هذا الولد

سُهى بختة
هذا الولد العائد من المدرسة شتاء، لم يكن يركل الحجر مثل الأطفال العائدين، إلا يوم الثلاثاء. لأنه، يومَ الثلاثاء، يرتدي حذاء أخيه الرياضي ويكون أسرع من كل أصدقائه، ويكون أطول منهم وأفضل منهم وينتفخ صدره قبل بدء السباق. ويركض في الهواء البارد في مضمار مدرسته المبقع ببرك الماء السماوية. منتقما من كل الحجارة التي لم يركلها متعرقا منجرفا بعد خط الوصول، متجاوزا إياها متوقفا عند أستاذه الغريب عن القرية (صاحب الشعر الناعم والقبعة اللامعة كمصباح والحذاء النظيف). يلتقط أنفاسه، يلعق إصبعيه المالحين وينحني ليمسح الطين عن حذاء أخيه. ويسأله «كم؟» يقول أقل من المرة السابقة بثانيتين.
الولد العائد من المدرسة مساء كان يعرف أنه اقترب من بيته حالما يظهر مصباح مخزن التمور في القرية الأخرى من خلف الشجرة. تماما عندها يعرف أنه سيسلك مسلكا إلى اليسار ويسير في المنحدر إلى أن تظهر كل البيوت العائمة في هذا المكان التي تنأى وتقترب كقوارب مربوطة إلى المرفأ. أما هو فلا يعرف عن القوارب سوى حلمه بها الذي لا يتذكر منه سوى الإحساس بأنه حلم بقوارب. لكن يوجد هذا الحلم الآخر الذي يتذكره، لأنه يعاوده ويخاف منه دائما، كان يرى في الحلم أن مصباح المخزن في القرية الأخرى يتعطل، فلا يعرف متى يسلك ذلك المسلك الصغير إلى اليسار في العتمة، لذلك يظل سائرا إلى الأمام إلى أن يجد نفسه قرب الشجرة التي تحجب المصباح، يجد نفسه عند الأفق، ويتبين له أن الأرض مسطحة وتنتهي بشجرة مظلمة ومصباح معطب. كان الحلم يعود ويراوده، ويجعله يستيقظ متعرقا بقلب منتفخ كأنه كان يركض في السباق.
كان يخاف جدا من فكرة الحلم وقرر أن يعُـد خطواته تحسبا. إلا أنه بسبب الطريق الطويل كان يخطئ العد، لأن الأفكار تعترض الأرقام الصغيرة التي يجيدها، هو لم يكن ماهرا في الحساب، لأن أفكارا صغيرة تعترض الأرقام الكبيرة التي تقولها المعلمة. مثلا تقول «يملك سامي عشرين قطعة حلوى». فتأخذه الفكرة إلى قسمة العدد على ثلاثة؛ أخته، أخوه، هو. كم سيخبئ داخل جيبه قبل أن يبدأ القسمة. آه، لكن جيبه مثقوب وسيكتشفان أمره. فلتكن القسمة عادلة إذن. يقتطع ورقة من الدرس السابق يجعلها في شكل عشرين كرة صغيرة ويقسم الحلوى ويسمي نفسه سامي، «ما المبلغ الذي عاد به سامي في جيبه» تسأله المعلمة؟ «سامي جيبه مثقوب» يجيبها. فيضحك الصغار ويضحك هو.
يعود إلى بيته ولا يجيد عد الخطوات، ولا يركل الحجر، يجمعه بيديه الصغيرتين، قرر أن يصنع صخرة كبيرة بالحجارة والحصى التي يجمعها، لأنه لا يستطيع أن يدحرج صخرة كاملة إلى أعلى الطريق لأن ذلك قد يتطلب كل حياته وهو ليس «سيزيف»، هو يفضل الذهاب إلى المدرسة. إذن، يكوم الحصى، يسد بها الطريق، يضعها حالما يرى المصباح البعيد كي لا ينجرف نحو الأفق.
هذا الولد العائد من المدرسة شتاء، كان يظن أن كلمة أقل تعني أسوأ، أقل من المرة السابقة بثانيتين، أقل من أخيه بسنتين، كان يظن وهو يزيد من سرعته ويبذل جهده وكل أنفاسه أن الثواني ستضاف إلى الوقت الذي استغرقه، أنه سيصير يوم الثلاثاء داخل حذاء أخيه الرياضي، سيصير بحجم الحذاء الواسع كقارب، وهو لا يعرف عن القوارب سوى إحساسه أنه ربما يكون رآها في الحلم.
ذاك الولد الذاهب إلى المدرسة فجرا، يخرج من بيته يتلمّس كمّيه الصوفيين القصيرين طوال الطريق وهـــــو يسحبهما يسير إلى الأمام وعندما تلوح له الصخرة التي صنعــــها من الحصى والحجارة التي لم يركلــــها لأنه ينتعـــــل خفين صيفيين بقـــية أيام الأســـبوع، عندما تلوح له الصخرة التي تكــبر كل يوم، يلتف نحـــــو اليمين.
تونس
القدس العربي