السؤال الصعب

*(عندما تنهار الدول يكثر المنجمون
والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون وتعم الإشاعة
وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوش الفكر..).
-ابن خلدون-
.. قال له مَنْ أنت؟ فاجأه السؤال، مع أنه اعتاد على أسئلة غريبة عجيبة من هذا الرجل. فأجابه أنا وائل. قال لو سألت أي طفل لأجابني هذا الجواب. أما أنت الذي تقرأ الكتب وتتابع نشرات الأخبار، فتعطيني هذا الجواب؟
ومع ذلك يا وائل. هذا اسمك، وليس أنت. قال أنا.. لكن الرجل قاطعه فكر يا بني جيداً. وغداً أنتظر منك الجواب.
في اليوم التالي كرر الرجل سؤاله. أجاب الفتى أنا جسمي. وأشار بكلتا يديه إلى جسده. قال الرجل يا بني جسمك يحتاج إلى غذاء صحي، وماء نقي، ومسكن مريح، وبيئة نظيفة، ورعاية صحية ودواء ورفاهية، فهل هذا مؤمَّن له؟ أعرف أن الجواب لا. ومع ذلك فجسمك هو جسمك، وليس أنت. أراك غداً.
في الغد كرر الرجل السؤال. وبثقة قال الفتى أنا نفسي، أي ذاتي. قال الرجل النفس أو الذات يجب أن تكون حرة حتى يتكنى بها الشخص.
فهل أنت حر حتى تمتلك نفساً حرة؟ أنت يا بني تخاف من أبيك ومن المجتمع ومن الشرطة ورجال الأمن، وأنت عبد للتقاليد والأعراف. لا تتجرأ أن تعلن عن أفكارك أو تصرح بآرائك. ومع ذلك، ليس هذا هو الموضوع. فسؤالي هو من أنت؟ فذاتك هي ليست أنت، بل هي ذاتك. إني منتظر جوابك في الغد.
في تلك الليلة أخذ السؤال منه وقتاً ليس بالتقصير. فالأمر ليس بالبساطة التي توهمها. وفي الغد عندما التقى الرجل بادره هذا بسؤاله هل عرفت يا ابن أخي من أنت؟ قال نعم. أنا كرامتي وعزة نفسي وما أحمل، قاطعه الرجل كرامتك ليست أنت. ثم أية كرامة هذه التي تتحدث عنها وأنت تنتمي إلى أمة تغنى بها أسلافك، وأنت ومن حولك تتغنون بها. فانظر إلى ما آلت إليها تلك الأمة، فهي ممزقة ومشرذمة تعاني تسلط حكامها، وتبعية معظم أقطارها للخارج. ومن هيمنة نظام يدعي التدين ويمتهن الكذب والخداع ويعمل على تزوير إرادة الشعب، ومن إملاءات لا انزل الله بها من سلطان. ومن التفقير والتجويع والتجهيل وسلب الحرية. فعن أية كرامة أو عزة نفس تتحدث. لا علينا يا بني. فكرامتك هي كرامتك وليست أنت. فهل تستطيع أن تجيبني من أنت؟ سأنتظر يوماً آخر.
وبينما كان يفكر في تلك الليلة بالسؤال الصعب، خطر بباله جواب علّه يرضي سائله. في اليوم التالي عندما قابل الرجل أجاب بتردد أنا أفكاري وانتمائي، أقصد المبادئ التي ناضلت لأجلها وسعيت لتحقيقها. قال الرجل يا فتى، هل الشعارات والأيديولوجيات لعبت برأسك الصغير؟ لا بأس، لن أناقشك في هذا. فجيلنا حمل تلك الأوهام في رأسه معظم عمره، إن لم أقل عمره كله، ولم نحصل إلا على الخيبة والإحباط. وإن كنت أرى وآمل أن جيلكم أنتم قد يحقق ما عجزنا عن تحقيقه. لكن مبادئك وقيمك ليست أنت. فكر جيداً. وعسى أن توفق بالإجابة. فإلى الغد.
لم ينم الفتى في تلك الليلة وهو يفكر في السؤال الذي أصبح هاجسه. وفي اليوم التالي التقى الرجل، فبادره بالاعتراف أنه قد عجز عن الوصول إلى معرفة من هو. وقال له عمي، عليك الرسول قل لي من أنا؟ وأرح رأسي من هذا الهم.
ضحك الرجل وقال منذ سنوات وسنوات وأنا أسأل نفسي. هذا السؤال الصعب!
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أستاذ ودكتور في الكتابة الرصينة والمسؤولة فأي صحفي قبل ان يكتب من المفترض ان يقرا مقالاتك ويحفظها عن ظهر قلب ثم يتجرأ بعدها.
    لك التحية يا العقوبابي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..