مهم جداً ألاّ يخطئ القذافي في قراءة ما تمكَّنَ الرئيس عمر البشير من تحقيقه.. الثورات العربية وإستراتيجية خروج الأنظمة

راغدة درغام

إبرة البوصلة السياسية لدى القيادات العربية، التي يتحداها شعبها، تميل كعادتها لصالح النظام على حساب الدولة. الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي خُلِعَ من منصبه، وَضع دوماً النظام فوق البلاد والناس، فكلّف شعب العراق غالياً، بقمعه وباستدعاء الحروب الى العراق. في نهاية المطاف، شهد له التاريخ، ليس فقط للفشل الذريع، وانما سجلّه طاغيةً سخّر الوطن لخدمة طموحاته وأوهامه.

الرجال الذين يتمسكون بالسلطة بأي ثمن في المنطقة العربية، يغامرون بمصير مشابه إذا لم يستدركوا ليضعوا الوطن والدولة فوق النظام وقبله. أولى خطواتهم الخاطئة أتت في شكل التحايل على الإصلاح، عندما قرعت الشعوب طبوله عالياً. في البدء صمّوا الأذان، ثم تظاهروا بالإصلاح بعد فوات الأوان. اليوم، أمام هذه القيادات خيار وحيد يتمثل في تلبية مطالب الشعب، عبر إستراتيجية خروج لائق للقيادات، كي يتجنب هؤلاء القادة الإذعان والخضوع لإستراتيجية إخراجهم من السلطة بطرق غير لائقة. أمامهم الإقرار بأن منطق «الأنظمة أولاً» تصدَّعَ جذرياً، ولا عودة الى الوضع الذي ساد قبل فورة الربيع العربي. إذا أقرّ هؤلاء الرجال بهذا المنطق الواضح، سيجدون ان هناك أكثر من وسيلة لإنقاذ أنفسهم من مصير وسمعة وتاريخ مظلم، شرط أن يسلّموا أولاً بوضع الوطن والدولة فوق النظام وقبله.

ما يحدث في ليبيا واليمن وسورية يُنذر باستعداد القادة لتقبل اضمحلال الدولة والوطن، إنما ما تفيد به المؤشرات الواقعية على الأرض هو ان اضمحلال النظام في هذه الدول بات أمراً مؤكداً لا يتجاهله سوى أرباب الأنظمة.

لا عيب في الاستدراك لمصلحة البلاد، وتجنباً للمزيد من سفك الدماء، فالخروج عبر إستراتيجية الشراكة، في وضع الوطن فوق النظام، يضمن قدراً من الاحترام للذين يستدركون ويعدّلون مواقفهم.

هذه الإستراتيجية مازالت معروضة على الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، بالرغم من إصراره على التلاعب بها أكثر من مرة، وبثمن باهظ لليمن. قد يعتقد علي عبدالله صالح أنه صمام الأمان لوحدة اليمن، ولكن واقع الأمر هو أنّ تعنته وتصرفه على أساس «امتلاك» السلطة والبلاد والوطن، يهدد بتقسيم اليمن الى دولتين. هدر الفرص المتاحة يتكرر بكلفة عالية تقبض على مستقبل ملايين اليمنيين لأجيال مقبلة. وحتى ان لم يكن علي عبدالله صالح وحده المسؤول عن تدهور الأوضاع، فهو الرجل الذي يزعم انه أبو البلاد، فيما يتصرف عملياً وكأنه سيّدها.

الذبذبات التي يتلقاها من واشنطن لا تفيده، سيما إذا قرأها بأنها طمأنة له بعودة المياه الى مجاريها بعد العاصفة. الأفضل لإدارة أوباما إيضاح نفسها بلا ذبذبات، لتعين اليمن وتعاون علي عبدالله صالح على التوصل الى الاستنتاج الذي لا غنى عنه، وهو انه حان وقت الرحيل حقاً، فهكذا قد يقتنع بوضع الوطن فوق النظام وقبله.

الرحيل بنوع من السلامة ما زال متاحاً أيضاً أمام معمر القذافي، حيث النظام يستغرق في محاربة الشعب في جميع أرجاء ليبيا، ربما باستثناء طرابلس. ما يزعمه الرجل، الذي حكم ليبيا لأربعة عقود وهدر أموال الشعب ليكون مَلِكَ ملوك الأفارقة، هو انه رجل بلا منصب، برغم إغراق نفسه ببحر من الألقاب.

رفضه التنحي ينبع من اقتناعه بأنه يمتلك ليبيا، وله صلاحية الملكية القاطعة. ما أبلغه الشعب الليبي الى معمر القذافي هو انه ليس مستأجِراً في أملاك القذافي ولا هو مجرد ساكن في داره، أبلغه ان الوطن للشعب والدولة للشعب، وان عهد امتلاك النظام للناس والوطن قد انتهى.

أكثر ما يمكن ان يحققه القذافي اليوم هو سفك المزيد من الدماء للحؤول دون سقوط النظام، وقد يعتقد ان تقسيم ليبيا أفضل له من خسارة السلطة، وان النظام باقٍ طالما مانَعَ.

هذه أوهام. هذه أوهام السلطة والزعامة المطلقة التي اعتادها مثل هؤلاء الحكام، فلقد فات الأوان على النظام مهما طالت معاناة الشعب الليبي. ولا بد من أن يدرك معمر القذافي وأبناؤه ذلك، وبالذات سيف الإسلام، الذي أخفق في التقاط فرصة تاريخية لليبيا ولنفسه، عندما اتخذ القرار الخاطئ. لا بد من أن تمر في باله مراجعة النفس ومحاسبتها على الخطأ التاريخي، لا بد ان يقلق، ويندم.

ما يجدر به وبأبيه الآن، هو التقاط فرصته الأخيرة للشراكة في إستراتيجية التنحي بدلاً من المكابرة والعناد الى حين تداهمهما استراتيجية الإخراج بالقوة. هناك جهود دولية تُبذل في اتجاه توفير عربة السلامة إذا اقتنع القذافي حقاً بأن لا مجال أمامه سوى التضحية بالزعامة والنظام، وليزعمْ عندئذ، كما يشاء، انه هو الذي اقتنع أخيراً بوضع الوطن فوق النظام وقبله، وأنقذ ليبيا.

مهم جداً ألاّ يخطئ القذافي في قراءة ما تمكَّنَ الرئيس السوداني عمر البشير من تحقيقه، بالرغم من انه مطلوب أمام العدالة الدولية بموجب مذكرة توقيف صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية. صحيح ان البشير مازال في السلطة، وان قادة الصين يستقبلونه رئيساً، وقيادات الغرب تجلس في القاعة لتستمع اليه وهو المطلوب أمام العدالة بقرار منها، لكن الصحيح أيضاً هو ان البشير كان مساهماً أساسياً في «الشراكة» التي أسفرت عن انفصال جنوب السودان واستقلاله. لقد دفع انفصالَ نصفِ البلاد من أجل بقاء النظام، فوضع النظامَ فوق وحدة البلاد. هذا جزء من سيرته التاريخية، ذلك ان الجزء الآخر ما زال باقياً، وهو ان عمر البشير ما زال مُطارَداً ومطلوباً أمام العدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد جزء من شعبه، فيا لها من كلفة عالية دفعها السودان وشعبه حتى الآن من أجل بقاء نظام واستمراره على حساب الوطن.

الصين والأفارقة وفّروا غطاء الحماية للنظام السوداني، تماماً كما تقوم روسيا والأفارقة بتوفير الغطاء للنظام الليبي، لكن الفارق هو ان روسيا والصين مضطرتان الآن للتعاون في الشأن الليبي، حيث مصالحهما محدودة، فيما يجد الكثير من الأفارقة أنفسهم في «دين» للقذافي معنوياً ومادياً.

إنما في نهاية المطاف، ليس أمام القذافي «نموذج» البشير ليقتدي به، ليس فقط لأن حلف شمال الأطلسي (ناتو) دخل طرفاً في النزاع في ليبيا، وانما أيضاً لأن معمر القذافي لا يمتلك اليوم ما امتلكه عمر البشير بالأمس ليقدّم نصف البلاد ثمناً لبقائه في السلطة، فحتى تقسيم ليبيا لن يضمن بقاء القذافي ونظامه، فالأفضل له ان يقرّ بأن لا مناص من التنحي، وأن أفضل السبل المتاحة أمامه هو الشراكة في إستراتيجية التنحي بدلاً من شراكة مفلسة في إستراتيجية تقسيم ليبيا.

الأفضل للقيادة السورية أيضاً أن تقرأ جيداً العناوين على الجدران، كي لا تنساق وراء الأوهام وتخطئ خطأ ذريعاً، فلا الولايات المتحدة او أوروبا ستتراجع عن معارضة القمع وممارسة الضغوط وتصنيف النظام «غيرَ شرعي» بعدما سقط 1500 شخص ضحية، ولا روسيا والصين وإيران ستنجح في كسر العزلة التي تطوّق النظام في دمشق.

إقدام الرئيس بشار الأسد على المبادرة الى وضع الوطن والدولة فوق النظام، سيسجِّل له سابقة وسيرة تاريخية غير تلك التي رافقت الرجال الذين وضعوا النظام فوق الوطن والدولة وقبلهما. الفرصة متاحة له أيضاً، عبر الشراكة في إستراتيجية الخروج بدلاً من الخضوع أمام إستراتيجية الإخراج.

إدارة أوباما ساهمت في الإيحاء للقيادة السورية بأنها ليست متحمسة للوقوف ضدها، وأن هناك ربما مساحة لاحتمال التعايش مع بقاء بشار الأسد في السلطة، شرط «تعديله» النظام. استمر هذا الوضع حتى هذا الأسبوع، عندما غضب الرئيس باراك أوباما من الهجوم على السفارتين الاميركية والفرنسية احتجاجاً على زيارة سفيري البلدين الى حماة، في خطوة اعتبرها النظام ضده لصالح المتظاهرين الذين يريدون الاطاحة به.

الهجوم على السفارتين أسفر عن تغيير واضح في المواقف الأميركية، حيث جاء على لسان أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون استخدام تعبير «افتقاده الشرعية»، في وصف بشار الأسد، وبإبلاغه بأن عليه عدم التوهم بأن «لا استغناء» عنه لدى الإدارة الأميركية.

هذا يعني ان أي تردد من واشنطن في السابق زال، وان الدول الأوروبية التي تقود عملية عزل النظام السوري حذفت «عرقلةً» – لربما كانت حقيقيةً أو في مخيلة القيادة في دمشق ? هي عرقلة التردد الأميركي في الحزم مع النظام.

فالطوق يزداد خناقاً، وفرصة الشراكة في فك الخناق متاحة فقط من أجل فك الخناق عن الوطن والدولة في سورية، وليس من خلال وهْم فك حبال العزل من أجل بقاء النظام وعودة المياه الى مجاريها.

إبرة البوصلة لدى القيادات العربية التي أبلغتها شعوبها، بحقها في تقرير مصيرها، قد تبقى ثابتة على الأوهام. انما هناك خيار آخر، إنه خيار الشراكة في وضع البلاد فوق الأنظمة.

"الحياة "

تعليق واحد

  1. وانما أيضاً لأن معمر القذافي لا يمتلك اليوم ما امتلكه عمر البشير بالأمس ليقدّم نصف البلاد ثمناً لبقائه في السلطة،…….. في ذمتك يا مدام راغدة يا درغام …… إنتِ بتفهمي كيف البشير لم يتبرع بنصف بلاده ثمناً لبقائه حرام عليك ….. سوف تحاسبين يوم القيامة على هذا الموضوع ……. اتفاقية نيفاشا هي التي أقرت بعمل استفتاء لجنوب السودان والجنوبيون أيدوا الانفصال بنسبة 98% ….. والبشير هل كان عليه إلغاء الانتخابات ؟ وماذا عساه أن يفعل ؟؟؟؟؟؟

  2. البشير لم يقدم الجنوب قربان للاحتفاظ بالكرسي وده تحليل فطير وفعلا سماحة جمل الطين ياراغده دراغام
    الجنوب كان حيتفصل في كل الاحوال في عهد شمولي او دديمقراطي سواء ان اعطيناهم منصب رئيس الجمهوريه ام لم نعطهم حتي لوكنا قبلنا اقدام الجنوبيين برضو كانوا حيتفصلوا
    المستعمر البريطاني قام بتركيب بلد من وحي خياله بوضع اعتبار للجغرافيا اكثر من الديموغرافيا ولم يراعي للبعد الاثني والتباين الثقافي ونحن الان نشهد عمليه تحلل كيميائي لتلك التركيبه الكتشنريه الوهميه وده الواقع ولازم نخرج منه كشماليين باقل الاضرار والمال تلته ولا كتلته
    اما بخصوص الشهيد البطل صدام حسين فاعتقد ان استهداف العراق سببه معروف للجميع وامثالك وامثال جهاد الخازن يخدمون مصالح امريكا فقط

  3. تحليل سمج وغير مقنع وفيهو الكثير من الاخطاء التاريخية والانية فالعرب كلهم بدون استثناء يجهلون تاريخ السودان ومالات الاوضاع فيه وماهي حقيقة مشكلة الجنوب والذي ادي الى انفصال الجنوب فاذا كان شب السودان بمختلف انتمائته السياسة والعرقية شابه شي من الحزن الا ان الدواخل فى نفوس الكل كانت تعمل علم اليقين انو الانفصال هو العلاج المتبقي الوحيد لانهاء هذه الحرب اللعينة التى اقعدت بالبلاد والعباد من اي تقدم

  4. الاخت /كاتبة المقال
    راغدة درغام

    مقالك جيد ورصين في تشبيه ووصف حالة الزعماء العرب من ربيع الثورات العربية التي اجتاحت كثير من البلاد العربية بعضها حقق النجاح وغير النظام وعضها علي الدرب ساير ــ لكن وصفك للحالة السودانية وتشبيه حالة الرئيس البشير ومعمر القذافي فهنا مفالك افتقد للموضوعية وذالك للاسباب الاتية
    1ـ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان اتفق عليه في العام 2003اي قبل تفجر ازمة دارفور وهو حق اعطي لشعب جنوب نتيجة لحروب طويلة قادهاالشمال والجنوب ـ وحق تقرير المصير هذا هو محل اجماع من معظم القوي السياسية حيث وافقت احزاب المعارضة في مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية في العام1995 علي منحه لابناء الجنوب
    2ـ احالة ملف دارفور الي المحكمة الجنائية من مجلس الامن كان في العام 2005وصدور قرار الاتهام بحق الرئيس البشير كان يونيو 2008 وتحديد التهم كان في بداية العام 2009
    3ـهذا التباعد الوقائع والتواريخ يثبت بما لايدع مجالا للشك بعدم وجود صفقة بين انفصال الجنوب واتهام الرئيس البشير من قبل المحكمة الجنائية ذات الصبقة السياسية التي تناي بعيدا عن تحقيق العدالة والا كان لها دور في جرائم اسرائيل وجرائم القوات الامريكية في العراق
    4ـ بقاء الرئيس البشير في السلطة هو نتيجة لتفويض انتخابي منحه له شعبه ينتهي في العام 2015
    5ـ انفصال الجنوب هو تنفيذ لحق تقرير المصير ـ والرئيس البشير اةفي بعهده في ما التزم به في اتفاقية نيفاشاباحترام ارادة الجنوبين في الوحدة او الانفصال

  5. يعني ببساطة االقذافي دكتاتور لكنه ليس عميل وخائن وغبي وبليد كالبشير بائع وطنه وعرضه هذا هو الفارق بين الإثنين

  6. والله يا المدعو أبو علي انته ما عارف أي حاجة غير الكذب والنفاق تصدق انته أغبى من البشير وعبد الرحيم أب رياله

  7. ملحوظة هامة: دائما من يعلقون بوجهات نظر معارضة للنظام يستخدمون الفاظ نابئة وخارج عن الذوق والادب مما يدل على غياب الحجة والمنطق_ خذ مثال المدعو ابو الشوش في تعليقه على المدعو ابو علي هذا الاخير ذكر وجهة نظره بمعلومات- نتفق او نختلف معه فيها- لكن بلغة ومفردات مهذبة………..بدينا نصدق في ان كل من ينشدون التغيير انما في نيته اشاعة الفاحشة من خلال الممارسة وبذئ القول

  8. لماذا تم تهكير سودانيز اون لين ؟
    معظم الصحف الالكترونية تنشر مقالات وتعليقات ضد حكومة السودان ولم تتعرض للتهكير ذلكم لان اجهذة الامن تعتبر ان هذا شئ مفيد لهم لانه يؤدي الي التنفيس عن الاحتقان الشعبي وبالتالي لا يحدث الانفجار ويعود السؤال المطروح بصيغة أخري وهو ماذا فعلت سودانيز اون لين ليتم تهكيرها ؟
    لقد طرحت استفتاء للرائ العام في من هم سبب ان يكون السودان رجل افريقيا المريض ؟ وجائت النتيجة لتحمل لنا ان اكثر من ثمانون بالمائة قالوا ان الاخوان المسلمين هم السبب وهذا الامر يدمر التيارات الاسلامية المتطلعة للحكم في الوطن العربي ولذلك تم تهكير الموقع لدفن هذه الحقيقة فارجوا من الجميع العمل علي نشرها في كل منبر متاح حتي نعبر جميعا من عنق الزجاجة للحرية:mad: 😡 😡 😡

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..