. وقد يردد الناس كلمات غامضة لا يعرفون أصلها، لكونها أصبحت متداولة في وسائل الإعلام، وفي غضون أيام قلائل تصبح كلمات اندثرت في المعاجم إلى مفردات تتكرر بشكل يومي وقد لا يعي الكثيرون معناها أو مصدرها. ولنأخذ مثالًا من الثورات العربية التي حازت اهتمام جميع أطياف المجتمع، من أين ظهرت كلمات مثل: “مرتزقة، بلطجية، فلول، شبيحة” وغيرها..؟
على كل فرد متلقٍ أن يفهم اللغة الموجهة له، وينتقدها ويعلم إن كانت في مصلحته أم غير ذلك، وتحتاج اللغة أن توضع تحت المساءلة حين تؤثر على أفكار المتلقي، وكما يقول الكاتبان: “كلما ازدادت سيطرة الدولة على اللغة التي يسمعها الشعب والصور التي يشاهدها، أصبح من السهل الحصول على قبول شعبي”.
تملك اللغة القدرة على تشكيل تصوراتنا وإدراكنا، وبها يتمكن المرء من الدفاع عن ما لا يمكن الدفاع عنه، فهي تصنع القبول كما تصنع المعارضة. وأكثر البشر تحضرًا وفهمًا من الممكن أن يقوم بعمليات إجرامية إذا ما أعطى المبررات الكافية لتقنعه بضرورة ما يفعل، تمامًا كما يحدث في جرائم الشرف وغيرها.
إن أيّ عمل عنيف لا يلقى معارضة، يكون خلف الصمت عنه خطاب إقناع قوي يمكن من إيجاد المبررات الكافية لهذا العمل، وهذا ما يطلق عليه عبارات التمويه والتلطيف.
محاور عدة وأفكار متنوعة يطرحها كتاب “اللغة المتوحشة” لتبحر بالقارئ إلى بحور التفكير، وتصل به إلى شواطئ الوعي والنقد البنّاء.
(خدمة وكالة الصحافة العربية)