في الجندر: هل المرأة أكثر نزاهةً من الرجل..!!

المرأة نصف المجتمع؛ صحيح!.. حديث ممتلئ حداثة، ولكنه بائس في نسخته السودانية، إن تاريخنا الاجتماعي يُكذب هذا الافتراض الجذاب، لقد عرفنا البيوت المنقسمة بعضها على بعض، فذاك باب للحريم (لاحظ لفظة حريم من جذر «ح،ر،م» أصلها حرام!!)، وهذا للرجال (وأساسها يمشي على أرجل، وليس المقصود النوع، إنه وصف للحركة!!) يقول تعالى: «خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً» الكهف 37، وأذكر طرفة عن الراحل المخضرم الصحفي عبد الرحمن مختار، في كتابه «خريف الفرح» أنه كان يرافق الراحل الولد الشقي كما يطلق عليه وهو الصحفي المصري الساخر محمود السعدني، وكان الأخير في زيارة إلى السودان منتصف الستينيات من القرن الماضي وسأله عن رأيه في المجتمع السوداني، فأجاب بطريقته الساخرة المعروفة «وهو أنتو عندكم مجتمع!؟ عندكم بابين واحد للرجالة والتاني للستات..!!» وتقولون نصف المجتمع؛ تري أي نصف هذا الذي لا يجتمع بصاحبه إلا عند أداء فريضة التناسل؟!، وبسبب من تديننا المطاط جعلنا المرأة تقبع هنا وهناك!، كيف؟، تقبع هنا شعراً ونثراً واشتهاء، وهناك خلف الجدران المغلقة ولا تسافر إلا بمحرم!، فقد أدت الحدود الملازمة للأساليب المقترنة بالأساليب التشاركية في الحياة (زراعة- حياكة، عمل منزلي يتعلق بالمأكل والمشرب..الخ) إلى بروز نوع من سطوة الغريزة على الوعي أو لنقل فشلت الذاكرة الاجتماعية السودانية عن إنتاج رؤى ومناهج تجمع المرأة بالرجل، والصحيح القول بأن الجسد في ذاكرتنا الجمعية (ذكراً كان أو أنثى)، ارتبط باللاشعور يقول شاعر الحقيبة: « أنت شـادن، أنت لادن، أنت فـتّـان، أنـت ضـامر، أنـت سـامر، أنـت هـتّـان»، لقد جاءت الكلمات لتقف ضد اعتيادية العار الاجتماعي المرتبط بالمرأة باعتبارها جسد، ولم يهتم إنسان السودان بتخصيص ثقافة إنسانية مطمئنة،»قـمـراً حـماني تهجُّدي وتركـني فـاقد منجدي»، حكاية غريبة جداً، الغريب في الأمر إن تتشهى الشيء وفي ذات الوقت تقمعه!!، إن تخصيص رؤى خاصة بوضع الرجال مع النساء، فشل بسبب ثقافة أقل وحرمان أكثر، إنه واقع ثقافتنا مزدوجة المعايير، فمجتمعاتنا متحفظة وليست محافظة!..
إن من الدليل القاطع البينة في براءة الجسد من الأفعال القانونية هو بدائية التفكير العربي في بنية الجسد فلم تحظ الثقافة العربية بتراث «عشتار» ولا بقيم الخصب كما في بلاد الرافدين، مما يحملنا على القول بالغياب التام لثقافة النوع من خاطرة الفكر العربي وكذلك السوداني، ولكن حتى لا نتهم باللاعلمية لابد من الاعتراف بالتطور الذي طرأ على الذهنية العربية فيما يتعلق بالمرأة وتاريخ حضارتها، فالجاحظ (159-255هـ) والذي تعود أصوله إلى الزنج. ويقال أن جده من (عبيد) شرق أفريقيا، (راجع:James E. Lindsay Daily Life in the Medieval Islamic World (2005), p. 72 ) في رسائله في «كتاب النساء» والذي قام بتقديمه وشرحه وتبويبه الدكتور على أبو ملحم ، لا يخلو من محاولات نرى فيها تقدماً في التفكير بالمرأة ففي باب : فضل المرأة على الرجل:»والمرأة أيضا أرفع حالاً من الرجل في أمور، منها أنها التي تخطب وتراد وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى». وأيضاً: «إن الله تعالى خلق من المرأة ولدا من غير ذكر ولم يخلق من الرجل ولداً من غير أنثى، فخص بالآية والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر» وفي وعي الجاحظ بالمساواة المعتدلة بين المرأة والرجل يقول: «ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل أن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكنا رأينا أناساً يزرون عليهن أشد الزراية ويحتقرونهن أشد الاحتقار ويبخسونهن أكثر حقوقهن…» ، وللجاحظ أفكار خاصة بحرية الجسد وثقافة الحضور الاجتماعي (الجندر) ففي ثقافة العرب يرى الجاحظ أن العرب لم يكونوا يحتقرون الجسد وذلك واضح في تعبدهم المرتبط بالجسد (الأصنام: راجع الكلبي) يقول»فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزير..» هذا النص المجتزأ من رسالة الجاحظ وفي باب النساء بالتخصيص يوضح إلى أي مدى كانت الثقافة العربية في مهادها الأول قائم عمرانها الاجتماعي على وحدة النوع وليس في بالهم إقصاء المرأة باعتبار حالتها الجسدية.. والجاحظ هنا هو أنثربولوجي بالمعرفة فاهتمامه بالمسألة النسوية يعود إلى قراءته الاجتماعية المتطورة بحساب معارف زمانه وقيود حضارته التي عاشها ونجد هذا الاهتمام في كتبه عن «القيان والجواري» وثقافتنا السودانية، عظمت من وجود المرأة في مخيالنا الاجتماعي وأضعفت من حضورها واقعاً يتساوى فيه الرجل والمرأة، « مالو جافي نفور ما بدور قربي وأنـا مـالي دوام لـي خـيالو أميل»، هذا وإن ظل تذكار الدرس الأنثوي هو حالة من الشبق ليس إلا « ليك جوز عين نعسـان وكاحل خصراً يمـيّل وصـدرو راحـل»، إن ديوان الحقيبة يمتلئ حتى يفيض بالحسية في الوصف وتسيطر عليه حالة الشبق والبحث عن أنثى ضائعة بحسب عبارة الدكتور البحاثة النور حمد في كتابه «مهارب المبدعين»، ويدلنا ذلك على غياب الشراكة في مجتمعنا، ولكن وبعد أن دخلنا إلى القرن الجديد، قرن سيطرت فيه الأنثى المجردة، وفتحت بها أبواب الاستهلاك على مصاريعها، فلا فارق بين إغلاق الباب عليهن وبين إمتهاهن بضاعة وتسوق بهن الأشكال الإعلانية.
إن علينا التعرف على مفاتيح فهم الثقافة السودانية لحقوق المرأة، ولا يفوتنا أن حضارتنا العربية الإسلامية جعلت من المرأة كائناً يتسم بالحرية في التواصل داخل المجتمع وبالقدرة على مشاركة الرجل مساهمة غير منقوصة، فالفهم الإسلامي جاء متطوراً بواقع ما كان العرب يعتقدون في قيم الجسد والنفس، فالتصور العربي للذكورة جاء متسقاً وشروط الإنتاج في مجتمعه فالرجل هو الكافل فبالتالي له مزايا خاصة عن المرأة المسئولة عن ترتيب الحياة من الداخل (الأسرة والأبناء) وجعلهم هذا التصور يخرجون بالمرأة من قِيم على المجتمع إلى شخصية مكفولة المأكل والمشرب، ونعلم وعورة الخوض في واقع العرب الاجتماعي وإفرازاته التي جعلت النظر للأمور يتم بمعزل عن البرهان. وجاء الإسلام ليقيم دولته فكانت أصالة الرؤية نابعة من إعلائها شأن المساواة في اعتدال، يقول تعالى» وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (النساء 32).
إن سياحة في تاريخنا الاجتماعي ستصل بنا إلى الوقوف عند الدور الكبير الذي كانت تلعبه المرأة، ولكن دعونا من اجترار التاريخ، ولننظر إلى الواقع بصورة منتجة، المرأة السودانية نصف المجتمع، وسياسياً 25% (فوق عديلهم)، وتكمن نزاهة الأنثى في القيام بدورها كاملاً دون نقصان، وفوق هيمنة الثقافة الذكورية، فالثقافة السودانية تفتقد البحث عن «الآخر»، الآخر؛ الثقافي، الاجتماعي، السياسي، وهي في الحقيقة تتجاهله وتعمل على تغييبه، والآخر هنا هو المرأة، وبنظرة سريعة على أمثالنا المتداولة بلا وعي «المرأة كان فاس ما بتقطع الراس، ده كلام نسوان ساكت، النساء شاورهن وخالفوهن.. الخ»..
ترى أيمكننا القول أننا مجتمع «بارد»!، مجتمع تتقلص فيه مساحة الآخر (المرأة) الذي يتشابك فعلها الاجتماعي مع غيرها من (الرجال) ويشكل معه واقعاً متماسكاً، فالمجتمع السلطوي الذي يرفض الفكر النقدي وينظر لأفراده كآلهة، تصبح فيه لا القوانين ولا الأساطير ولا سلطة القادة يمكن أن تكون موضع اتهام!!، هل يحدث هذا لأننا مصابون بالفصام، وهو ضياع «أناتنا» عن الاتصال بالواقع؟، الواقع بحقيقته، الواقع بمعارفه وأصول مبادئه، أمن قانون طبيعي يمنح البعض صفات اجتماعية خاصة، ويرفض منح الآخرين ذات الصفات بسبب أفعالهم؟، إن الطبيعة محايدة لا تفرق بين رجل وامرأة..
في الهيمنة الذكورية المفترضة:
إذا حاولنا تحديد إجرائي لمفهوم الهيمنة نجد أن العنصر الذي يرتكز عليه هو التسلط والإكراه، فالهيمنة تعني فرض ثقافة معينة من المتسلط على المتسلط عليه بشكل ظاهر أو خفي. وإن كنا لنختلف حول تسمية الهيمنة بالفعل الثقافي لأن ذلك سوف يدخلنا في قضايا الجدل الذي يحمل عناصر تفكير مثالية وأشكال غالبها توفيقية، فالثقافة بعد عولمة الأسماء والأشياء صارت تعرف فقط عبر المصدر المهيمن والذي يسعى بإرادة وبدونها إلى ضرب ولنقل تضييق مجال العمل للثقافات القومية فقد أصبح الشغل العالمي الآن هو سيادة نموذج واحد للتفكير (وهو تحرير المرأة!) لم أفهم حتى الآن تحريرها من ماذا! وكيف؟، ونشر قيم إنسانية معينة عميقة وفي ذلك تعطيل المعقول في ثقافة معينة عن الإبداع .ولكن هل يسمح لنا التفكير بأن الطبيعة البشرية لا تتغير؟ أو لا تتأثر؟
إن نزاهة النساء تكمن في تقبلهن الوضع الاجتماعي كما هو، ونزاهة الرجال تتجلى في التصرف وفق أفق معتدل، فمجتمعنا السوداني اليوم، يحترم المرأة، وقد جفت ينابيع الشبق في أدبياتنا، إلا أللهم من ينظر إلى الأدب باعتباره شيء يماثل الواقع ولا يمثله، والمطلوب من المثقف رجل أو امرأة، أن يتنزه عن إعادة تدوير مقولات غريبة، تتمثل في شطط الجنادرة الجدد، المنادون بالمساواة المطلقة، لا يمكن حدوث ذلك، فالمطلق لا مكان له على الأرض!، أو الدعوة إلى حرية الإجهاض، لو وضع من ينادي موضع المولود الموؤد لامتنع بل لاشتكى، والحرية الجنسية فراغ يحميه التوسل الزائف بالثقافة الغربية، التي تعود الآن إلى الروحانية، وبذات المنطق المنادي بالمساواة المطلقة بين الرجال والنساء، فإن عليه أن ينادي بالمساواة المطلقة أيضاً بين الرجال أنفسهم، وبين النساء أنفسهم، فمن يفعل ذلك، يستحق لقب «المجندر الخارق»!!..
غسان علي عثمان
الأحداث